فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً

يبدو أن ما اكتب بخصوص تجربة الأسر المرة التي عشتها في معسكرات مَخفيّة ومعاقبة بصورة جماعية، ووسط العقوبات الجماعية، هناك انتقاء لعينات من الأسرى يتم تعريضهم لضغوط نفسية وبدنية مضاعفة، مثل التعذيب الذي تفتقت عنه أذهان جلادين محترفين من الإيرانيين من عهد السافاك أو ممن تحمّس أكثر منهم في العهد الجديد، والتحقت معهم شلةٌ فاسدةٌ من الأسرى العراقيين الذين انهارت مقاومتهم، ممن أطلق عليهم الإيرانيون لقب “التوابين” ويسميهم الأسرى الوطنيون، بالأسرى الخونة، ومن تجويع واهمال مقصود، عن توفير العناية الطبية لأصحاب الأمراض المزمنة، وللحالات المرضية الطارئة، يبدو أن بعض ما أكتب كان يستفز كثيرا من عملاء إيران ويُوجعهم إلى حدود أبعد مما كنت أتصور، وينظر بعضهم إليه على أنه تكرار ممل، وحشر للقراء في مأساة لا يحبون العيش في أجوائها أو استذكار مأساتها المؤلمة.
وهنا يجب أن أثبّت أنني أسير عراقي تطوعتُ إلى ألوية المهمات الخاصة بمحض اختياري وإرادتي، ولست نادما وإن تألمت كثيرا، على ما حصل لي من محن متتالية بعدما وقعت في الأسر في إيران التي يرتبط تاريخ تعاملها مع الأسرى بتجربة “سابور ذي الأكتاف” وقصته معروفة تاريخيا، تأسرت في معركة الشوش عام 1982، وحتى اطلاق سراحي في عملية تبادل متعسرة، في كانون الثاني عام 2002.
أنا ابن النظام الوطني وأعتز بفكري القومي وبالقائد صدام حسين رحمه الله، درست بعمق تاريخ العلاقات العربية الفارسية، منذ أول معركة مدونة بين العرب والفرس وهي معركة ذي قار، ثم معركة قادسية الفاروق وسعد والمثنى، وأخيرا قادسية صدام المجيدة، والتي كان نصيب فارس فيها الهزيمة المنكرة للمرة الثالثة، ولكن هذه المعارك التي تُوجت بانتصارات حاسمة للعرب عموما وللعراقيين خصوصا، بما في ذلك تقويض أركان الدولة الساسانية بعد سنة 15 هجرية، وكان من نتائجها انتشار الإسلام في فارس ومنها إلى الشرق، بسواعد الفاتحين العرب الأبطال وسيوفهم، وخاصة في خلافة الوليد بن عبد الملك ومن جاء وراءه من قادة عظام، إلا أن ما يجب تثبيته وبمرارة أن الهزائم التي تعرضت لها دولة فارس التي كانت تدين بعبادة النار، لم يشعر ابناء فارس بالامتنان للعرب كباقي الأمم، أنهم هم الذين نقلوهم من ظلمات الشرك والجهل إلى عالم التوحيد وما فيه من وعد بالمغفرة والجنة، فكان الفرس استثناء من جميع الأمم التي دخلها الإسلام حقدا وضغينة على العرب.
كنت على طول تاريخي منحاز ومنتمٍ لفكر، أرى فيه التعبير السليم عن طموحات العرب باستعادة مجدهم الغابر، ولهذا عندما أكتب فلا يمكن أن أكون مثل باحث غربي أو هندي محايد، يكتب بلا وجهة نظر، أقول هذا ولا أشعر بخجل من الإعلان عنه بصراحة، كي تأتي ردود الفعل متناسقة مع طريقة طرحي، لا أبحث عن معجبين بما أكتب أو مؤيدين له بقدر ما أريد رسم صورة الأحداث كما أراها ذهنيا، أو كما شاهدتها عيانياً، ولكنني لن أقبل بأية وجهة نظر تطعن باختياراتي السياسية والفكرية، ولست مضطرا لمجاملة أحد وأنا في الثامنة والسبعين من عمري.
اليوم أريد أن أعود إلى أيام الأسر المرة التي وصلت إلى 7245 يوماً بلياليها الحالكة، كي أجري مقارنة بين ما تطرحه إيران في دعايتها السوداء، مدعومةً بكتائب تضم الآلاف من العاملين في مواقع التواصل الاجتماعي، هدفها التشويش على ما يُنشر ضد المشروع الإيراني التوسعي، والذي يرتدي أردية إسلامية كاذبة، في حالة إمعان النظر فيها، سرعان ما تظهر عورات إيران كمشروع امبراطوري فارسي يسعى لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الساسانية التي تم إدخال التحسينات عليها من قبل إسماعيل الصفوي ودولته التي فرضت نظاما مذهبيا على بلاد فارس بقوة السيف وحده، كي تتمكن من الانتشار في العالم الإسلامي بدلا من التصادم مع العقيدة الإسلامية، ولأنني عاهدت نفسي وفاءً للقيم التي أحملها ولوطني، أن أكتب عن المآسي المروعة التي عاشها آلاف الأسرى العراقيون في إيران، فقد اخترت عينات من الأطروحة الإيرانية، في أسبابها السخيفة في تعريض الأسرى للظلم وقطع آلاف منهم عن العالم وعن أسرهم، وسأعطي اليوم مثلين عن حقيقة ما تختزنه العقيدة الفارسية من حقد على العراق والعرب.
أولا:
في واحدة من خطب هاشمي رفسنجاني، قال بأن إيران تحتجز أكثر من ثمانين ألفا من الأسرى العراقيين، هم في العمر المنتج اقتصادياً وعلمياً، وهم في العمر الذي يتمكنون من الانجاب وزيادة سكان العراق، أي أننا بأسرهم تمكنّا من الحد من زيادة سكان العراق، على نحو يمكن أن يوازن بيننا وبينه ويحافظ على التفوق الحالي، أي أن رفسنجاني يباهي بأن الحرب حدّت من زيادة السكان طبيعيا بسبب أسر هذا العدد الكبير من العراقيين، وأشار إلى أن الخسائر البشرية في الحرب إذا ما تضافرت مع هذه النتائج فإن إيران ستكون رابحة بكل المقاييس.
وهنا نستطيع أن نجد التفسير المنطقي أن إيران أصرت على عدم تبادل الأسرى استنادا إلى مبدأ الكل مقابل الكل، وهذا هو المعمول به استنادا إلى اتفاقية جنيف الثالثة، وإلى لائحة عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهذا ما رأيناه في كل الحروب المعروفة في القرن العشرين، والسيء في كل المشهد، أن إيران كانت تجاهر بأنها ترفض الاستناد إلى قوانين الصليب الأحمر، لأنها منظمات صليبية على حد زعمها، وأنها تطبق المعايير الإسلامية في التعامل مع الأسرى العراقيين، أي أنها حولت قضيتهم إلى سلعة تساوم بها العراق، والمجتمع الدولي، كما كانت منذ وصول خميني إلى السلطة والذي دشن عهده باحتجاز الدبلوماسيين الأمريكان في سفارة بلادهم لمدة 444 يوما، وكما كانت تفعل بعمليات اختطاف الأبرياء وتساوم بهم للحصول على مكاسب سياسية أو مالية.
من المعروف أن رفسنجاني لا ينطق باسمه، فهو المقرب جدا من خميني ورافقه في معظم رحلته في المنافي، ورفسنجاني أيضا هو المتسبب بوصول خامنئي إلى كرسي البابوية في إيران، على الرغم من عدم أهليته لإشغال الموقع الذي يستوجب من الناحية الشكلية، أن يكون قد حصل على لقب آية الله العظمى، ليكون متأهلا للوصول إلى الأهلية اللازمة للوصول إلى ما يسمى بـ “الأعلمية”، ولكنه احتل موقع الولي الفقيه، متخطيا بذلك مئات العمائم و”مجلس خبراء القيادة” الذي تنحصر فيه مهمة “تعيين وعزل قائد الثورة الإسلامية في إيران”.
ويبدو أن هذا الاختيار استند على واقعة سابقة، وهي أن اختيار الخميني نفسه لموقع القيادة لم يكتسب الشروط اللازمة، إذ أنه عندما فرض نفسه بمنطق القوة ابتعادا عن منطق الحجة والأسس المعتمدة في المذهب الجعفري الاثني عشري، الذي وضع أسسه المؤسسون الأوائل له، ابتداءً من الكليني وصولا إلى الدولة الصفوية وأخيرا الدولة الخمينية ثم الخامنئية، فلم يكن خميني مجتهداً معروفا في أوساط الحوزات الدينية في قم وفي النجف بعد أن لجأ إليها، أنه عالم دين، بل هو رجل سياسة متمرد، يسّخر الدين والمذهب مطية لإيصاله إلى أهدافه الخاصة.
ثانيا:
كانت لجنة شؤون الأسرى العراقيين في إيران التي تناوب على رئاستها ثلاثة من أكبر جلادي العصر، هم نور الدين شريف عسكري، ثم الحاج نظران، وأخيرا العقيد عبد الله نجفي، كانت ترسل بالمعممين كمبلّغين إلى الأسرى لإحداث ثغرة في جدار وحدتهم وصمودهم، وكانت تدفع لهؤلاء المعممين أجورا عن كل محاضرة، من بينهم عراقيو الجنسية وهم الأكثر حقدا على الأسرى، وكانت الموضوعات التي يطرحها المعممون، تتراوح بين الأمور الفقهية، في محاولة لتغيير القناعات الدينية لدى الأسرى، وسياسية تبدأ بكيل الشتائم للحكم الوطني وقيادته الوطنية، وهنا يحصل التصادم الذي يكاد يفلت عن السيطرة، لولا دخول جنود الحراسات الداخلية مع إنذار الحراسات الخارجية الذين يتهيؤون للدخول في المعركة.
في زيارة أحد المعممين الفرس والذي كان يشغل موقعا رسميا في سلطة رجال الدين الإيرانية، حرص على حصر موضوع محاضرته في موضوع واحد وهو الفرق بين تعامل إيران مع قضية الأسرى، وقارنها مع أنشطة اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تناصب الجمهورية الإسلامية العداء، لأنها جزء من قوى الاستكبار العالمي التي تخضع لهيمنة الشيطان الأكبر، فزعم أن الجمهورية الإسلامية في إيران توفر خدمات أكبر وأسرع مما نصت عليه اتفاقية جنيف الثالثة، وما ورد في لائحة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وقال “يكفي المسلمين اعتمادا على المنظمات الصليبية فنحن مسلمون ولن نسمح لهذه المنظمة ولا لغيرها من أدوات الاستكبار والصهيونية، أن تزايد علينا أو تنوب عنّا في الدفاع عن قضايا الأسرى”، ولكن الأسرى رفضوا الطرح، وبدأوا معه نقاش اليائس من أي تغيير في الموقف الإيراني، فتصدى أحد خريجي كلية الشريعة من جامعة بغداد، وكان وطنيا غيورا، فبدأ حديثه بالقول، إننا لسنا طرفاً بموقفكم من الصليب الأحمر أو موقفه منكم، ولكننا نريد أن يُسجلنا في قائمة الأسرى وأن يشرف على مراسلاتنا مع ذوينا، فنحن أسرى منذ أعوام ولم نراسل أهلنا ولم نُسجل لدى الصليب الأحمر، وقال إننا نطلب مراسلة أهلنا لأن فيها جوانب شرعية، تترتب عليها التزامات تتعلق بعقود الزواج والإرث وغيرها، مما يترتب على عائلة الأسير أن تقوم به، فيما لو عرفت أن ابنها قد قُتل أو هو أسير أو تُوفي في الأسر أو مفقود، حاول المعمم مقاطعة المتحدث ولكننا وقفنا مع رفيقنا الأسير، فاضطر المعمم أمام وقفتنا الجماعية إلى التراجع، قال له الأسير إن الإسلام لا يجيز تعمد الإخفاء القسري للمسلم عن أسرته تحت أي ظرف.
لكن المعمم وفي لحظة صراحة نادرة، انتفض وقال “من قال إننا نحرص على وضع عائلاتكم في صورة وضعكم القانوني والشرعي، نحن نريد الانتقام من صدام حسين باستخدام ملفكم بالصورة التي نراها تخدمنا، كي نثير عائلات الأسرى على نظامه البعثي، ولا يعنينا الموقف الشرعي ومقدار تطابق إجراءاتنا مع الشريعة الإسلامية من عدمه، هذه قضية سياسية ولا مجال فيها للمجاملة على حساب قناعاتنا ولا مكان فيها للإنسانية، ونحن نسعى لكسب الحرب بكل الوسائل، وأهمها إثارة الشارع العراقي على نظام صدام حسين”.
هذه هي إيران التي عرفها الأسرى العراقيون أكثر مما عرفها أي طرف آخر، لأنهم أُخضعوا لكل التجارب التي ابتدعها الإيرانيون أو استعاروها من غيرهم، فأصبح الإيرانيون بضاعة مكشوفة للعيان لا تخفى منهم خافية، بل سبر الأسرى أغوار النفسية الإيرانية على حقيقتها وعرفوا المعنى الظاهر والمعنى الخفي لكل كلمة يطلقها مسؤول إيراني، فهم مجبولون على الخديعة والتقية وقول الشيء الذي يعني ضده.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى