قراءة متأنية في الربيع السعودي الإيراني

الجزء الاول

دخول الدفء إلى غرف الحوار السعودي الإيراني قبل دخول فصل الربيع، لم يكن مفاجئا لكثير من المراقبين الذين لهم خبرة متراكمة في أساليب إيران الملتوية في إدارة ملفات علاقاتها على المستويين الإقليمي والدولي، ذلك أن آخر ما يحتويه القاموس السياسي الإيراني، هما عاملا حسن النية، أو السماح لتلك الاتفاقيات أن تعمّر كثيرا، فأمر كهذا لم يتمكن من شق طريقه إلى مبنى وزارة الخارجية، حتى في الزمن الذي كانت هذه الوزارة قادرة على رسم السياسة الخارجية للبلاد، أو تقديم مقترحات مقبولة لدى الزعامة السياسية في إيران.
بتقديري أنّ لا أحد يفهم الإيرانيين على حقيقتهم وماذا يقصدون عندما يقولون لشيء نعم أو يقولون لا أو لا يعطون رايا صريحاً، إلا العراقيون والعراقيون وحدهم من دون خلق الله جميعا، ليس بسبب علاقات البلدين في أعقاب حرب الثماني سنوات، بل بسب تاريخ ممتد من الجغرافيا السياسية، ذات الإفرازات الكارثية على التاريخ، خاصة وما حصل من تراكم هائل من الضغائن المتبادلة حينا، والكراهية العميقة من جانب الجار الشرقي للعراق عليه، تم التعبير عن كثير من صفحاتها، إما على شكل احتلالات عسكرية مباشرة، أو احتلالات بواسطة وكلاء لا يقلون حرصا على مصالح فارس وتفانيا في خدمتها، أكثر مما لو كانت فارس هي من تدير ملف العراق بصورة مباشرة، أو على شكل مشاعر مكبوتة يمنع ظهورها الضعف الذي تستشعره تجاه قوة العراق، وكانت تعبر عن نفسها حيثما وجدت متنفسا لها، ويعود ذلك إلى آلاف السنين من تبادل لأدوار القوة والضعف على جانبي الحدود.
وبالتالي فإن ما يصدر عن أي كاتب عراقي، لا بد أن يحمل بين طياته فهما متأنيا ربما يفوق ما يحمله أي مهتم عربي في الشأن الإيراني، والذي لم يحصل إلا نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، والذي جاء مخيبا للآمال بسبب سوء الفهم في التعامل مع أحداث تلك الحقبة من التاريخ، فكثير من الأشقاء العرب اختاروا التشكيك بحقيقة ما جرى، وهناك من اختار الاصطفاف إلى جانب الرؤية الإيرانية في التعاطي مع ما يسمونه من الحساسية العراقية المفرطة في ما يجري من أحداث على الجانب الآخر من الحدود.
ابتداءً لأقل بوضوح إن أي بلد في العالم لا يريد أن يرى بلدا مجاورا له، وقد امتلك أدوات قوة عسكرية أكبر منه، لأن ذلك قد يدفع القوي للتنفس عسكريا على جاره أو جيرانه الأقل منه قوة، ومن هنا نتفهم ما يقال إن الإسبان يقولون “من سوء حظ إسبانيا أن تكون جارا لفرنسا، وكذلك ينصرف رأي المكسيكيين بشأن وجود الولايات المتحدة على حدودهم الشمالية.
ليس من حق أي طرف، سواء كان دولة أو هيئة أو فرد، أن يعترض على رغبة أية دولة في تجنيب نفسها وحدودها، الشر القادم من الخارج، شريطة ألا يبعث ذلك برسائل قابلة للفهم الخاطئ من جانب الطرف الآخر، أي يجب امتلاك أسباب القوة الكافية لمنع أي طرف يحاول خوض خدعة الحرب لتحقيق أهدافها من دون خوضها فعلا، وعلى هذا وانتقل من التعميم إلى التخصيص فأقول، إن المملكة العربية السعودية كانت محقة في عقد صفقة مع إيران بوساطة صينية، ما تزال بنودها مجهولة، لوقف تعرّض مدنها للقصف الصاروخي القادم من حدودها الجنوبية، والمصنّع في إيران، ذلك أنها رأت أنها تُستدرج إلى مستنقع خطير، وهي أكثر دولة تعرف غاطس أوْحاله، عندما كانت هي التي صممت ساحة العمليات في اليمن لاستدراج مصر عبد الناصر إليها في مطلع ستينيات القرن الماضي، وتركت النخبة من القوات المصرية عالقة في أوحال اليمن، والتي أدت فيما أدت إليه إلى هزيمة العرب في حرب الأيام الستة، أو بدقة أكبر حرب الساعات الست في حزيران 1967، ولأن الذاكرة الرسمية السعودية تحتفظ بدروس الماضي ونتائجها، فقد سعت أول ما سعت إليه بعد عام 2020، إلى وقف تعرض المناطق الجنوبية من أراضيها بالصواريخ البالستية الإيرانية، التي قيل إنّ الحوثيين هم الذين يطلقونها، ثم تطورت تلك الضربات بحيث باتت تقترب رويدا من المدن القصية في شمالي السعودية، بما فيها الرياض ومناطق انتاج النفط في المنطقة الشرقية من المملكة، ولهذا تعجل المفاوض السعودي الذي كان يتباحث وراء جدران مغلقة، في عقد صفقة سرية مع اللاعب الرئيس في المشهد كله، أي إيران لوقف تهديدها للأمن الوطني السعودي وأمن الملاحة في الخليج العربي ومضيق هرمز والبحر العربي، بعد أن نكثت الولايات المتحدة بكل التعهدات التي أطلقتها لتوفير الحماية لحلفائها في منطقة الخليج العربي، مما أسقط مفهوم الأمن المستورد سقوطا مدويا.
حصل كل ذلك سريعا من دون أن يسأل المسؤولون السعوديون أنفسهم عن أسباب تركهم اليمن في منتصف الطريق، نهباً لهيمنة إيرانية حقيقية على الحدود الجنوبية للمملكة، ويبدو أن المملكة تفضل أن يجاورها الحوثي باعتباره أقلية مذهبية، على أن تجاورها دولة يمنية قوية موحدة، لأسباب تتعلق بتعقيدات تأثير التاريخ على الجغرافية السياسية بين البلدين، ولكن من حق المراقب الحريص على المملكة العربية السعودية، لاعتبارات تتعلق بمكانتها في العالم الإسلامي ولاعتبارات تتعلق بأمنها القومي، مع خصوصيته الإقليمية كجزء من الأمن القومي العربي، نعم من حقه أن يسأل، هل هناك تأكيدات جدية من جانب إيران أو المليشيات الحوثية، بأنهما سيحترمان تعهداتهما بهذا الخصوص؟ ولا يشكلان خطرا جديا أكبر من خطر دولة مؤسسات تقيم علاقاتها الخارجية استنادا إلى مبادئ القانون الدولي؟ وهل نسيت السعودية الشعارات التي أطلقها زعماء الحوثي هم ومليشيا حزب الله اللبناني بوقاحتهم المعهودة، بأن المواجهة مستمرة حتى تحرير مكة المكرمة والمدينة المنورة من هيمنة (آل سعود) عليهما وحتى ترفع فوقهما رايات التشيع.
لقد خاضت السعودية ستة حروب في اليمن ضد مليشيا الحوثي، ولم تتمكن أو لم تشأ من حسم المعركة وتحقيق النصر السهل، لو أنها هي ونظام علي عبد الله صالح، امتلكا وضوح الرؤية والإرادة السياسية والجدية في ذلك ما استمرت الأزمة لهذا الزمن، لقد كانت إطالة أمد الأزمة ومباشرة فن إدارتها دون الحرص على حلها، هو الذي أدى إلى تدويل تلك الأزمة، واستشراء الفساد السياسي حتى داخل المؤسسة العسكرية في اليمن.
لقد حرصت الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وبريطانيا على إبقاء الحرب كتابا مفتوحا إلى الأبد، وجعل السعودية تطلق وعودا فوق طاقتها بحيث وصل الأمر إلى أن محمد بن سلمان أطلق وعدين خطيرين بداية انطلاق عاصفة الحزم، الأول أنه سينقل الحرب إلى داخل إيران، والثاني أن السعودية ستحصل على سلاح الردع في اليوم الثاني لإعلان إيران امتلاكها له، وهذا هراء في ضوء التوازنات الدولية، لأن الوقائع على الأرض تؤكد استحالة تنفيذ الوعدين معاً، فإذا كانت إيران من وجهة نظر القوى الدولية الكبرى، دولة توازن في الشرق الأوسط، ويراد لها أن تكون ثاني قوة نووية في المنطقة مع إسرائيل لتطويق العرب بين فكي كماشة، وأن دور إيران المرسوم لها دوليا يتلخص بزرع الانقسام العمودي في الوطن العربي والعالم الإسلامي، لوقف تأثيرهما في مسار العلاقات الدولية، فإنها ستبقى أكثر قدرة من إسرائيل على تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، لأنها هي بنت المنطقة جغرافيا، وهي تنتمي دينيا إلى الإسلام بصرف النظر عن حقيقة ذلك الانتماء، لهذا حققت إيران خميني أكثر من 90% من هدف إثارة الفتنة بين العرب والمسلمين في غضون أربعين سنة، وهو ما تفوقت فيه على إسرائيل التي عجزت عن تحقيق جزء منه منذ عام 1948 وحتى وصول خميني إلى السلطة بطائرة فرنسية من نوع جامبو الأمريكية الصنع.
ثم أن دخول السعودية في تحالفات مع الولايات المتحدة تحت شعار محاربة إرهاب القاعدة وداعش، من أجل دفع الحرج عن نفسها، بسبب كون معظم منفذي عملية 11 أيلول 2001، هم رعايا المملكة، وكأّن أحدا لا يعي جيدا أن إيران أنجح دولة في تجنيد خصومها العقائديين في عمليات إرهاب دولية، من أجل تحقيق هدفين، الأول إدخال تلك الدول في دوامة مفزعة لا تستطيع الخروج من دائرة الدفاع الخجول عن النفس، والثاني تحقيق هدف خاص في تأكيد مصداقيتها أمام شعوب العالم بأنها عدو صعب للإمبريالية الأمريكية.
أقول وبصراحة ومن دون أن أخجل من خطأ ارتكبته في بداية انطلاقة عاصفة الحزم التي أطلقها محمد بن سلمان في اليمن في 25 آذار 2015، أنني وقفت معها بكل قوة ودافعت عنها بما أمتلك من أدوات، وعبرّت عن ذلك الموقف في عدة مقالات منشورة حتى بعد أن تعثرت تم تغيير اسمها إلى عاصفة الأمل، ولم يكن ذلك الموقف لاعتبارات عاطفية عابرة وإنما لأنني حريص على عروبة المملكة ومكانتها الروحية المؤثرة في العالم الإسلامي، وبقيت أعلق آمالا عريضة على قدرة محمد بن سلمان على حسم المعركة، ولكنه لم يختلف عمن سبقه في تحويل مسار المعركة إلى ما يسمى بالحرب على القاعدة في جنوبي الجزيرة العربية، وكان هذا يحصل لمجرد إرضاء الولايات المتحدة، وكأن السعودية تكفّر عن ذنوب لم ترتكبها بقرار رسمي منها، على الرغم من أن مواطنين سعوديين كانوا قد ارتكبوا عمليات إرهابية، وهنا لا بد أن يطرح سؤال عن التكييف القانوني عن مسؤولية الدولة عن سلوك رعاياها في الخارج.
ولعل درس معركة الحديدة التي أوشكت قوات الشرعية وبدعم من القوات السعودية على الاطباق عليها لولا تدخل ممثل الأمم المتحدة إلى اليمن مارتن غريفيث الذي تمكن من وقف زحف القوات على الحديدة، وهذا هو السبب الرئيس الوحيد الذي أطال أمد الحرب وهدد الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وذلك بإبقاء ميناء الحديدة أفضل مكان لاستقبال السلاح الإيراني.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى