في مهبط الوحي

الجزء الأول

أديت مناسك الحج في سنة 1392هـ رئيسا لبعثة الحج الإعلامية، كنت يومها مديرا للأخبار في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، والتي تصادفت مع عام 1972 و1973م، وكان يوم 14 /1 / 1973 أول أيام عيد الأضحى المبارك، وبمناسبة هذه الأيام المباركة، اسمحوا لي أن اتنقل معكم مع الأيام التي عشناها في الديار المقدسة ومن عدة حلقات.
1
موسم الحج لسنة 1392 هـ وافق نهاية عام 1972، واستعدادا له كما هو الحال في كل موسم تشكل لجنة اعلامية لتغطية المناسك، وفي تلك السنة، تم تشكيل بعثة الحج الإعلامية برئاستي، وكانت البعثة تضم كلا من السيدين إبراهيم الزبيدي رئيس قسم المذيعين في إذاعة بغداد، وناظم مجدي المخرج في المؤسسة، وكادرا فنيا من المصورين ومساعديهم، وفي كل عام كان العراق يشكل بعثة حج تضم بعثات فرعية من وزارة الثقافة والإعلام وعادة ما تكون من الإذاعة والتلفزيون، ومن وزارة الصحة ووزارة الأوقاف، لم تكن هناك علاقة تنظيمية بين بعثة وأخرى، ولكنها تشترك جميعا في تقديم خدماتها للحجاج العراقيين كل حسب تخصصها، باستثناء البعثة الطبية العراقية التي كانت تشكل سنويا ومن عدد كبير من الأطباء ومعاونيهم، ومن عدد كبير من سيارات الإسعاف وكميات كبيرة جدا من الأدوية والمستلزمات الطبية اللازمة، فقد كانت تقدم خدماتها لكل من يحتاج المساعدة الطبية للحجاج من مختلف القارات لاسيما وأن سمعة الأطباء العراقيين كانت قد صارت على ألسنة كل من راجع المقرات الطبية العراقية، كانت البعثة الطبية العراقية تستأجر مقار مناسبة لاستقبال الأعداد الغفيرة من الحجاج المحتاجين لخدماتها في كل موسم، كان الحجاج يقدمون من مختلف المناطق من كل قارات العالم، هذا ما قد يؤدي إلى انتشار الأوبئة والأمراض بين الحجاج الذين يفتقد كثير منهم إلى الوعي الصحي، بسبب البيئة التي ينتمون إليها أو لكبر سنهم بحيث لا يتمكنون من رعاية أنفسهم على الوجه المطلوب، إضافة إلى أن إمكانات المملكة العربية السعودية في المجال الطبي لم تكن في ذلك الوقت قد وصلت حد الاكتفاء الذاتي وكانت معظم دول العالم ترسل بعثات طبية أيضا، خاصة مع وجود أكثر من مليون إنسان من كل أصقاع الأرض في مكان واحد وفي وقت واحد.
كانت العلاقات في أعلى درجات التأزم بين العراق وإيران، كان جزء من واجبنا يتلخص بالتصدي لدور إيراني محتمل أثناء الموسم ضد العراق، كما كان شأنها وسيبقى في استغلال هذه المناسبات، سواء بتوزيع منشورات تحريضية ضد العراق تحت لافتة الدفاع عن الشيعة، أو بعملية النقل المباشر عبر الإذاعة للمناسك أو بالتهجم على العراق وتجربته السياسية، لم يكن البث التلفزيوني المباشر متاحا ذلك الوقت عبر الأقمار الصناعية، وأقصى ما كان متاحا هو أن يتولى التلفزيون السعودي إعداد فلم كامل عن مناسك الحج، ثم يبعث به إلى الأردن الذي كان سباقاً ومن وقت مبكر بامتلاك محطة اتصال أرضية عبر الأقمار الصناعية، كي يتولى بثه إلى المرتبطين بالشبكة العالمية.
كانت خطة سفر البعثة الإعلامية أن نغادر على أول طائرة عراقية متوجهة إلى مدينة جدة، أما العودة فستكون على آخر طائرة عراقية مخصصة لنقل الحجاج العراقيين تغادر الأراضي السعودية، ولما وصلنا إلى مطار جدة تم تخصيص مرافق سعودي ينحدر من أصول مصرية للبعثة مع سيارتين، ووجدنا بانتظار كل واحد منا رزمة فيها ملابس الإحرام، وتم إسكاننا في فندق الكندرة وهو أرقى فنادق جدة في ذلك الوقت، بصورة دائمة حتى نهاية موسم الحج، ومنه ننتقل في كل يوم لتأدية الواجبات التي تم رسمها من قبل وزارة الإعلام السعودية، أي أننا إذا اقتضت الحاجة السفر من جدة إلى مكة المكرمة التي تبعد عن جدة بحوالي 120 كيلومترا، وكانت حينها هي العاصمة الدبلوماسية للمملكة العربية السعودية وفيها سفارات دول العالم وبعثاتها الدبلوماسية، فإننا نغادرها صباحا ثم نعود مساء إلى فندقنا الذي كان من أحدث فنادق جدة وعادة ما يقيم فيه كبار ضيوف المملكة، وكان وفد البعثة الإعلامية كما قلت يضم كلا من إبراهيم الزبيدي وناظم مجدي ومصور ومعاون مصور وفنيين.
ليس شيئا عابرا أو هيًنا أو متاحا بصفة مستمرة، أن تتاح للمسلم فرصة لتأدية فريضة الحج إلى البيت الحرام الذي تمت بدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام، والذي تهفو إليه قلوب الناس، وهل يمكن أن تقف مشاعر المسلم عند حد عندما يجد نفسه وجها لوجه أمام الكعبة المشرفة أو قبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لا شك أن قلبه سينخلع من بين ضلوعه شوقا إلى تلك الديار المقدسة، وكيف ستكون مشاعره عندما يسير في ذات الطرقات التي شرفها الله، ويشعر بعبق خطوات الرسول الأكرم فوق أديمها، لا بد أن يردد مع نفسه من هنا مرّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهنا أدى صلاته وهنا التقى بصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
هنا يتجرد الإنسان عن نوازعه الدنيوية ويحلق في عالم الروح عاليا، لذلك حرصت على أن أجعل من مناسك الحج كاملة بكل ما فيها من مفردات وتفاصيل، فهذه فرصة لن تتكرر في حياة الإنسان وخاصة إذا أتيحت له فرص غير متاحة لجميع الحجاج، وكان علينا أن نوفق بين ما جئنا من أجله خدمة للحجاج العراقيين وخدمة لوطننا، وما تمليه علينا المهمة الرسمية الموكلة إلينا، وأن يبقى حجنا نظيفا من كل شائبة وأن نؤدي المناسك كاملة، كان حرصي على الإحرام في مواقيته وعلى النحر في يومه المحدد.
التقينا المسؤولين السعوديين، الذين كانت بلادهم على علاقة متميزة مع إيران في عهد الشاه، وأكدنا لهم مخاوفنا من استغلال إيران لعلاقاتها الخاصة مع السعودية للتحرك ضد العراق، استقبلنا وزير الإعلام السعودي حينذاك الشيخ إبراهيم العنقري على ما أذكر، والذي أبدى مخاوفه من تحويل موسم الحج إلى ساحة للصراع بين العراق وإيران، ولكنه حتى في هذه الملاحظة لم يحاول تحميلنا مسؤولية ذلك، وجدنا الجو مناسبا للانتقال للقضية المهمة وهي مسألة النقل المباشر لغسل الكعبة المشرفة ثم وقفة عرفة والنفرة منها إلى المزدلفة، وبعدها إلى منى والبقاء فيها يومين لمن تعجل، طلبنا مراقبة ما سيقوله المذيع الإيراني لأنه قد يعرّض بالعراق أثناء النقل، أحالنا الوزير إلى السيد بدر كريم والذي سيبحث تفاصيل عملنا، وكان بدر كريم يشغل وظيفة كبير المذيعين وموضع ثقة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله، والذي كان يرافقه في جولاته الخارجية، حينما تباحثنا معه وكان معي السيد إبراهيم الزبيدي، بدد بدر كريم شكوكنا حول إمكانية انحياز الجانب السعودي إلى جانب الفريق الإعلامي الإيراني ضدنا أو هكذا أكد لنا، ولما طلبنا المزيد من الضمانات لمنع أية إساءة للعراق أثناء النقل المباشر لمختلف الفعاليات، قال إننا لن نسمح بذلك لأن النصوص يجب أن تأتينا مكتوبة قبل أربع وعشرين ساعة من الوقت المحدد لأية فعالية نقل خارجي من الديار المقدسة، ولكننا واصلنا الضغط للحصول على نتيجة كنا قد اتفقنا عليها، وهي فحص النص الذي سيقدمه المذيع الإيراني، أكد لنا السيد كريم أن النص باللغة الفارسية، فأجابه إبراهيم الزبيدي أنا أعرف الفارسية وسأتولى فحص النص وكانت هذه سرعة بديهية من إبراهيم الزبيدي، فهو لم يكن يجيد الفارسية، بدا السيد كريم مترددا في موقفه أمام إصرارنا على موقفنا حتى صار مقتنعا بأننا على وشك عدم المشاركة في أية فعالية، ما لم تنفذ شروطنا، فقال حسنا سأعرض عليكم النص وبالمقابل هل تقبلون أن يراجعوا نصكم؟ قلنا له إن نصنا باللغة العربية وأنتم تعرفونها، ولا حاجة لغيركم أن يطلع عليها ونحن نقبل أن تصدر منكم أية ملاحظة ولكننا لن نقبل ذلك من الإيرانيين، وبعد تجاذبات ومناقشات طويلة، حصل الاتفاق على هذه التفاصيل، حقيقة الأمر أن مخاوفنا كانت ناجمة من كون العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران، قوية وتثير قلق العراق من احتمال أن تكون على حسابه، على الرغم من أن المملكة العربية السعودية بلد عربي وعضو في جامعة الدول العربية، ولكن هواجس التحسس التاريخي بين البلدين الذي يعود للخلافات بين بلدين كل منهما يريد أن يؤكد دوره القيادي في المنطقة، وهذه الخلافات تعود لنشوء الدولتين في العصر الحديث.
كنا قد أدينا مناسك العمرة وعدنا إلى جدة حيث نقيم فيها في فندق الكندرة وكنا في كل يوم نذهب إلى مكة المكرمة للالتقاء بالحجيج العراقيين ويسجل معهم إبراهيم الزبيدي لقاءات مصورة ونبعث بها إلى بغداد مع الطائرات العائدة إلى العراق، لم يكن هناك ازدحام شديد في الديار المقدسة كما هو الحال هذه الأيام، وفي يوم غسل الكعبة المشرفة توجهنا إلى مكة المكرمة وانتقلنا إلى الشرفة المطلة على باحة المسجد الحرام، وكان المذيعون يتناوبون على تقديم وصف مباشر عبر إذاعات الدول المشاركة في تغطية هذا المؤتمر الإسلامي الكبير، وقبل أذان الظهر وصل عاهل المملكة العربية السعودية الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله وطاف حولالكعبة المشرفة سبعاً، ونزلنا إلى الباحة حيث طفنا سبعة أشواط ايضا، ولم يكن صعبا علينا الوصول إلى الحجر الأسود أو أي جزء من الكعبة المشرفة، ثم انتقلنا إلى الصفا والمروة حيث سعينا سبعة أشواط، وبعدها عدنا جميعا وكان باب الكعبة قد فتح ونصب سلّم صغير على بابه.
ارتقى العاهل السعودي الملك فيصل بن عبد العزيز السلم، وتم اختياري بفضل الله من بين مجموعة صغيرة جدا للدخول إلى جوف الكعبة المشرفة لغسلها، والتقينا السلّم، وكان هناك من يُزود كل صاعد بمكنسة من القش مع دلو بلاستيكي، دخلت جوف الكعبة المشرفة مع الملك فيصل ومجموعة ممن وقع عليهم الخيار لكنس الكعبة من الداخل، ولم يكن عددنا كبيرا كما اسلفت، لم أكن أحلم يوما أنني أقترب من الكعبة إلى الحدود التي حصلت طيلة الأيام الماضية بسبب الزحام والمدافع الهائل والتسابق بين ضيوف الرحمن لتقبيل الحجر الاسود، أما الآن فقد تجاوز الواقع كل الأحلام المختزنة في ضمير وعقل وقلب كل مسلمي الأرض وعلى مر العصور، وتكدست أمامي كجوهرة ثمينة لا يضاهيها شيء في هذه الدنيا، وما علي إلا الانحناء لالتقاطها، في تلك اللحظات الإيمانية العميقة، والتي تجسدت بدخولي وسط هذا البناء، الذي تتجه إليه قلوب مئات الملايين وعيونهم وعقولهم كل يوم، لم أتمكن من السيطرة على مشاعري لم أعرف ماذا أعمل، تطلعت إلى بناء الكعبة من الداخل، فوجدتها وقد استند سقفها على أعمدة خشبية يُخيل للنظر أنها قديمة جدا، لتحمل سقفا يستند على أعمدة خشبية رصفت افقيا بمسافات متقاربة لتحمل السقف ورايت كتابات على قطع رخامية انتشرت على جدرانها، وقد دُونت فيها عمليات البناء والتجديد والترميم.
رايت الجميع بمن فيهم الملك فيصل رحمه الله، وقد بدأوا بكنس الأرضية، باشرت العمل الذي يُكرم الله عددا محدودا ممن يتفضل عليهم بهذه الحظوة المباركة.
في تلك اللحظات القدسية قدحت في ذهني فكرة بجمع تراب الكعبة، ولما كنت في ملابس الإحرام فلم يكن هناك جيب لأضعه فيه، لذلك أخرجت عدة مناديل ورقية وبدأت بجمع التراب الناعم فيها، لمحني أحد مرافقي الملك فيصل وكان كريم العين فسألني باستنكار ماذا تعمل؟ قلت أجمع التراب، قال لي ولماذا تفعل ذلك؟ قلت للذكرى، سألني مرة أخرى وما زال انفعاله باديا على قسمات، للذكرى أو للبركة؟ قلت للذكرى فقط، من أين أنت؟ سألني بيأس قلت أنا عراقي، قال وهل أنت شيعي أم سني؟ قلت لا فرق، ولما ألح قلت له حسنا أنا سني، طلب مني أن أرمي ما جمعت من التراب فلما وجد مني إصرارا اقترب مني على الرغم من أنه كان على بعد خطوتين، تحدث معه أحد الحراس الآخرين، فقال له وما حاجة الشيعي إلى تراب الكعبة، لم أعلق ولكن في تلك اللحظة التفت إليه الملك فيصل رحمه الله وقال له بحزم (اترك العراقي)، بعد أن أكملنا مهمة الكنس غسلنا الكعبة المشرفة ثم صلينا ركعتين في الداخل، وكل واحد منا أخذ أقرب الاتجاهات إليه، الملك فيصل توجه قبالة مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، وأنا كنت قرب الحجر الأسود فصليت موجها وجهي نحوه ولكن من داخل الكعبة، بعدها نزل الملك وبدأنا بعده بالنزول تباعا، ونحن في طريق النزول تم تسليم كل واحد منا سجادة ومصحفا ومسبحة يُسْرْ، بعد أن عدت إلى العراق حملت المصحف الشريف وسجادة الصلاة ومسبحة اليسر وتراب الكعبة المشرفة وسلمتها أمانة لوالدي وفاء له، والتزاما بما أمر الله به من بر الوالدين، واقع الحال لم أكن أكذب حين قلت لرئيس الحرس المرافق للملك، ولكنني شعرت أنني أردت هذا التراب أن ينثر جزء منه على قبري وجزء على قبر أبي والثالث على قبر أمي.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى