ظهر يوم الثلاثاء 30 تموز 1968 والشمس ترسل أشعة محرقة، كانت أرتال الدبابات تمرق بسرعة كبيرة في بعض شوارع بغداد، وخاصة باتجاه معسكر الرشيد ومعسكر الوشاش، ومنطقة كرادة مريم حيث يوجد القصر الجمهوري ومبنى الإذاعة والتلفزيون، ثم تأخذ مواضع لها في المناطق الحساسة ولتفرض وضعا جديدا لم يكن بالإمكان تجنبه، بدأت الشوارع تغص بالدبابات من كل الأنواع لتضيف لشمس بغداد الحارقة جوا سياسيا ساخنا وغامضا على الأقل لدى المواطن البسيط، الذي عقدت لسانه الدهشة مما وقع قبل ثلاثة عشر يوما، ولم يكد يصحو من آثاره إلا وعاجلته ضربة أخرى كادت تطيح بما تبقى لديه من وعي وإدراك، بل تحمل لوقع الصدمة النفسية التي يثيرها منظر الدبابات التي اقتناها العراق كي تدافع عن حدوده وسيادته واستقلاله ووحدة أراضيه، هذه المرة ليست الدبابات أو الجنود وحدهم من نزل إلى الشارع بل هناك آلاف من المدنيين ومن أعمار مختلفة أغلقوا الشوارع، بعضهم كان مسلحا والكثير منهم كان عُزلا، إلا من دافع داخلي وقوي يسحبهم نحو واجب غير موصوف على نحو دقيق.
ما وقع ظهر يوم 30 تموز يشكل واحدة من أخطر المحطات التي مر بها العراق ونظام حزب البعث العربي الاشتراكي، قال لي السيد صلاح عمر العلي عضو القيادة القطرية يوم التنفيذ، في حديث خاص من أجل توثيق تاريخ الثورة وما بين 17 تموز و30 تموز عام 1968، (إن الرئيس البكر رحمه الله وفي يوم 20 تموز 1968 وحين كان مجتمعاً مع النايف في مكتبه بالقصر الجمهوري وبحضور السيد صلاح عمر، طرح فكرة انضمام النايف للحزب فقال وبكلمات بسيطة نحن كما ترى عملنا معاً ووصلنا إلى الحكم، ونعتقد أن استمرار تعاوننا مطلوب لإنجاح التجربة، وها أنت ترى هؤلاء الشباب المتحمسين الذين لا يكلّون من العمل، ونحن نعتمد عليهم في المفاصل الأساسية لتجربتنا الجديدة، وأنت تعرف أنهم بعثيون، لذلك أدعوك إلى الانضمام إلينا في الحزب فماذا ترى؟) أجاب النايف (لقد كنت محرجا من طرح هذه الفكرة لأنها لو طرحت من قبلي، كان يمكن أن تفسر تفسيرا خاطئا وطالما أنك طرحتها فأنا أرحب بها وأعلن استعدادي لها والعمل في صفوف الحزب)، فقال له البكر، (حسنا تعرف أنني مشغول بصفة مستمرة وأنت تثق بالرفيق صلاح، فماذا تقول لو أنه يكون صلة الوصل بيني وبينك؟) وافق النايف على هذا المقترح أيضا.
لذلك عندما عقدت القيادة القطرية للحزب أول اجتماع بعد الاتفاق الأخير طرح البكر موضوع القرار السابق الذي كانت قيادة الحزب قد اتخذته للتخلص من مجموعة النايف بأسرع وقت ممكن، فقال إن الحزب جاء للحكم مرة أخرى، بعد تجربة مرّة كان قد خاضها بعد ثورة 14 رمضان (8 شباط 1963)، وإننا يجب أن نعمل على كسب الشعب إلى جانبنا إذا أردنا النجاح، لذلك أطالبكم أيها الرفاق بغض النظر عن القرار السابق بالتخلص من النايف، وذلك بمنحه ومجموعته فرصة لكي يؤكد هو لنا حسن نيته، ونؤكد نحن للشعب أننا جئنا بعقلية جديدة ونهج جديد، وافق الجميع على ما طرحه الرفيق البكر أمين سر القيادة القطرية للحزب، على الرغم من عدم الثقة بمجموعة النايف، بسبب روح المغامرة التي يتصف بها الرجل، ولم تكد أربعة أيام أخرى تمضي، إلا ودعا البكر لعقد اجتماع طارئ للقيادة القطرية للحزب، فذكّر بما قاله في آخر اجتماع للقيادة واستدرك قائلا، أنا الآن أطلب منكم سرعة التخلص من النايف، لأنه بدأ يتحرك على عدد من الضباط الذين لا يعرف أنهم بعثيون، وأخذ يثقف ويعد العدة للتخلص من الحزب، فقد أوصل كثير من رفاقنا معلومات دقيقة حول مساعي النايف واتصالاته بهم، وقال الرئيس البكر اجتمعوا في مكان آخر وتدارسوا خطة الإطاحة بهم، ولا ينبغي أن نجتمع في مكان واحد كي لا نستهدف جميعا بضربة واحدة، أضاف السيد صلاح عمر العلي في حديثه معي، لقد اجتمعنا في منزل الفريق الركن صالح مهدي عماش في شارع الضباط في الأعظمية، وتم في ذلك الاجتماع وضع خطة التخلص من النايف وإبراهيم عبد الرحمن الداود، بعد تهيئة مستلزماتها الفنية والأمنية لتتم من دون خسائر، وقد تم إعداد سيناريو مدروس لهذا الغرض، يبدأ بطرح فكرة أن وجود ثلاث فرق عسكرية عراقية في الأردن لا بد أن يدعونا إلى إرسال وفد إليها واللقاء بقياداتها وضباطها وجنودها وسنقترح أن يذهب وفد برئاسة رئيس أركان الجيش الفريق الركن الطيار حردان التكريتي، وقدّرنا أن وزير الدفاع الفريق إبراهيم عبد الرحمن الداود سيحتج على ذلك، وسيطلب بأن يكون الوفد برئاسته لأنه وزير الدفاع وليس الفريق حردان، بحكم معرفتنا بطريقة تفكير الداود، فعلا كان ما وقع هو نفسه الذي توقعناه، وتشكل الوفد برئاسة الداود وتقرر أن يغادر إلى الأردن وفي اليوم نفسه ستتم عملية التخلص من النايف والداود في يوم سفر الأخير.
ويضيف السيد العلي (كنا طيلة الأيام التي أعقبت 17 تموز، نتناول طعام الغداء بعد الاجتماع في القصر الجمهوري، وبعد أن ننتهي من كل شيء، يختلي رئيس الجمهورية برئيس الوزراء في مكتب الرئيس للتداول في شؤون الدولة وقضاياها المختلفة والتطورات السياسية وانعكاساتها على العراق بعد التغيير، وبعدها يتوجه رئيس الوزراء إلى مكتبه في بناية المجلس الوطني).
صدرت في ذلك اليوم الأوامر للواء المدرع العاشر بالتحرك السريع لدخول مدينة بغداد، وكان اللواء المذكور يرابط بالأصل في منطقة الورار قرب الرمادي، ولكنه تحرك وعسكر في منطقة أبو غريب منذ 17 تموز، وخاصة أن الكثير من الضباط البعثيين من ذوي الرتب الصغيرة كانوا قد انفكوا من وحداتهم التي نقلوا منها بأوامر هاتفية من رئيس أركان الجيش الفريق الركن حردان التكريتي رحمه الله، والتحقوا بوحداتهم الجديدة في بغداد، بعد أن استكملت خطوات السيطرة على الموقف، اتصل الرئيس البكر بقائد القوات العراقية في الأردن، العميد الركن حسن مصطفى النقيب، وبعد حديث عن وضع القطعات ومعنوياتها واحتياجاتها، وحيث كان الخط ساخنا بين الرئيس وأحد قادة جيشه، تحول الحديث نحو مسار آخر، فقد قال البكر للنقيب سيصلكم اليوم إبراهيم الداود، أنا أبلغك بأن تلقي القبض عليه وتسفره إلى أي مكان، هنا تعثرت المكالمة إذ قال النقيب إنه لم يعد يسمع شيئا مما يأمره به قائده، كرر البكر نقاطه مثنى وثلاث ولكن النقيب لم يشأ سماع ما لا يرغب بسماعه، أو لا يستطيع تنفيذ ما أمره الرئيس به، هنا غضب البكر فقال للنقيب أنا متأكد أنك سمعت ما قلت لك تماما، ولكن أمراً كالذي أمرتك به يحتاج إلى رجال من طراز خاص، فتم إرسال فريق مكلف بالمهمة التي عجز عن تنفيذها العميد النقيب.
في ظهيرة قائظة كانت درجات الحرارة قد فاقت السبعين تحت الشمس، جاء عبد الرزاق النايف إلى مبنى القصر ترافقه قوة حماية تزيد على ثلاثين جنديا مدججين بالسلاح، نزل النايف من سيارته ودخل القصر مسرعا للتخلص من سموم بغداد اللاهب، وهو مطمئن أن حمايته سيلحقون به كما كان يحصل في كل يوم، ولكن تعليمات جديدة كانت قد صدرت لموظفي الاستعلامات في القصر وهم من الضباط البعثيين، بعدم السماح بدخول المسلحين بأي حال إلى بناية القصر، خيّر الحراس بين الدخول عزّلا حيث تكييف الهواء المريح والعصائر التي تعودوا عليها خلال الأيام الماضية، والخدمات التي تقدم لهم في الداخل، أو البقاء في الهاجرة حيث نيران الشمس المحرقة التي ترسل أشعتها كالسيوف الجارحة بلا رحمة، لتمزق الوجوه الحائرة والنفوس القلقة، ولما وجدوا إصراراً على تنفيذ هذه التعليمات من قبل المسؤولين عن حرس الباب الرئيسي، لم يجدوا خيارا آخر فسيدهم الذي دخل أروقة القصر هو الآن في حرز مكين من كل مكروه، سلموا أسلحتهم بهدوء وجلسوا في قاعة الاستعلامات التي تحولت بعد بدء تنفيذ الصفحة الأولى إلى حجز مؤقت لهم، فهم بلا جريرة لأنهم يؤدون واجبا رسميا من دون زيادة أو نقصان، وحينما تنجز المهمة المحددة هذا اليوم سيطلق سراحهم ويعودون إلى وحداتهم السابقة.
بدأ الاجتماع في القاعة الرئيسة في القصر برئاسة البكر، بغياب إبراهيم عبد الرحمن الداود والذي سافر لتفقد القطعات العراقية في الأردن، وبعد انتهاء الاجتماع وتناول طعام الغداء ذهب الرئيس البكر والنايف إلى مكتب البكر ومعه الفريق صالح مهدي عماش، وعلى حين غرة دخل الشهيد صدام حسين وصلاح عمر العلي وبرزان التكريتي وجعفر الجعفري، وكل منهم يحمل بندقية كلاشنكوف، قال صدام حسين بلغة حازمة لا تقبل أي تأويل (عبد الرزاق النايف أنت مقبوض عليك لأنك تآمرت على الحزب الذي خطط لثورة 17 تموز ونفذها من أجل رفعة العراق والأمة العربية، ولكنك وضعت نفسك رأس حربة في خطة إفشال الثورة بعد أن تسللت إليها في وقت حرج للغاية)، ربما لم يكن النص بهذه الكلمات والترتيب وربما قيلت باللهجة العراقية الدارجة، وربما كانت النفوس في أقصى درجات التوتر والشد العصبي، لأن الوقت كان فاصلا لكل من طرفي الصراع بين حياة جديدة أو موت طبيعي أو سياسي، وربما المنتصر هو بنفس درجة الشد العصبي مع المهزوم، وقد يفوقه في ذلك أحيانا، لذلك لم يكن ممكنا الاحتفاظ بنص ما جرى يوم ذاك، لكن هذا المعنى هو أقرب ما نقل لي، استنادا إلى شهود عيان حضروا الواقعة في مسرح الحدث، تحركت يد النايف نحو مسدسه ولكن صدام حسين وصلاح عمر كانا يقظين تماما، تقدما نحوه بسرعة وأمسكا به بإحكام وسحبا منه مسدسه، كان البكر مطرقا برأسه ولم ينبس ببنت شفة ليداري ما كان يستشعره من حرج، أما الفريق صالح مهدي عماش فتمتم بكلمات تدعو لحل المشكلة بالتفاهم، على الرغم من أنه مطلع على تفاصيل الخطة المعدة للتخلص من النايف.
استسلم الرجل بسهولة تامة، بعد أن أدرك ألا جدوى من المقاومة، وقال بلهجة فيها رجاء حار بعدم قتله، عندي أولاد، رد عليه صدام حسين لا تخف شيئا أنت آمن إذا تصرفت بحكمة وخاصة بعد إخراجك إلى المطار، عندما نخرج في طريقنا إلى المطار عليك أن تتصرف وكأن شيئا لم يتغير بالنسبة لك، رد التحية للحرس كرئيس للوزراء، وإذا بدر منك شيء مخالف لذلك فقد لا نستطيع ضمان حياتك، قررنا تسفيرك خارج العراق، فأين تريد الذهاب؟ خضع لتدابير القبض عليه، وقال إلى لبنان قال له صدام حسين لا، قال حسنا الجزائر قال له كلا، قال حسنا المغرب قال له نعم، ولما تأكدت تهيئة الطائرة أخذ النايف ومعه مجموعة منتقاة من البعثيين المدربين، وكان على رأسهم صدام حسين وخرجوا من البوابة الخلفية للقصر الجمهوري كإجراء احترازي بصحبة عدد من المكلفين بهذه المهمة، والذين نقلوه إلى مطار الرشيد العسكري، ومن هناك وضع على متن طائرة عسكرية خاصة، وتم تسفيره إلى المملكة المغربية، رافقه خلال تلك الرحلة المرحوم برزان التكريتي والمرحوم جعفر الجعفري، كان هذا المشهد النصف الأول من خطة الإطاحة بالنايف، ولكن تفاصيل الخطة خارج القصر الجمهوري كانت ذات شأن آخر وتحتاج إلى أكثر من تحرك اثنين من الرجال، بعد ذلك غادر السيد صلاح عمر العلي القصر الجمهوري متوجها إلى دار الإذاعة للتمهيد لإذاعة بيان مجلس قيادة الثورة يوم الثلاثين من تموز.
في تلك الأثناء كان اللواء المدرع العاشر قد أكمل السيطرة على بغداد، بالتعاون مع قوات أخرى كانت تتواجد في العاصمة أصلا بما في ذلك قوات الحرس الجمهوري، وعلى وفق خطة الإنذار الحزبي فقد تدفق البعثيون المدنيون إلى المثابات المحددة لهم، يومها ذهبت إلى نادي الكرخ الرياضي في المنصور وهو المخصص لتجمع البعثيين في قاطع الكرخ، حيث تجمع المئات من البعثيين في غضون ساعة أو أقل من ذلك، كان هناك الرفيق المرحوم عزة الدوري والمرحوم علي عليان السامرائي والمرحوم نوري حمادي، وكل منهم كان عضوا في قيادة فرع بغداد للحزب، وكانوا يوزعون المهمات على الحزبيين الذين انتشروا في الساحات العامة وتقاطعات الطرق الرئيسة بكامل أسلحتهم، من أجل رصد الظواهر التي تجلب الانتباه، ما أن رآني المرحوم علي عليان حتى بادرني بالسؤال ماذا جاء بك هنا؟ اذهب إلى الإذاعة فورا، لم أناقشه على ما قال فالأصل في العمل الحزبي نفذ ثم ناقش وربما يصبح الأصل في هذه الظروف “نفذ ولا تناقش”، ذهبت من فوري إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، لم يكن قد أذيع شيء ينبئ العراقيين بما جرى فالدبابات تمسك بالميادين العامة والشوارع الرئيسة، كانت السيطرة محكمة على كل الزوايا والجهات في مدينة بغداد بل وحتى في أنحاء العراق.
دخلت الإذاعة بعد ثلاثة عشر يوما هي من أطول الأيام التي عاشها الحزب وأعضاؤه وجماهيره، ووجدت هناك البعض من رفاقي مثل السيد عبد السلام علي السلطان وعبد الجبار أحمد سلطان، وفي المساء حضر الرئيس الراحل أحمد حسن البكر ومعه الرئيس الشهيد صدام حسين الذي كان يرتدي الملابس الخاكية ويحمل بيده بندقية كلاشنكوف، إلى المبنى فألقى بيان مجلس قيادة الثورة بتطهيرها مما علق بها من جيوب، ويمكن النظر إلى هذا البيان على أنه البيان رقم واحد لثورة 17 تموز لأنه حدد مسارها وخطها الفكري والسياسي، ووقف وراء الرئيس البكر الرئيس الراحل صدام حسين رحمه الله والسيد إبراهيم الدليمي، الذي أصبح فيما بعد مرافقا للبكر ولزمن ليس قصيرا، لم يكن بيان الثلاثين من تموز يحمل الرقم هذا على أية حال، وتضمن البيان قرار حل الحكومة وإعادة تشكيل مجلس قيادة الثورة بصورته المعلنة من أحمد حسن البكر رئيسا وصالح مهدي عماش وحردان عبد الغفار التكريتي وحماد شهاب وسعدون غيدان أعضاء، وتم حل حكومة النايف وتشكيل حكومة جديدة برئاسة الرئيس الراحل أحمد حسن البكر رحمه الله، وتم اختيار المرحوم عبد الله سلوم السامرائي وزيرا للإعلام فيها، وعدت أنا وبعض البعثيين من العاملين في الوسط الإعلامي والقريبين من البعث، للعمل في مراقبة العملية الإعلامية في الإذاعة والتلفزيون، وتنفيذها أحيانا والتدخل لتصحيح بعض مساراتها، خاصة في وسط كان قد تعرض لتبدلات دراماتيكية خلال السنوات العشر الأخيرة وكان الدم مرافقا حاضرا في المشهد وللكثير من صفحاته.
2
في اليوم التالي للتحرك الذي أزاح مجموعة النايف وظهور الثورة بوجهها المعروف، أي يوم 31//7/1968 دعت قيادة الحزب وبتعليمات صارمة إلى القيام بتظاهرة تتوجه إلى القصر الجمهوري في كرادة مريم، عبر الشارع الرئيس الرابط بين جسر الجمهورية والجسر المعلق، تأييدا للثورة وابتهاجا بها، كان واجبي الحزبي يتحدد بمرافقة التظاهرة بسيارة بيك أب ومعي بعض البعثيين وكان بحوزتي مكبر صوت (لاود سبيكر متنقل) من أجل طرح الشعارات على المتظاهرين كي لا يحصل خروج على وحدة الخطاب السياسي فيها، فالحدث ما زال يتنفس نسمته الأولى ولم يبلغ سن الرشد، والاجتهادات كثيرة ومستوى الوعي بين البعثيين متباين وكذلك الحال بالنسبة للمواطنين، وحينما وصلت التظاهرة إلى البوابة الخارجية للقصر الجمهوري كانت الجماهير قد اندفعت إلى الباحة الأمامية للقصر عبر بوابته الرئيسية بقوة لتسحق تحت أقدامها الحديقة الأمامية المزدانة بالزهور الجميلة وذات الأصناف والألوان النادرة والثمينة ومن مناشئ مختلفة، دخلت القصر من بوابته الرئيسية وانتقلت إلى شرفته المطلة على المتظاهرين الذين ملأوا الساحة الأمامية للقصر والشارع الرئيس الذي يقع عليه، حيث وقفت قيادة الحزب في الشرفة لتحية الجماهير المحتشدة التي كانت تنتظر خطابا للرئيس أحمد حسن البكر، وبدأت بحملة تعبئة تسبق الخطاب الذي كان من المقرر أن يلقيه الرئيس البكر بعد قليل، كان السيد صلاح عمر العلي يحرض الجماهير بشعارات قوية وجُمَلٍ ثورية قصيرة تناسب الظرف، وفي إحدى الفقرات قال السيد العلي (إعدام الجواسيس، ماذا تريدون؟) فرددت الجماهير وراءه بصوت هادر واحد وبحماسة خرقت أجواء الصخب العالي عصر ذلك اليوم ولتطغى على كل الشعارات الأخرى، إعدام الجواسيس.
إذن هو المطلب الشعبي الجارف الذي لا يعدله شيء، كانت بيانات الحزب ونشرياته قبل الثورة تركز بشكل قاطع على دور شبكات التجسس وبخاصة الإسرائيلية التي كانت تمثل أكبر تهديد للأمن الوطني العراقي والأمن القومي العربي، محملة السلطة القائمة حينذاك مسؤولية العجز عن ملاحقتها ووضع حد لنشاطاتها، وقد وردت إشارات إلى هذه المعاني في بيان مجلس قيادة الثورة يوم 30 تموز، وحين دنت لحظة إلقاء الخطاب، جاءتني الإشارة لألقي مقدمة قصيرة في الحشد الكبير وبعدها أقدم الرئيس البكر، ووسط هذه الأجواء تكلمتُ عن ميلاد فجر جديد للعراق والأمة العربية فتفاعل الجمهور على الرغم من الصخب العالي، حتى همس البكر رحمه الله في أذني (ماذا حصل كي تنفلت أعصاب القوم على هذا النحو؟) لم استطع أن أوصل جوابي لأبي هيثم أو الشايب رحمه كما كان يحلو لنا أن نسميه اعتزازا به، إلا أنني قلت إنها فرحة العودة، وبعد دقائق ليست طويلة، وفي جو تموزي حار قائظ تتجاوز درجات الحرارة فيه في الظل الخمسين درجة مئوية، ووسط هتافات لم يكن ممكنا السيطرة على مشاعر المتظاهرين فيها، ألقى البكر خطابا حماسيا مكتوبا ومطولا ضاع وسط هتافات المتظاهرين ومما قاله فيه (عهد بذمة رجال الثورة ألا يبقى جاسوس فوق أرض العراق بعد اليوم)، وكأنه كان يستجيب لنداء الجماهير التي رددت بقوة ما كان قاله السيد صلاح عمر العلي الذي كان يحرض الجماهير، مطالبا بإعدام الجواسيس وهو موقف يجسد إرادة سياسية للحزب في تنظيف العراق من هذا المرض الخطير، وبذلك ألزم البكر نفسه وقيادة الحزب والثورة بتطبيق ما كان العراقيون يتطلعون إليه ويناضلون من أجله.
كانت التظاهرة مطلوبة من أجل تأكيد نصر كاد أن يضيع في ظروف التحالفات القاهرة جعلت البعثيين يعيشون على أعصابهم أطول ثلاثة عشر يوما في التاريخ وينتظرون الأسوأ ويتحسبون لما يمكن أن يلحق بهم في حال فشل التجربة الجديدة، وكانت التظاهرة مطلوبة لاستعراض القوة الجماهيرية للحزب على مستوى الشارع العراقي لتمنح البعثيين ثقة بأنفسهم والأعداء رسالة تحذير من مغبة التعامي عن الحقائق الجدية على الأرض، ربما شاركت قطاعات غير بعثية في التظاهرة إلا أن التظاهرة كانت بنسبتها الكبرى خاصة بالبعثيين إذ لم يتم طرح فكرة التظاهرة على مستوى الإعلام وإنما تم التبليغ عنها عن طريق الجهاز الحزبي فقط ، والآن وبعد أن خلصت لهم الثورة كاملة، عليهم الآن مهمة أكبر مما لو كان معهم آخرون، فالفشل يسجل بكامله عليهم والنجاح سيسجل لهم بكل ما يحمل من معان، كانت الصفحة الأولى بعد الثلاثين من تموز والتي عليهم إنجازها صفحة تثبيت الحكم من دون عنف وإقناع الشارع بأن التجربة الجديدة فيها من نضج الرؤية السياسية ما يمنحها حصانة كافية لتجنب المعارك الجانبية والصراعات داخل الصف الوطني مما يفضي إلى إخفاق التجربة، هم اليوم أمام اختبار كبير لقدرتهم على تنفيذ برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتي تبدأ عادة بالتنمية البشرية