ربما لأنه فعلا لا توجد خسائر، إلا “الخسائر الجانبية”، كما يسميها الغرب وإعلامه، وهي أرواح آلآف العراقيين التي لم يتجاهلها الإعلام العراقي والعربي فحسب، بل اعتبرها “مدانة بالإرهاب وتستحق الموت”، بدليل تغطية الإعلام العربي المنحازة تماما إلى معسكر المحتلين وبرلمان المنطقة الخضراء والمليشيات الطائفية ذات الهوى الإيراني. ليس ذلك فقط، فالموصل ما تزال، حتى بعد انتهاء معركة تدميرها من دول الأطلسي ووكلائها، تقتل يوميا بعد مرور عام؟
أما من غادر منزله خوفاً من القتل والقصف إلى المعسكرات التي قالت الأمم المتحدة ومفوضيتها للاجئين إنها هيّأتها لاستقبال المواطنين، فقد أصبحت سجوناً ومقارّ إقامة إجبارية للمواطنين، لا يسمح لهم بمغادرتها، وهي مراقبة بشكل بوليسي كبير، لا يسمح إلا لمن يرتبط بالحكومة أو بدول الغزو الدخول لها، يُبتز فيها المواطن، ويهان بكل الطرق والوسائل، لأنه “متهم” بتهمة الداعشي، على الرغم، كما تذكر عصمت خان في صحيفة نيويورك تايمز، من أن هناك عشرين مدينة عراقية استعيدت منذ أربع سنوات، لكن أهلها ما يزالون في المعسكرات، فلماذا لا يُعاد المواطنون إلى مدنهم ومساكنهم؟ ما هو دور الحكومة؟ لماذا يترك العراقيون في الخيم وفي العراء، بينما مدنهم آمنة، بحسب الصحافيّة الأميركية؟
عادت هذه الممارسات التي كانت موجودة قبل دخول “داعش” المدينة بقوة، فالقوات الحكومية من أمن وشرطة تمارس الاعتداءات السافره على المواطنين، لسرقتهم وسرقة ممتلكاتهم من أموال وعربات، وانتهاك للأعراض ومساومة النساء، ففي الدوائر الحكومية يطلب أفراد الشرطة مئتي دولار لإصدار هوية جديدة، تفرض تجديدها الدولة بين فترة وأخرى، هي وبعض أوراق الأحوال الشخصية، أو المتعلقة بالجنسية وسندات الملك وإثباتات الولادة والصدور.. إلى غيرها من الوثائق التي أصبحت، منذ تاريخ الغزو، تجارة رابحة للموظفين والطائفيين، ومصدر فساد ولصوصية لا مثيل لها، تشجعها كل مفاصل الدولة المنخورة. أما الاعتقالات العشوائية فقد استؤنفت بحق المواطنين الأبرياء بالحجج نفسها. وعاد نهج التعذيب في السجون، من دون رادع ولا قانون، على الرغم من وجود جمعيات قانونية بمسميات الدفاع عن الحقوق والمعتقلين، إلا أن قانون المليشيات هو المعمول به. ويطلب من يديرون هذه السجون من المعتقلين اعترافاتٍ تحت التعذيب بأنهم من الدواعش، فلو كان بيد الحكومة دواعش، فلماذا تُطلب من الأبرياء هذه الاعترافات، أم أن “داعش” أصبحت تهمةً لتطهير طائفي.
تتجاهل حكومة المنطقة الخضراء ذلك كله، بل وتصر على النهج الذي بدأ في عام 2003 من استهداف الشعب العراقي بأشكال عنف متعدّدة، ليس “داعش” آخرها، إذ هو يترجم، مع حكومة عادل عبد المهدي، عبر الموازنة بتعاملٍ مختلف، واستهانة وإهمال متعمد وإصرار على التدمير وتخريب المدن الكبيرة، وتهجير أهلها ومحاربتهم، حتى في خيامهم وبؤسهم، تحت أحكام المليشيات العنصرية المتعجرفة والإجرامية، فقد خصصت الموازنة الحكومية لعام 2019 أقل من مئتي مليون دولار لمدينة الموصل المنكوبة والمدمرة كل بناها التحتية (خمسة ملايين نسمة)، تم تعديلها لتصبح ما يعادل 260 مليون دولار، لا يمكن إعادة بناء واحدة من المستشفيات العشرة التي هدمت بهذا المبلغ، بينما فساد الطبقة السياسية المعلن يصل إلى سرقات بمليارات الدولارات.
إذا استعملت دول حلف شمال الأطلسي، والولايات المتحدة في مقدمتها، “داعش” ذريعةً لتدمير مدينةٍ يصعب السيطرة عليها، مثل الموصل، قلعة العسكرية والوطنية العراقية، ومدينة رفض الاحتلال، لإخضاع من يرفض العملية السياسية، بتعبير موفق الربيعي (مستشار الأمن القومي العراقي)، فالحكومة تقوم اليوم بالتطهير الطائفي والتغيير الديمغرافي في المدينة وما حولها، تستبيح كل ما فيها، وتتجاوز، في إجرامها، عصابات الشذوذ الأميركية في سجن أبو غريب. وإنهاء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، صفحة “داعش” في سورية الأربعاء الماضي، وإعلان انتصار بلده عليه، واتفاقه مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على وضع نهاية له، هو اعتراف رسمي بأن هذه الأساليب والخدع في زمن الحرب لم تستخدم إلا لإسكات المقاومة الوطنية، وإبادة أكبر عدد من الشعب العراقي وتهجيره، للتمكّن من السيطرة على العراق، وتمرير سرقة ثرواته من الدولة المحتلة، ووكلائها المعمّمين الذين يجمعهم غرض تدمير العراق. كل الوسائل مشروعة للشعب العراقي من البصرة إلى باقي المحافظات للثورة والانتفاضة، وتخليص البلاد من معاول تدميره وتهجير شعبه، فحكومة عبد المهدي لن تتخلى عن نهج تدمير العراق، ومدينة البصرة وما يحصل فيها أكبر شاهد ودليل.
