

ما أكثر الكلام اليوم عن مأساة المعلم العراقي، وان كان ما يقال عن مهنته هو أحيانا باطل يراد به جملة من الحقوق، وليس حقا واحدا، وقد بلغت به المأساة والعقوق بأفضاله الى الحد ان سلبت حقوقه الإنسانية، وجرفت كرامته، ونادرا ما نسمع اليوم في ضجيج الحياة المتهاوية، وتعاسة العيش، وانحدار القيم، من يعترف أحدا بأفضاله التربوية، وما يحدث هو العكس، حيث أصبحت اهانة المعلم ثقافة سائدة، ومنهاجا دراسيا في العقوق، وتربية وطنية لأضعاف ولائه الوظيفي، وكيمياء لبث سموم ثاني أوكسيد الكاربون، وفيزياء لجاذبية احتقار المهنة ، وتربية فنية لإعادة رسم صورة المعلم النمطية باللون الأسود ، ولم يعد هذا المربي يتكلم بالعربي الفصيح كما كان زمانا ،وما عادت القسمة والطرح الا معادلات للجحود من الجميع ،فلا الحكومة تعترف بأفضاله وحكمته لأنها مشغولة بصراعات السلطة والمال ، ولا المجتمع يحميه من النفايات السامة التي تفرزها المنظومات الاجتماعية الجديدة .الكل جاحد بحقوقه ودوره ، وكأن التعليم اصبح هاجسا لموت الحقيقة ،ونبراسا للجهل ، وشتيمة مجتمعية ، وماعاد المعلم رسولا كما يقول الشاعر احمد شوقي ، وانما في خبر الزوال ! في الماضي قال اسلافنا ان من علّمني حرفا صرت له عبدا، ونحن لا نريد من أحد ان يكون عبدا حتى للمعلم الاول ارسطو، وكل ما نريده هو ان لا يكون اول سهم يرميه التلميذ على من علّمه الرماية، وان لا يكون اول بيت شعر في هجاء من رعاه وأمسك بيده ودلّه على الطريق، وألا يكون اول قرار مجحف يصدره السياسي على من علمه ابجديات الحرف، وصنع مجده، ووضعه حاكما على البشر، وإياك أن (تضع قدمك حتى على ظلّ المعلم) كما تقول الحكمة الكورية، لأن اعادة قتل الموتى هي اقصى ما بلغه العقوق! هل نسينا ما قيل عن المعلم الذي أوشك يكون رسولا، ونسوا ايضا ان أفضل صفة كانوا يطلقونها على الفيلسوف والمصلح والرائد هي صفة المعلم، منذ أطلقوا على ارسطو لقب المعلم الاول وعلى الفارابي الذي ينافسه على هذا اللقب ابن رشد وابن سينا لقب المعلم الثاني. وقال فيصل الأول قولته الشهيرة: لو لم أكن ملكاً لكنت معلماً. لكن المهنة أصبحت اليوم ثقافة مهانة، وعواقبها تزكم انوفنا بسبب الإهمال وعدم الانصاف والاحترام، لأن التعليم أصبح بضاعة فاسدة، وله تجارة واسواقه السود، وحاضنات للجهل والامية العلمية، وتفقيس لأجيال تفتقر لولاء المدرسة والاسرة والمجتمع والوطن، اجيال مهمومة بصناعة الغش والمخدرات والغيبيات. والتنابز على المعلم بالألقاب المهينة والتطاول عليه، فما عادت مؤسسات التعليم اليوم تختصر بهاء احترام المعلم (قم للمعلم وفه التبجيلا)، ولا تأبه بدروس العلم ونظريات انشتاين، وميل الكتل والاجسام للانجذاب والتحرك نحو بعضها بعضا، لأن الانجذاب العلمي صار من الماضي، وصرنا اليوم أكثر انجذابا لطقوس الغيبيات واخبار الفن الرديء والطبخ والتنجيم والسحر وقصات الشعر والبوتاكس والتنفيخ. كنا زمانا، نبحث عن القدوة، ولانجدها الا عند المعلم، ونبحث عن النصيحة والمساعدة، الا ويكون المعلم حكيما يرسم خارطة حياتنا، بينما حال المعلم اليوم يندى لها الجبين، خيالا وحضورا، لأن طلبته يعطفون عليه بالمال عندما لا يتمكن من دفع ايجار البيت، ويعطونه (البغشيش) عندما يمتهن سائق تاكسي بعد العمل، ويعطفون عليه عندما يشاهدونه بائعا للخضروات والفواكه، وهكذا حال الأيام نداولها بين المعلمين، وحال طلبة آخر زمن. مرة سأل مؤسس سنغافورة ما سر تقدم الدولة، قالها بصريح العبارة (المعلم.. المعلم والتعليم)، للك يتراوح راتب المعلّم 47 ألف دولار في السنة، بينما اوطان اخرى تجعله بمقام (الملك والوالدين) كما في كوريا الجنوبية وراتبه الشهري 3000دولارشهريا، وفي اليابان سئل الإمبراطور الياباني، ذات مرة، حول هذه المسألة، فقال: (ن دولتنا تقدّمت، في هذا الوقت القصير، لأننا بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلّمنا من أخطائهم، وأعطينا المعلّم حصانة الدبلوماسي، وراتب الوزير). وفي إندونيسيا ينظر إلى المعلم باعتباره (الإنسان النبيل)، وأصبحت مهنة التعليم، تـصنـّف ضمن أكثر ثلاث مهن شديدة الاحترام. وفي بريطانيا يقدر متوسط رواتب المعلمين بنحو 31 ألف جنيه إسترليني في العام، ويحظى المعلّم في هولندا بالرعاية والاهتمام، ومتوسّط راتبه الشهري نحو 4500 دولار أميركي شهرياً، وهو يتقارب في ذلك مع راتب المعلّم في سويسرا. وهكذا هي منزلة المعلم في اوطان الازدهار فهو كهرباء الأمم الذي يضئ لهم ظلمة الزمن. أما المعلم العراقي المهدور كرامته، فلا هو ملك بالاسم مثل زميله الكوري، ولا وزير ودبلوماسي بالراتب مثل زميله الياباني، ولا (الانسان النبيل) مثل زميله الاندونيسي، ولا فيلسوف ومصلح ورائدا مثل ارسطو والفارابي وابن رشد وابن سينا، فهذا المقهور العراقي راتبه لا يكفي أسبوعا واحدا، ومهنته أصبحت موضع تندر الجميع، ومدرسته تغرق بأوحال الامطار، ورسالته ما عادت الا نواحا للماضي وتفريطا بالجمال، فقد خلعوا عنه النبل والقدوة وحكمة العلم والابوة ورسالة النبوة. فأي وطن هذا الذي يجعل المعلم تعيسا وفقيرا ومظلوما، ويجعل مهنة المعلم شتيمة وتندر مجتمعي، واي حكومة هذه تغمض عيناها على مطالب المعلم في وقفاتهم الاحتجاجية لتحسين مدارسهم وحياتهم، وتصر على عقوق من علمهم تهجي الحروف ولفظها في القراءة الخلدونية: دار.. دور، في دارنا حمير!