في مهبط الوحي

الحلقة الخامسة والاخيرة

انتهينا من كل الواجبات التي على الحاج أن يؤديها في المشاعر وفي مكة المكرمة، ورجعنا إلى فندق الكندرة في مدينة جدة، أبلغنا المرافق بأن علينا أن نستريح ليلتنا في الفندق كي نغادر صباح الغد إلى المدينة المنورة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه المدينة التي أرسى الرسول الأكرم في هجرته المباركة إليها، الحجر الأساس لدولته دولة الإسلام، ولتنتشر منها أنوار الرسالة السمحاء وتتفجر فيها ينابيع الخير، وتعم أركان الأرض الأربعة، كان الطريق البري الرابط بين مكة والمدينة بممر واحد عام 1973، وهو طريق موحش حتى بالسيارة والمسافة بين المدينتين يقرب من 400 كيلو متر، كان الوقت الذي أمضيناه في قطع الطريق طويلا على ما شعرنا به، ربما هذه مشاعر كل مسافر بين أي مدينتين، يريد لرحلته أن تنتهي بأسرع وقت لا سيما إن كانت الطريق رملية موحشة.
في تلك اللحظات عاد بي خيالي إلى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، كيف مر على كل هذه القفار وكيف استطاع أن يؤمن زاد الطريق وماءه، له ولصاحبه في الهجرة الميمونة؟ كم تمنيت لو أنني اهتديت إلى موضوع قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته كي أتيمم من ترابها الطاهر وكي أصلي فوقها، وبعد رحلة استغرقت أربع ساعات تقريبا بدأت تلوح أنوار مداخل المدينة المنورة ومآذن المسجد النبوي الشريف، يثرب التي تحولت بهجرة رسول إليها، من مدينة صراع وحرب وتنافس بين الأوس والخزرج إلى مدينة التسامح والتآخي والقداسة التي تستقبل ملايين المسلمين كل سنة، في الحج والعمرة وتغيرت أحوالها الاقتصادية والمعاشية، ولكنها حافظت على خُلقٍ توارثته الأجيال منذ قيام دولة الرسول فيها.
من يدخل المدينة المنورة لأول مرة ستأخذه رجفة خشوع وإيمان، لا يستشعر مثلها حتى في مكة المكرمة أو هذا ما أحسست به، لأن الداخل إليها، سيكون وجها لوجه مع أرض كان يمشي في أزقتها رجل، من دون الرجال اختصه الله سبحانه بصفات تفرد بها بين سائر البشر، وبعثه رحمة للعالمين، فجمع المسلمين ووحدهم على كلمة سواء وآخى بين المهاجرين والأنصار، وأقام أول حكومة إسلامية في التاريخ.
ومع ذلك فإن هذه الأرض لم تجد غضاضة في أن تضم جسده الطاهر، فكيف لها أن تمتلك هذا الاستعداد؟ ولكن الله جعل للأرض وظائف شتى منها كما قال في محكم كتابه “مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى”، دخلنا المدينة بعد صلاة العشاء، وبعد رحلة امتزج فيها الشوقُ للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحنينٌ لمكة المكرمة، الأرض التي تركناها قبل قليل، وأحبها رسول الله كما لم يحب أرضا سواها، توجهنا إلى الفندق الذي خصصته وزارة الإعلام السعودية لنا، ويقع بمقابل أحد أبواب المسجد النبوي الشريف ولا يفصل بينهما ألا شارع لا يزيد عرضه على عشرة أمتار، بمجرد وصولنا ومن دون استراحة توجهنا لتأدية الصلاة وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، كان المسجد النبوي مزدحما عن آخره، ومع ذلك حشرنا أنفسنا وسط الحشود الكبيرة، وبشق الأنفس وصلنا إلى بيت أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، حيث سُجيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حاولنا الوصول إلى المكان الذي يتطلع الملايين لزيارته ولكننا لم نتمكن بسبب شدة الازدحام، ولكن مرافقنا رتب لنا موعدا في ساعة متأخرة من الليل مع أحد خدم المسجد النبوي الشريف، بحيث ستتاح لنا فرصة الوصول إلى القبر الشريف من دون قيود، وهذا ما حصل إذ أننا تمكنا من لمس القبر بأيدينا وسألنا الله في تلك البقعة المباركة أن يلهمنا طريق الرشاد، وأن يمن علينا بحلاوة الإيمان، لم يمنعنا أحد من الجلوس في هذه الغرفة التي كانت معزولة عن المسجد النبوي ويفصلها عنه باب لا يجلب النظر إلا ببساطته، ووجدناها غرفة بسيطة جدا تم تطويق القبور الثلاثة، بأعمدة مطلية باللون الأبيض، وخرجت من جوانبها أعمدة من خشب أبيض بصفين، ربما يصل ارتفاعها إلى ما يزيد على متر واحد، وبين كل عمود آخر نحو نصف متر، وبعد أن بقينا فيها ساعة غادرناها ونحن نحمل من المشاعر ما لا تمحوه السنون ويبقى يتقد في الذاكرة ويشحذها أبداً، إيمانا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعرفانا له بأنه أدى الأمانة وأوصل الرسالة ونصح الأمة، وبعد انتهاء زيارتنا للمدينة المنورة والتي استغرقت عدة أيام عدنا إلى جدة استعدادا للعودة إلى الوطن ووجدنا غرفنا ما زالت تحتفظ بحقائبنا، كنا ضيوفا من نوع خاص وأقمنا في أرقى فندق في المملكة ذلك الوقت، فندق الكندرة بمدينة جدة.
ولا بد بعد كل تلك السنين التي مرت عليّ أو مررت بها، أن أقر بأن ما توفر لي في حج عام 1972/1973، ربما لم يتوفر لملايين الملايين من المسلمين منذ بداية البعثة النبوية وحتى اليوم، إذ تم اختياري مع عدد محدود من حجاج بيت الله الحرام في موسم الحج ذاك، لأدخل في جوف الكعبة مع الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله، وتشرفت أيضا بأن أدخل الغرفة التي تضم جسد الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر الصديق والفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وأرضاهما، وكأن في ذلك رسالة أبدية لكل الحاقدين على الإسلام، بأن هذه الصحبة تخلدت في الأرض كما ستتخلد في الجنة بإذن الله ورحمته، ولا يسعني إلا أن أشكر المملكة العربية السعودية لفضلها علي في تلك الحجة، التي ما كنت لأصادف كل تلك المفاجآت السعيدة التي تحققت لي لولا صفتي الرسمية، لي كشخص ولبلدي العراق، فلو لم أكن رئيسا لبعثة الحج الإعلامية العراقية، ما كان لي أن أحصد كل تلك الامتيازات التي تُمنح للدول أكثر مما تُمنح للأفراد، وهي دعوة وجهت لكل الدول الإسلامية وليس للعراق وحده، لا سيما وأنني قد أديت فريضة الحج عام 2011، ولم تتح الفرصة حتى للصلاة في الروضة النبوية الشريفة في المسجد النبوي، أو الوصول إلى الحجر الأسود في المسجد الحرام.
في اليوم المحدد للعودة إلى العراق، استيقظنا باكرا، وكنا قد حزمنا حقائبنا ليلا، تناولنا الفطور الأخير في مطعم الفندق، وحملنا الحقائب وانتقلنا إلى مطار جدة الدولي قبل موعد إقلاع الطائرة بساعتين، وتم انجاز معاملة الجوازات وأخذنا الطائرة الترايدنت التي حلقت بنا نحو الشمال، حيث أرض السواد، أرض الرافدين، العراق الحبيب.
وبعد مضي ما يقرب من نصف قرن من الزمان بين تلك الحجة المباركة، وما صادفني في حياتي من منعطفات تمثلت بالغربة القسرية في معسكرات أعداء الإسلام الفرس لمدة عشرين سنة، وغربة ثانية بعد الاحتلالين الأمريكي البغيض والفارسي الأكثر حقدا وكراهية لكل ما هو عربي، أجد نفسي وأنا شاكر لأنعم الله وفضله الدائم ورعايته لي ولأسرتي من كل تقلبات الدهر، فالحمد لله في الأولى والحمد لله في الآخرة.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى