هل أن إيران مصممة على الحصول على السلاح النووي حتى بفرض عدم امتلاكها القدرة الفنية على ذلك حتى اللحظة الراهنة؟
أم أنها لا تسعى إلى امتلاك القنبلة الذرية حتى لو توفرت لها كل الأسباب التقنية للوصول إلى هذا الهدف؟ وهل أن بلدا مثل إيران وبمواصفات النموذج التوسعي السائد حاليا وحتى قبل وصول النظام القائم الآن، يمكن أن يتخلى عن التسلح بكل أسباب القوة وأدوات التوسع والهيمنة، وخاصة سلاح الردع النووي، في منطقة تحمل موروثا متراكما من أجواء العداء التاريخي، وفيها من تحسينات الظرف الآني الشيء الكثير؟
تحاول أوساط رسمية إيرانية، أو مقربة من إيران التركيز على هدف إيران امتلاك التقنية النووية للأغراض السلمية في البرنامج الإيراني، وتبذل قصارى جهدها من أجل تسويق هذه الفكرة لكسب المزيد من الوقت، حتى إذا فاجأت إيران العالم بتجربتها النووية، فإن الحديث سيتعالى عن أن الحرب خدعة وأن العالم لا يبيع أسراره أو يعرضها في أسواق دولية مكشوفة، أو أن إسرائيل ما تزال لا تعترف بحقيقة امتلاكها لترسانة نووية ضخمة، وحينذاك سصب كل من دافع عن سلمية المشروع النووي الإيراني كل ما عندهم من غضب على الدول العربية وسيتهمونها بالتقصير عن اللحاق بركب الآخرين الذي تعجلوا، وتأخر العرب.
فأين تكمن الحقيقة؟ وأين تلتقي المصالح وأين تفترق وتتقاطع؟ ومتى سيصل الصدام أو الابتزاز الإيراني على الأقل، للعرب والعالم؟

تواصل إيران إتباع دبلوماسية ملتوية مع المجتمع الدولي تعتمد مبدأ المماطلة وكسب المزيد من الوقت، وتستند على عدم وجود إجماع دولي في كيفية التعامل مع ملفها النووي، كي تضيف المزيد مما تعتبره إنجازات علمية في برنامجها المثير للجدل، معتقدة أنّ ذلك هو الطريق الآمن لإيصالها إلى النقطة التي تضع فيها العالم أمام الأمر الواقع حين تقتفي آثار الخطوات الكورية الشمالية، ثم تجري تجربتها النووية، وحينذاك ستبدي ما يكفي من الاستعداد للعودة إلى مائدة الحوار بشأن ذلك الملف، وحينها سيكون من حق المراقب أنْ يتساءل على ماذا سيتركز الحوار؟ وما هي النتائج المطلوب منه أنْ يحققها؟ وهل ستكون إيران على استعداد للتراجع عن النقطة التي وصلت إليها؟ وما هو الثمن الذي ستطلبه مقابل ذلك؟ والأهم من كل هذا ما هي الضمانات بألا تتراجع طهران بعد مدة قصيرة من حصولها على المكاسب التي يمكن أنْ تحصل عليها عن كل ما أعطته من تعهدات للأسرة الدولية، ثم تعاود أنشطتها النووية العسكرية خاصة إذا كانت قد اكتسبت من المهارات والمعدات ما يكفي لاستئناف ذلك البرنامج بمجرد صدور قرار سياسي؟ ويسجل المراقبون، أنّ العالم لم يعرف للولايات المتحدة طول صبر وأناة، وقوة تحكم بالأعصاب بدلاً من قدرة التحكم بالأسلحة الفتاكة، إلا في تعامل واشنطن مع الملف النووي الإيراني، فلقد أبدت الولايات المتحدة تمهلاً بردود الفعل، يصل في معظم الأحيان إلى مستوى ثقيل جداً، وكي لا أدع الخيوط تفلت من اليد أسارع للقول إنّ ذلك لا يرجع إلى الاضطراب في الموقف السياسي الأمريكي، بسبب مأزق الولايات المتحدة في العراق فقط، وإنما يرجع إلى مسار ثابت في سياسات الدول الكبرى في تعاملها مع كل ملفات العالم بموضوعية وآليات تحرك دبلوماسي وبمهنية عالية، باستثناء ما يتصلب القضايا العربية، وقد يشجع هذا القول البعض، أنّ هذا الرأي يصب في نهاية المطاف في تبني نظرية المؤامرة التي تجد لها مناخاً ملائماً عند العرب أنفسهم.
وحتى بفرض إصدار هذا الحكم، فإنّ أحداً لا يستطيع أنْ يدحض حقيقة أنّ العرب تعرضوا لسلسلة طويلة من المؤامرات السرية والعلنية في تاريخهم المعاصر، ابتدأت باتفاقية سايكس – بيكو ولم تنته حتى يومنا الراهن باحتلال العراق، بعد أنْ خيطت أسوأ مؤامرة أمريكية بريطانية ساهمت في نسج خيوطها أجهزة استخبارات دول غربية وشرقية بل وحتى عربية وأفريقية بشأن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل عبر سلسلة من الأكاذيب الرسمية تم فضح فصولها فيما بعد،ومع ذلك فإنّ هناك من يدعو إلى نبذ نظرية المؤامرة … على الرغم من استمرار المؤامرة نفسها، وسيلاحظ المراقب المنصف طبيعة ردود الفعل الدولية الصارمة حد استخدام القوة المسلحة، إزاء وهم امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل والتي لم يكن من بينها السلاح الذري، بل أنّ الأمور وصلت مجرد تكهنات بامتلاك العراق لبرنامج كيمياوي وبيولوجي، فأنتج ذلك الوهم هذا الكم الهائل من ردود الفعل من الولايات المتحدة وبريطانيا، وألحقتا بقطارهما بقية الدول الكبرى بما فيها دائمة العضوية في مجلس الأمن والتي انصاعت لآلية تصويت صماء عمياء أطلقت اليد الأمريكية لتعبث ليس في الشأن العراقي بل بكل الملفات اللاحقة ، وكأنّها حولت مجلس الأمن الدولي إلى مجلس للأمن القومي الأمريكي وربما دائرة ملحقة بوزارة الخارجية الأمريكية.
فما هي حقيقة البرنامج النووي الإيراني؟ وما هي أهداف هذا البرنامج؟ وهل هو مخصص للأغراض السلمية أو البحث العلمي؟ أم أنّ الهدف المركزي منه عسكري ذو نزعة توسعية سواء في الجغرافيا، أو في جغرافيا النفوذ السياسي؟

ترجع بدايات الطموح النووي لإيران إلى عهد الشاه محمد رضا بهلوي، حينما كانت علاقات إيران مع العالم الغربي في أحسن أحوالها، إذ تعاقدت الحكومة الإيرانية وقتذاك على شراء عشرين محطة نووية بين مفاعل أبحاث ومحطة توليد للطاقة الكهربائية، مما دفع أكثر من صحيفة أمريكية حينها إلى التساؤل عما يريده الشاه من هذا )الحشد النووي( وبعقود مع كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا (الغربية وقتها) ولم يشك أي من المراقبين المهتمين بالشؤون الإقليمية لمنطقة الخليج العربي والشرق الأوسط والمحيط الهندي أنّ الشاه يريد تعزيز قدرات إيران العسكرية كي تستحق بجدارة دور شرطي الخليج الحامي لحقول النفط وإمداداته عبر البحار، وعندما سقط نظام الشاه لم تسقط معه أحلام القوة الإمبراطورية الإيرانية، بل أخذت طابعاً عقائدياً من طراز جديد، ولكنّه في أصوله أكثر قدماً من الأفكار التي حاول الشاه تسويقها في المنطقة، وكلا المشروعين يهدف إلى تحقيق غاية واحدة، وهي دور إيراني إقليمي يفوق حجمها ويفوق حقها بكثير، وبسبب ما رافق النظام الإيراني الذي جاء إلى البلاد في 11 شباط 1979 من ممارسات هي مزيج من طفولة اليسار وتحجر اليمين، وبسبب من تدهور علاقات الدول الغربية مع إيران فقد ألغيت العقود السابقة وخاصة في ميدان التسليح أو العقود ثنائية الغرض، أو علقت في أحسن الأحوال، ومن بين تلك العقود عقود البرنامج النووي.

ولأنّ الاتحاد السوفيتي وفي زمن الحرب الباردة، كان يبحث عن ميادين للمواجهة مع الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب استراتيجية ترجح كفته في موازين القوى الدولية، سواء عن طريق الأحزاب الشيوعية أو الحركات اليسارية أو الانقلابات العسكرية، فإنّ إيران كانت استثناء من كل المدارس السائدة على مستوى التنافس بين المعسكرين، إذ أنّ الزعيم السوفيتي نكيتا خرشوف كان ينظر إلى إيران على أنها تفاحة على وشك أنّ تنضج وهناك يد سوفيتية تحتها تنتظر سقوطها لالتقاطها … ولكنّ الخيار المضاد في إيران هو الذي تحقق فمن جاء إلى الحكم هم ليسوا زعماء البروليتاريا وإنّما زعماء الدين الذي يعتبره الفكر الشيوعي أفيون الشعوب، ومع ذلك فإنّ البراغماتية السوفيتية لم تسمح لمبدئيتها أنْ تترجح على لغة المصالح التي باتت وشيكة فتضيع الفرصة المتاحة، بل تحركت على الفور لاستيعاب التجربة الإيرانية أو إيران في تجربتها الجديدة التي اختطف فيها رجال الدين السلطة من الشعب الذي قدم تضحيات جسيمة من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية، ولو كدولة مقابل دولة إنْ استحال التعامل الأيديولوجي بين التوجهات الفكرية السائدة في موسكو وطهران، وبدأت الحرارة تدب تدريجياً في قنوات الاتصال العلنية والسرية بين البلدين وكان أهم ميدان للتعاون الذي بقي بعض فصوله خارج دائرة الضوء، التعاون في المجال النووي، إذ تعهد الاتحاد السوفيتي بأنّ يحل محل الغرب في دعم جهودها للحصول على التقنية النووية، برغم كل صيحات الموت اليومية التي يوجهها المسؤولون الإيرانيون ضد الاتحاد السوفيتي مقترنة بصيحات الموت لأمريكا، وعلى الرغم من أنّ جزء من الأموال الإيرانية كانت قد دفعت مقدماً للدول الغربية التي تعاقدت معها لتوريد مفاعلاتها ومحطاتها النووية، فإنّ طهران لم تشأ إضاعة وقتها طويلا، إذ سرعان ما بدأت مفاوضات مع موسكو للحصول على التكنولوجيا النووية السوفيتية الأرخص سعراً والأقل تشدداً في الضوابط السياسية والأمنية المفروضة على الدول المستفيدة من معداتها، وهكذا بدأ التعاون الثنائي بعيداً عن رقابة الغرب أو رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية … وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي لم يعد بمقدور أحد أنْ يتصور مدى الاستفادة الإيرانية مما تمتلكه الحواشي السوفيتية السابقة، والتي وضعت كل شيء في خانة التهريب المنظم وصفقات البيع في السوق السوداء، وبعد أنْ استردت روسيا شيئاً من دور الاتحاد السوفيتي السابق في العلاقات الدولية، حاولت أنْ تستقطب الموارد المالية لبلد ظل يعاني من الأزمات الاقتصادية ويحاول أنْ يوظف الزمن والموارد والتكنولوجيا لإقامة هيكل اقتصادي يمتلك القدرة على المنافسة الحرة في الأسواق الدولية، إلا أنّ إخفاقات الماضي في التكنولوجيا المدنية ظلت ملازمة للصادرات الروسية، ولذا فقد عاد مردود الصادرات العسكرية أو المفاعلات النووية ليمثل مرتبة متقدمة في الميزان التجاري الروسي، وسط منافسة سلعية شديدة من قبل الغرب واليابان والصين وكوريا الجنوبية في السيارات والمكائن والمعدات وكذلك الأجهزة الإلكترونية والمنزلية والكماليات، ومع الوقت وبقدر حاجة روسيا إلى المال وحاجة إيران للتقنية النووية كان التعاون بين البلدين يصل مراحل متقدمة وعالية، ويبدو أنّ الأضواء لم تسلط بما يكفي على برامج إيران النووية وخاصة أنّ مرحلة القفزات الكبرى فيه كانت تتم أثناء تركيز حالة العداء الدولي الذي قادته الولايات المتحدة للعراق، وما كانت تزعمه من امتلاكه لبرنامج أسلحة دمار شامل بما في ذلك برنامج السلاح النووي، والذي لعبت الوكالة الدولية للطاقة الذرية دور شاهد الزور الذي لم يشأ إعطاء موقف قاطع بعدم صدق تقارير الاستخبارات الأمريكية عن العراق، كما أنّ إسرائيل لعبت في هذا الشأن دوراً خطيراً إلى أبعد الحدود وصل ذروته في تدمير مفاعل تموز عام 1981 .
ولكنْ وبعد فوات الأوان وبعد أنْ استكملت إيران الكثير من حلقاتها وصولاً إلى إنتاج قنبلتها الذرية الأولى، بدأ المجتمع الدولي بالتحرك مركزاً الكثير من الضوء على نوايا إيران، وما أنجزته في المرحلة السابقة، وبين التهوين من شأن البرنامج الإيراني، والذي تلعب فصوله الانتهازية الروسية والفرنسية والصين، والتهويل من شأن ذلك البرنامج الذي تؤدي فصوله الولايات المتحدة وبريطانيا، تمضي إيران مستغلة حالة انعدام الوزن في الموقف الدولي وتضارب المصالح بين القوى المؤثرة فيه، في إنجاز الكثير من الحلقات التي تقربها من أهدافها المرسومة، وهو ما سيضع العالم أمام تحد خطير وحينها ستبرز إلى السطح (كما حصل بعد أنْ فجّرت كوريا الشمالية قنبلتها الذرية الأولى) الدعوة إلى استعادة الحوار الأوربي الإيراني، ولكنْ سوف لن يعرف أحد حينها ما هي الجدوى من وراء مثل ذلك الحوار، فامتلاك التقنية النووية الموصلة إلى إنتاج السلاح الذري وإجراء أول تجربة عليه سوف لن يلغي حلقاته الفنية أجراء أي حوار أو تعهد إيراني، لأنّها حينذاك ستكون قد حققت معظم أهدافها كقوة إقليمية، في طريقها أنْ تصبح قوة دولية معترف بها، سواء وافق العالم على ذلك أمّ لم يوافق، ومن يدفع الثمن حينذاك، هم العرب وحدهم لأنّهم المستهدفون بالبرنامج الإيراني، على الرغم من أنّها ظلت تفعل ذلك مع ضجيج عال من أنّها تريد خلق توازن الردع الاستراتيجي مع إسرائيل، فهل تسعى إيران لموازنة الرعب النووي الإسرائيلي؟ إنّ مشروع إيران النووي، حتى وهو في أكثر لحظات التجلي العقائدي بتبني الشعار الإسلامي كان يضع الخطط للتمدد في الوطن العربي، على وفق ما يرسمه شعار تصدير الثورة الإسلامية المتبنية لنظرية ولاية الفقيه بعد استكمال حلقات إخضاع العراق لسيطرتها الكاملة، وإذا ما وجدت طهران أنّ هناك بعض المفاصل المعرقلة لهذا الزحف، فإنّها ستلجأ إلى قوة الردع التي امتلكها وهي السلاح النووي،وسوف تعتمد الحروب التقليدية الصغيرة هنا وهناك من أجل تحقيق أهداف مرحلية مرسومة، وبعد السيطرة على العراق تنطلق للسيطرة على الساحل الغربي للخليج العربي انطلاقاً من المكاسب المتحققة في العراق والجزر العربية الثلاث التابعة للإمارات العربية والتي تحتلها إيران منذ بداية عقد سبعينات القرن الماضي.
إنّ من يفترض أنّ القنبلة الإيرانية المنشودة هي للدفاع عن النفس أو لمنع أي تهديد محتمل، أو من أجل مواجهة القنبلة الذرية الإسرائيلية يقع في وهم كبير وخطير وخاصة إذا كان من العرب، فإيران تسعى للاستقواء في محيطها الإقليمي وتصبح قوة ردع استراتيجية لدول ظل خيارها بعيداً عن التفكير بالردع النووي، أمّا لأنّ أمريكا لا تسمح لأي بلد عربي أنْ يسير في هذا الاتجاه من الدول العربية الصديقة لها، أو لأنّ إسرائيل جاهزة لتوجه ضربة عسكرية مباشرة لأي مشروع تستشعر منه الخطر الجدي كما حصل لمفاعل تموز العراقي.
إنّ عقد مقارنة بين البرنامجين الإيراني والإسرائيلي، لا يعدو عن كونه مغالطة ومحاولة لخلط الأوراق، اما طرح فكرة أنّ المشروع الإيراني يهدف إلى نصرة العرب والمسلمين أمام التهديد الإسرائيلي، فهو محاولة أخرى لوصف إيران بأنها أكثر أيمانا بالدفاع عن المسجد الأقصى وأكثر حماسة من العرب والفلسطينيين في هذا التوجه، وهو محاولة لخداع المواطن العربي عن حقيقة إيران وما تحمله من نوازع شر تجاه العرب، ووصم العربي بأنّه عاجز عن النهوض بما تمليه عليه واجباته تجاه وطنه وأنّه مضطر للاستعانة بأطراف أخرى ربما لا تقل عداوة عن إسرائيل كي تقوم بذلك نيابة عنه، ثم أن المشروع النووي الإيراني لو كان موجها ضد إسرائيل لما وجدت إسرائيل في نفسها القدرة على الصبر الطويل مع مشروع لم يعد في مجاهل التكهنات والتوقعات، بل هو مشروع معروف الصفحات المنجزة على الأرض وبمواقع معلومة من قبل الجميع وعبر المصادر الرسمية والإعلامية الإيرانية نفسها وبمنطق فيه الكثير من التبجح والغطرسة، ومع ذلك وعلى الرغم من الخبرة العالية التي تحاول الموساد إضفاءها على عملياتها السرية، فإن أحدا لم يسجل تعثرا أو أية عرقلة لأي من برامج إيران النووية الكثيرة، بما في ذلك محطة بوشهر والتي بدأت عملية تشغيلها التجريبي في شباط/ فبراير 2009، قد يطرح هذا الطرف أو ذاك أن إسرائيل أخفقت في الوصول إلى عميل ينجز لها ما تريد، وهذا افتراض تدحضه تجارب التعامل مع الإيرانيين إذ لا يوجد بلد سهل على الاختراق الأمني كما هو حال إيران.

لقد لاحقت إسرائيل برنامج العراق النووي ولما يزل في عالم الأمنيات والتخطيط الأولي للبدء به، إذ تم تفجير المفاعل الذي تم التعاقد عليه مع فرنسا وقبل شحنه من الميناء الفرنسي، وقد أكدت المعلومات اللاحقة أن عملاء فرنسيين قد زودوا الموساد الإسرائيلي بمعلومات دقيقة عن محتويات الشحنة المراد إرسالها إلى العراق، كما لاحق الموساد الإسرائيلي العلماء المشتغلين في البرنامج النووي العراقي فقتل العالم النووي المصري يحيى المشد أثناء وجوده في الفندق في باريس، وقتل أكثر من عالم عراقي ضمن فريق العمل المكلف برسم التصاميم الأساسية للبرنامج النووي العراقي، ولم تتوقف جهود إسرائيل لمنع العراق من الحصول على التكنولوجيا النووية حتى للأغراض السلمية، إلا بتوجيه ضربة جوية لمفاعل تموز النووي القريب من بغداد في حزيران / يونيو 1981 مستغلة انشغال العراق بحربه الدفاعية مع إيران وبتعاون مخابراتي مع عملاء فرنسيين أيضا، وكذلك ما فعلته ضد برامج صناعة الصواريخ المصرية في عقد الستينات من القرن الماضي وقتلها الخبراء الألمان الذين كانوا يقدمون المساعدة في تلك الصناعات، ولعل القصف الذي تعرضت منطقة عسكرية سورية متروكة، تحت لافتة ضرب منشأة نووية ما يؤكد خشية إسرائيل من أي خطوة تعتقدها في الوطن العربي يمكن أن تشكل تهديدا لأمنها، فلماذا لا تنظر إسرائيل إلى البرنامج النووي الإيراني الحقيقي وذي الأهداف العسكرية، والذي تجاهر إيران في حديثها عن تطوراته وعمليات تخصيب اليورانيوم وأجهزة الطرد المركزي التي وصلت أكثر من خمسة آلاف، وتخطط لإيصالها إلى خمسين ألف جهاز بنفس المخاوف التي تعاملت فيها مع الملف النووي العراقي أو المنشأة النووية السورية المفترضة، أو قبل ذلك مع برامج التسلح المصري؟
صحيح أنّ لإسرائيل نوايا توسعية تتركز على خلفيات مستلة من أساطير دينية تقول إنّ حدود دولة إسرائيل تمتد من النيل إلى الفرات، ولكنّ الاختلاف في الخنادق المتقابلة من حيث الانتماء القومي والديني والواضح المعالم تماماً يجعل من إمكانية التوسع الإسرائيلي احتلالاً محدد التوصيف تجب مقاومته بكل الوسائل حتى يصل الى مستوى الفتوى الدينية بالجهاد لمقاومته، ثم إن الاحتلال سيكون موصوفا بموجب القانون الدولي والذي لابد أنْ يجعل له نهاية أمّا بقوة الكفاح الوطني المسلح أو بقوة الردع اللاحق المستند على ما يعطيه ميثاق الأمم المتحدة من حقوق للدول المحتلة أراضيها أنْ تقاوم المحتلين، في حين أنّ التداخل في الخنادق لأسباب دينية أو مذهبية، وشعار تصدير الثورة الذي تمت إزالته كلافتات من أجهزة الإعلام، وما يزال يفرض نفسه بقوة كخيار نهائي للزعامة الإيرانية وخاصة مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، وتم تحوير السياسة الإيرانية كلها كي تتطابق مع موجبات وضع ذلك الشعار موضع التطبيق، وخاصة في البلدان التي تعيش فيها مكونات شيعية، يتم دعمها تدريجياً حتى تصبح قوة سياسية تمتلك منابر وأدوات التحرك، مما يمكّن من فرض أمر واقع، أمّا بقوة المال أو بقوة السلاح أو بهما معا، إضافة إلى قوة التنظيم المستند على وصايا مرشد الثورة الإسلامية على الأوساط الشيعية في نطاق ما يسمى (بولاية الفقيه) ووصايته، بحيث يأخذ موضوع الولاء طابعاً دينياً محضاً ومن لا يستجيب لندائه فإنّه مهدد بالإخراج من الملة، ومن الحصول على شفاعة أئمة المذهب وبركاتهم ومن هنا نجد التفسير الوحيد المقبول لتبعية حزب الله اللبناني والأحزاب الشيعية القديمة والجديدة في العراق، لإيران وانتظارها لإرشادات المسؤولين هناك للعمل بموجبها، وبالتالي تمثل هذه الأمور ونتيجة لبناء تربوي امتد لسنوات عمر الفرد الشيعي البسيط بدء من مراحل التلقي الأولى في التثقيف على هذه المعتقدات جزءً مهماً من القناعات الثابتة له، وإذا ما فكر بالتخلي عن جزء منها فإنّه سيعيش صراعاً حاداً بين الوعي المكتسب من الموارد الثقافية والعلمية، والموروث الذي نشأ عليه وانغرس في أعماقه نتيجة التكرار المتواصل، وهكذا يبدو طموح إيران في التأثير في محيطها الجغرافي، مستنداً على أيديولوجية دينية في ظاهرها طائفية في جوهرها تسعى باسم الإسلام إلى تركيع العرب، لاستعادة أمجادها الإمبراطورية الغابرة وإعادة ترتيب صفحات التاريخ بطريقة معكوسة، فبعد أنْ فتح العرب المسلمون بلاد فارس وقوضوا أركان الإمبراطورية الساسانية، ها هي إيران تريد نشر التشيع بقوة الردع النووي المدعوم بالبترودولار وقوة عسكرية تقليدية يتم استعراضها بين آونة وأخرى، ويتم خلالها الإعلان عن أجيال جديدة من الصواريخ البالستية، التي لن تخيف الولايات المتحدة، ولكنّها تترك العرب في دوامة من التردد والتحسب من دواعي هذه القوة …خاصة وأنّ إيران توصلت إلى قناعة راسخة من أن السلاح الذي يكدسه العرب ليس للاستخدام وإنما لتلبية حاجة شركات تصنيع الأسلحة في الولايات المتحدة وأوربا، لتصدير منتجاتها أو لمجرد الاستعراض العاجز عن منح النفس شيئا من الثقة والطمأنينة الزائفة، ثم إن الكيان الواهن لبعض النظم الرسمية العربية يشدها بقوة إلى حالة من التردد والخوف من المجهول والتزمت بهذا الخيار إلى حدوده العليا مما ألحق بها أضرارا كبرى أغرت القوى الإقليمية والدولية لتطمع فيها وتستهين بها.

إيران تخطط على المدى البعيد لجعل العرب أقلية في بلادهم كما هو شأن الأقوام الخاضعة للسطوة الفارسية داخل الأراضي الإيرانية عبر سلسلة من الخطوات المتلاحقة كالهجرة المنظمة إلى بلادهم أو عن طريق الترهيب بقوة الجمهورية الإسلامية.
إن إجراء مقارنة بين ما جرى في كوريا الشمالية وما يجري في إيران أمر غير متاح، لا من الناحية السياسية ولا من الناحية التقنية، فكل دول الجوار والإقليم الجغرافي الذي تقع فيه كوريا الشمالية، دول أكثر تطوراً من كوريا الشمالية نفسها ولها اقتصادات تفوق في تنوعها وقدراتها المالية والتكنولوجية إمكانات الاقتصاد الكوري الشمالي، وتستطيع هذه الدول بقرار سياسي أنْ تنتج السلاح النووي بوقت قصير لو أرادت ذلك، بحيث يمكن أنْ يصبح برنامج كوريا الشمالية النووي طفلا لاهثاً وراء برامج الدول الأخرى كاليابان وكوريا الجنوبية ولكن دول العالم المتمدنة بدأت في تنافس اقتصادي لإثبات جدارة نظمها السياسية في عالم اليوم الذي بدأ يميل إلى الابتعاد عن مصادر الطاقة الأمينة، ومع ذلك فقد لاحظ المراقبون حجم المخاوف التي انتابت كل من اليابان وكوريا الجنوبية وشعبها ينتمي إلى أصل واحد مع شعب الشمال، مما يحدث من تطورات هناك، ففي الوقت الذي أعلنت بيونغ يانغ عن نيتها إطلاق قمر صناعي لأغراض الاتصالات بواسطة صاروخ بعيد المدى في مطلع نيسان / أبريل 2009، خرج الكوريون الجنوبيون بتظاهرات صاخبة منددين بنوايا أشقائهم الشماليين معتبرين ذلك تهديدا لأمنهم وأمن المنطقة، مع أن بلدهم لديه قدرة تفوق قدرة الشمال على دخول النادي النووي، وكذلك الحال بالنسبة لليابان،ومع كل ذلك يدعو بعض السذج ممن يدعون لأنفسهم الحكمة، إلى عدم التخوف من البرنامج النووي الإيراني، لأنهم يتصورونه سيفا باليد العربية ضد البرنامج النووي الإسرائيلي، أمّا الصين فهي دولة نووية منذ أكثر من أربعين عاماً وخياراتها الأيدولوجية قريبة أو متطابقة إلى حد ما مع خيارات كوريا الشمالية، مما لا يترك مجالاً لتوقع احتكاكات قريبة بين الطرفين، أو يجعل بكين تشعر بشيُ من القلق تجاه برنامج بيونغ يانغ النووي، والحال ينطبق على روسيا بدرجة مماثلة للنموذج الصيني، بل يتفوق عليه بقدرة موسكو على إيصال أسلحتها النووية، فهل ينطبق الأمر على الدول المجاورة لإيران؟ باستثناء باكستان فجميع دول الشرق الأوسط والخليج العربي تفتقر إلى القاعدة العلمية والتكنولوجية التي تؤهلها لامتلاك الموازن الاستراتيجي للبرنامج النووي الإيراني، ولعلّ ما كان يحصل في العراق خلال حقبة السبعينات، هو انتباه مبكر لما تضمره إيران لجيرانها، فحاول الوصول قبل وقوع المفاجأة إلى التوازن المتقابل لعوامل الردع، ولكنّ البرنامج النووي العراقي تمت ملاحقته بشكل لم يحصل له مثيل مع أي برنامج آخر بما في ذلك الصيني والهندي والباكستاني، أمّا بقية دول الجوار الإيراني فإنها لم تضع على جدول أعمالها أي هدف ذي طموح نووي حتى للأغراض السلمية، ولم تأخذ بأسباب التطور (وخاصة دول الخليج العربي) إلا في وقت متأخر، مما سيجعل من إمكانية اللحاق بالبرنامج الإيراني أمرا في غاية الصعوبة أو الاستحالة، ولكنّ الطابع العام لذلك التطور كان عمرانيا وخدميا وفي قطاع الصناعات الغذائية وصناعة تكرير النفط، مما يضع الدول العربية في موقف ضعيف مقابل إيران، إذ أنّ الأخيرة نشطت في عقد اتفاقيات واسعة مع الدول الغربية لنقل التكنولوجيا في مختلف قطاعات الصناعة وبحلقات متطورة، وعلى هذا فإنّ إجراء مقارنة بين الأخطار التي يمكن أنْ تنشأ عن البرنامج النووي الإيراني والبرنامج الكوري مقارنة غير موفقة لاختلال موازين القوى إلى حد خطير في المنطقتين الإقليميتين، فهل تعامل العالم، سواء بدوله الكبرى أو بمنظماته الدولية والمتخصصة، مع كل ملف إيران النووي بما يمكن أنْ يتركه من آثار على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، أمّ تم التعامل مع كل الملفات بآلية واحدة، تتجاهل المخاوف الإقليمية المتباينة.

لقد تفاوتت مواقف الدول تجاه الملف النووي الإيراني تبعاً للمواقف السياسية بين كل دولة وإيران، وما تأمله كل دولة من إنماء علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع إيران، بل أنّ موقف كل دولة لا يأخذ طابعاً مستقراً وإنما كان يتغير على وفق ما يطرأ من مستجدات في التجاذب الدولي والإغراءات البديلة وهذا الاختلاف أعطى إيران فسحة عريضة من القدرة على المناورة واللعب على التناقضات الحاصلة داخل الأسرة الدولية، كي تمضي قدماً في تحقيق الكثير من الإنجازات في برنامجها النووي من دون إثارة ردود فعل جديدة أو مؤثرة في السلوك الإيراني ولعل الموقف الروسي يجسد مزيجاً من التعامل الآلي البعيد عن التقدير الاستراتيجي لخطورة القنبلة الذرية الإيرانية عليها مع نظرة انتهازية منافقة لما يمكن أنْ يجلبه لها ذلك الموقف من مزايا اقتصادية وعقود جديدة مع إيران .. ويعتمد التجاهل الروسي لمخاطر الأسلحة النووية على مقربة من حدودها الجنوبية، إلى ما تمتلكه موسكو من ترسانة عسكرية من القنابل والرؤوس النووية والصواريخ بمختلف المديات، مما يشكل ردعاً مخيفاً لإيران أو لأية دولة تفكر بالتقرب من جدران قفص الدب الروسي، ولهذا فلم يكن مستغرباً أبداً أنْ تقلل روسيا من شأن الخطوات التي تقطعها إيران في مجال البحوث كي لا تلزم نفسها بأي موقف سياسي في مجلس الأمن يمكن أنْ يلحق ضرراً بمصالحها خاصة، وقد لا يبتعد الموقف الصيني عن الموقف الروسي إلا ببعض التفاصيل الجزئية، أمّا الموقف الفرنسي فإنّه وحتى حينما يتحدث عن خطورة البرنامج النووي الإيراني، فإنّ باريس لا تريد أنْ ترى كلاً من الصين وروسيا، تسبقانها إلى السوق الإيرانية، خاصة في زمن التقلبات الكبيرة بأسعار النفط، وهذا ما كاد أنْ يتحول إلى مسرحية مملة حول تنقل الملف النووي الإيراني بين مجلس الأمن ومجلس محافظي الوكالة الدولية، ثم تذهب إلى اجتماع السداسية والاتحاد الأوربي، وهكذا تتيح كل هذه الفوضى لإيران أنْ تقطع إلى الأمام المزيد من الخطوات في طريق اكتساب الخبرة النووية ولاحظ المراقبون كيف تعامل المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي، مع الملف النووي الإيراني بمهنية عالية لم تعهد منه من قبل أثناء وصول ملف أسلحة الدمار الشامل العراقية إلى درجة التسخين العالية التي سبقت الحرب عام 2003، فقد أضاع البرادعي ما امتلكه حالياً من حسم ووضوح، ففي الوقت الذي كان العالم ينتظر منه قول كلمة حق واحدة مما توفر لديه من معلومات مستقاة من تقارير المراقبين الدوليين، التي لم يشك أحد في أنّها أشارت إلى نفس الحقائق اللاحقة التي أكدها البحث الأمريكي المستميت للوصول إلى دليل على صدق الاتهامات التي أطلقها الرئيس بوش لتبرير حربه على العراق، ولكنّ الفرق شاسع بين أن لا تجد بداً من الإقرار بالحقيقة وهي أنّ العراق لا يمتلك شيئاً مما نسب إليه من أسلحة أو برامج أسلحة، وبين أن تتعمد الغموض للإساءة إلى العراق والتحريض عليه الذي اعتمده البرادعي.
فالبرادعي ضيع الفرصة على العراق وربما برر إلى حدود معلومة العدوان على العراق ثم احتلاله وتدمير بنية الدولة فيه، وتعامل مع الملف العراقي بمواقف وتصريحات غامضة، كان الهدف منها إضاعة الحقيقة وسط ركام هائل من التضليل والادعاءات الأمريكية الباطلة، ويبدو أنّ ذلك كان هو الثمن الذي كان عليه أنْ يدفعه للحصول على تجديد لمنصب إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية وهو ما حصل فعلا.
وكما تعامل رجل القانون الدولي الحاذق الدكتور البرادعي، مع الملف العراقي من دون خبرة فنية بتقنيات الطاقة الذرية، فإنّه اعتمد الأسلوب ذاته مع تأكيدات غامضة بأنّ إيران تمتلك برنامجاً سلمياً فقط، وكان ينفي على الدوام الطابع العسكري لبرنامجها، وهكذا يبدو البرادعي كمن يحاول إصلاح خطأ فادح ارتكبه بجريمة بشعة وكان له أثر بالغ في إعطاء المسوغ لبوش في غزو العراق ولأنّ موقفه الانتهازي الصامت إزاء ما كان يحضّر ضد العراق من خطط الحرب، كان مثار غضب الكثير من المراقبين، فقد تميزت مواقفه بالتحفظ الشديد إزاء البرنامج النووي الإيراني بالاستغراب بحيث طفق في خشية كاملة من احتمال ابتزازه من جانب إيران أو كمن يريد أن يجنب نفسه ووكالته أية مسؤولية فيما يمكن أنْ تتعرض له إيران هذا في حال تعرضها لعمل عسكري، وبموقفه هذا يضع البرادعي الدول العربية تحت تهديد المطرقة النووية الإيرانية، كما كان قد بدأ الخطوة الأولى عندما أسهم مع الجهد الأمريكي بتجريدها من عناصر قوة التوازن الاستراتيجي العربي الإيراني حينما أخرج لعراق من خط الدفاع العربي بوجه الأخطار الإيرانية.

وتتضارب المواقف بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي حول ما يجب أنْ يتخذ من قرارات ضد إيران بسبب إصرارها على تحدي المجتمع الدولي واستمرارها في برنامجها النووي، وفي تخصيب اليورانيوم لمستويات تؤكد أنه مخصص لإنتاج السلاح النووي، والذي ينظر إليه على أنّه أول خطوة للوصول إلى القنبلة الذرية وقد أغرى هذا الانقسام بالرأي بين الدول المؤثرة في العلاقات الدولية، إيران لتتلاعب بأعصاب اللاعبين جميعاً رافضة أكثر من مرة مجرد الاستجابة للجداول الزمنية التي وضعتها مجموعة الدول الست، أو الاتحاد الأوربي، وليس الانقسام في مواقف دول جبهة التفاوض مع إيران هو وحده الذي أغراها بالتشدد وإنّما هناك عوامل أخرى منها وصول إشارات أمريكية أنها على استعداد لمنحها فرصة الاستقواء على العالم من خلال تدخل سافر في الشأن العراقي، وضع الولايات المتحدة في مأزق إضافي، فالمقاومة المسلحة التي انطلقت ضد الوجود الأمريكي وأوشكت أن تلحق به هزيمة ساحقة، كما اعترف بذلك الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، حينما قال بأن بلاده كانت على وشك الإقرار بالهزيمة عام 2006، وأحسنت إيران اللعب بهذه الورقة وسخرتها كما ينبغي، بل ولعبت دورا مزدوجا في العراق، فهي من جهة دعمت بكل طاقتها العملية السياسية التي جاء بها الأمريكيون، ومن جهة أخرى كانت تظهر العداء الشكلي للولايات المتحدة، وكان مفهوما أن إيران تسعى من خلال هذه الازدواجية إلى الحصول على مكاسب على خط برنامجها النووي وعلى خط إطلاق يدها كقوة إقليمية في العراق بشكل خاص وفي منطقة الخليج العربي عموما.
ومما يدعم الموقف الإيراني في برنامجه النووي، أن إيران تمتلك موارد اقتصادية مثل النفط والغاز وسواحل طويلة ومحاطة بدول جوار انتهازية، كل ذلك يعطيها فرصة للمناورة على المجتمع الدولي على الرغم من وجود العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، فالوضع مع هذا الواقع يبدو حيويا متعدد الإمكانات، وهو الذي ساعدها على مواجهة الكثير من مفردات العقوبات التي يمكن أنْ يفرضها مجلس الأمن، فهي تخضع للعقوبات الاقتصادية الدولية منذ مدة طويلة واستطاعت إقامة شبكات وقنوات من الواجهات المخادعة، هدفها كسر تلك العقوبات واستطاعت فعلاً تحقيق إنجازات في هذا المجال، ثم أنّ إيران دولة كبرى في إنتاج الغاز على مستوى العالم وهي الدولة الثانية في إمدادات النفط في السوق الدولية في الوقت الحاضر، وتعي جيداً أهمية مكانتها في مجال إنتاج النفط وتسويقه، ومدى تأثير وقف إمدادات النفط الإيراني على أسعاره أمام أية أزمة جديدة، وقد وضع النفط والغاز تحت تصرفها موارد هائلة للبحث عن السلع التي ستحتاج إليها من أسواق بديلة عن مناشئها الأصلية .. ثم إن ّ إمدادات الغاز الطبيعي الإيراني عبر أنابيب ممتدة إلى جاراتها الشمالية يعطيها قدرة أكبر على المناورة والتملص من العقوبات وضمان موارد العملة الصعبة، وإذا ما أخذنا الواقع الزراعي في إيران فقد يكون بوسعنا افتراض أنْ تكون العقوبات المفروضة على إيران في حالة التوصل إلى اتفاق بشأنها بطيئة التأثير، على خلاف ما هو واقع الآن في كوريا الشمالية فالأخيرة نجحت مبكراً في نقل التكنولوجيا وركزت على الجانب العسكري فيها، مما جعلها عرضة لأزمات اقتصادية مؤكدة وإنْ كانت تبالغ أحياناً في إعطاء صورة إعلامية دولية لها، كي تحقق بعض المكاسب من شقيقتها الجنوبية ومن المنظمات الإنسانية … فإلى أين تتجه إيران في برنامجها النووي؟ وهل تمتلك الحد الأدنى من المصداقية حينما تقول بأنّه مخصص للأغراض السلمية؟ ومتى ستقف منطقة الشرق الأوسط بذهول أمام إعلان إيراني بإجراء أول تجربة نووية؟ ويحمل في نهايته تطمينات لدول المنطقة، بأنّ عليها أنْ تشعر بالاطمئنان من نوايا إيران وأنّ هذا السلاح غير موجه ضد أحد، بل هو لمنع الاستهانة بقدرات إيران، وقد تذهب في شعارات سياسية إلى مدى أبعد وتقول بأنّ هذا السلاح من أجل القدس ودفاعاً عن الإسلام … وحينها سيكشف العرب بأنّ الأرتال الإيرانية ستسير فوقهم ثم تتوقف عند الحدود التي رسمتها إسرائيل لنفسها، وحينها يتم توزيع مناطق النفوذ بين إيران وإسرائيل.
يطرح في الشارع العربي تساؤل لا يخلو من سذاجة واضحة، وهو لماذا ينظر بعض العرب بهذه الحساسية والمخاوف من قنبلة نووية إيرانية محتملة؟ ولا يخشون من قنبلة باكستانية مؤكدة؟
من المعلوم أن باكستان ومنذ قيامها اختطت لنفسها نهجا سياسيا مؤيدا للعرب في قضاياهم المصيرية ولاسيما القضية الفلسطينية، على الرغم من أنها كانت على الدوام جزء من التحالف الغربي الذي يدعم إسرائيل، كما أن باكستان لم تسجل على نفسها في أي وقت من الأوقات ومنذ قيامها تدخلا في الشأن الداخلي لأي بلد عربي بما فيها التي تختلف معها في التوجهات السياسية ولا تمتلك أذرعا لمثل هذه المهمات حتى في حال وجود رغبة أو إرادة في مثل هذا التدخل، كما أن تاريخها لم يسجل أطماعا سرية أو معلنة في أية بقعة أرض عربية ولم تشارك بأي جهد سياسي أو عسكري مضاد لأي بلد عربي، أما إيران ففضلا عن كونها احتلت أجزاء كبيرة من الأراضي العربية مثل إقليم الأحواز والجزر العربية الثلاث العائدة للإمارات العربية، فإنها في واقع الحال لا تخفي أطماعها بالكثير من الأجزاء مما لم تتمكن من إلحاقه بها، والحلم الإيراني بضم البحرين ما يزال يطرق أبواب العرب الذين يحسنون الظن بنوايا إيران تجاه أراضيهم، وما حصل مع العراق في مراحل مختلفة من القرن الماضي وكذلك ما يحصل في زمن الاحتلال الأمريكي يجسد حجم ما تنوي إيران أن تفعله في المنطقة، ولم تتوقف أحلام التوسع الإيراني على صعيد المنطقة وإنما تريد أن تضمن سيطرتها الكاملة عليها ثم تنطلق منها إلى سائر البلاد الإسلامية، وربما تحلم بأكثر من ذلك بكثير، فمن يعرف تفاصيل الرسالة التي وجهها الخميني عام 1989 إلى الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف يدعوه فيها إلى اعتناق الدين الإسلامي، ولو أن الخميني كان متجردا من نوايا التوسع لما أدى ذلك إلى التعامل مع دعوته هذه بعدم القناعة، ولكن تجربة الرجل لم تترك خيارا لأحد لافتراض الصدق أو الحرص على الإسلام.