مسجد نمرة أكبر مسجد في العالم من حيث سعته وقدرته على استيعاب أكثر من مليون مصلٍ، هذا بخلاف أعداد أكبر امتلأت بهم الشوارع المحيطة بالمسجد، لم يكن المسجد متميزا ببنائه بشيء، بل بسعته الكبيرة، هنا خطرت على بالي عدة تساؤلات عن أسباب عدم مباشرة السلطات السعودية بناء مجمعات سكنية في مشعر منى؟ وفي جبل عرفات وتكتفي بنصب الخيام وعددها بعشرات الألوف إن لم تكن بمئات الألوف كل موسم حج؟ وهي تتعرض بين آونة وأخرى إلى كثير من الحوادث مثل الحرائق بسبب لجوء بعض الحجاج إلى استخدام المواقد النفطية الصغيرة في إعداد طعامهم، أو جراء السيول التي تضرب المنطقة على حين غفلة، مما يؤدي إلى انهيار الكثير منها، وبالتالي لا يمكن أن تصلح للاستعمال لأكثر من موسم واحد في أحسن الأحوال؟ ثم إن المتعهدين يتقاضون من الحجاج أجورا محسوبة من كل حاج بحيث يضاف الإسكان في تلك الخيام إلى قيمة الرسوم التي يدفعها كل حاج، وغالب الظن أن السعودية تستوفي مبالغ عن إسكان الحجاج من المتعهدين.
تشهد المنطقتان هذا الحشد المليوني كل سنة، ولكن هنا يبرز سؤال آخر عن الجدوى الاقتصادية من بناء مجمعات سكنية كبرى في منطقة لا تحتاج إليها إلا لأيام معدودة في السنة، هل يمكن أن تغطي تكاليف البناء والإدامة في منطقة حارة إلى حدود بعيدة؟ السؤال سيكون، كم تنفق المملكة العربية السعودية على شراء الخيام الكبيرة التي تسع أعدادا لا تقل عن عشرة أشخاص؟ لا سيما وأن صناعة الخيام تختص بها دولة أو دولتان هما باكستان والهند، وهذا ما يجعل أسعارها خاضعة لمبدأ الاحتكار، ولكن هل هناك فرصة للانتفاع من العمارات السكنية، باقي أيام السنة في حال تشييدها؟ الجواب بسيط جدا، العمرة لا تتوقف ومنى وعرفات ليستا بعيدتين عن مكة المكرمة، ويمكن تنظيم جولات سياحية للمعتمرين، مما يتيح فرصة تشغيل اقتصادي لتلك المنشآت على مدار السنة، وبذلك تضمن السعودية عملا متواصلا للمنطقة، لقد أديت العمرة مرتين الأولى عام 2007 والثانية عام 2009، وأديت فريضة الحج ثانية عام 2011، أي سنة 1432 هـ ولاحظت المتغيرات العمرانية الهائلة التي نفذتها السلطات السعودية في الحرمين، خاصة ما بدأه الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله، في التوسعة الكبرى في الحرم المكي والمسجد النبوي الشريف، وقد شاركت في العمرتين بزيارات إلى عرفات ومنى، ووجدت في منى عمرانا واضح المعالم والفنادق والمطاعم تستقبل كثيرا من المعتمرين.
ربما شهدت منطقة منى خاصة إقامة مشاريع لإسكان الحجاج التي يقضي فيها حجاج بيت الله الحرام يومين على الأقل بالنسبة للمتعجلين، وثلاثة لمن يريد قضاء أيام التشريق في منى، وهنا اتقدم بمقترح فقط وأهل مكة أعرف بشعابها.
المهم عندما أزف وقت صلاة الظهر والعصر قصرا وجمعا في مسجد نمرة ايذانا بالنفرة إلى مزدلفة، جاءنا المرافق واصطحبنا إلى المسجد ووجدنا أن ضيوف المملكة وأعضاء البعثات الإعلامية كانوا في الصفوف الأولى، أخذنا موقعنا بينهم، بعد أن انتهى الخطيب من الخطبة والصلاتين خرجنا، ولكن ليس إلى مزدلفة وإنما إلى الموقع الذي يتناوب المذيعون على نقل المناسك من إحدى المنصات التي أقيمت على مقربة من مسجد نمرة، وتناول المذيعون النقل بصورة مباشرة، وللإنصاف مرة اخرى تميّز إبراهيم الزبيدي بأسلوبه الأدبي الشاعري في النقل، وفي نفس الوقت كان المصور ومساعده يسجلان أكبر انطلاقة لمثل هذا الحشد البشري الهائل في هذه البقعة المباركة من مكان إلى آخر.
بعد أن انتهت عملية النقل توجهنا إلى سيارتينا، وهنا بدأت أطول رحلة برية استغرقت أكثر من ساعتين، لأقصر طريق لا يزيد طوله عن 8 كم، كما قلت في موضع سابق من هذا الموضوع، كانت الطرق ضيقة والحجاج يتصرفون على مزاجهم، تعثر السير بشكل لافت، حتى أن السائق وهو يمني والمرافق وهو مصري أبديا دهشة لهذا، قال السائق بثقة لا بد أن يكون قد وقع حادث مروري عرقل السير، وبعد مسافة تقرب من كيلو متر، شاهدنا دوريات الشرطة وقد وضعت الحواجز لتغيير سير المركبات، كانت هناك حافلة كبيرة وقد ارتقى سقفها عدد غير قليل من الحجاج، وهم عادة ما يكونون من فقراء الحال أو الذين لا يعرفون قوانين الطبيعة، بأن سرعة الانطلاق إلى أمام تؤدي إلى ارتداد إلى الخلف، وهذا ما حصل لأحد الحجاج والذي سقط من فوق سطح الحافلة على الشارع، ولأن السيارات التي تعقب الواحدة الأخرى من دون فاصلة، فقد تحركت السيارة التي كانت تتحرك بعد الحافلة، (ومن سوء حظه رحمه الله) أن سقط على راسه فدهسته السيارة التي تسير وراء الحافلة وأجهزت على ما بقي له من أنفاس، وهنا كان يجب تثبيت وقائع الحادث وخاصة من مواطني الحاج الفقيد، كي لا يُوجه الاتهام لسائق السيارة التي دهسته ولا لسائق الحافلة التي سقط من فوقها.
يا لها من أيام خالدة تلك التي يعيشها الحاج بل ويحلق بها عاليا، وهو يسير في ذات الطرق، التي تشرّفت يوما بأن رسول الله صلى الله وسلم سار فوقها بقدميه الشريفتين، ولكن كيف كان المسلمون الأوائل يقطعون كل هذه المسافات، مع ما فيها من مشقة على أرجلهم أو رواحلهم؟ كان عدد الحجاج في ذلك الوقت محدودا وربما يقترب من عشرة آلاف، وتأكدت أن الانتقال مشيا من عرفات إلى مزدلفة هو أسرع بكثير من الانتقال بالسيارات، وقد حصل هذا في حج عام 2011 عندما كنت مع عدد من الحجاج من بلاد الشام في مجموعة واحدة، إذ انتقل حاج فلسطيني شاب، على قدميه ولم ينتظر حركة الحافلة، فوصل قبلنا بوقت طويل، ووجدت أمرا جديدا قد دخل على الخدمات التي تقدمها السلطات السعودية لضيوف الرحمن، فقد نشرت عشرات المرشات التي تقذف ماءً باردا، على شكل رذاذ متطاير لتلطيف الأجواء في هذه المنطقة المفتوحة، كان حج عام 2011 قد حل في شهر تشرين الثاني/نوفمبر، وكان الجو حارا جدا.
أجدادنا يا لهم من اجداد عظام انتزعوا الإعجاب من حفدتهم، فقد كانوا رجالا أفذاذ، فتحوا بإيمانهم وعزيمتهم الأمصار البعيدة، وأقاموا فيها دولا امتدت من أوربا وشمالي أفريقيا غرباً، وحتى الصين شرقاً.
655