محركات إيران في علاقاتها الخارجية؟

الجزء الاول

ما هو السلاح الذي تستخدمه إيران في حروبها المتعددة مع مختلف القوى الإقليمية والدولية بصرف النظر عن قدرات تلك الدول عسكريا واقتصاديا وسياسيا؟
ولماذا تخرج إيران من كل مواجهة وكأنها قد حققت نصرا حتى وإن كان سياسيا أو إعلاميا؟ ويتراجع أعداؤها بعد أن يُوصلوا المواجهة إلى حافة الهاوية؟
هل هي القوة العسكرية المخيفة التي باتت إيران تمتلكها، كالسلاح النووي مثلا والذي لا تريد هي الإعلان عنه في الوقت الحاضر؟ ولا تريد الدول الكبرى الاعتراف بتلك الحقيقة، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وحتى روسيا والصين لا ترغب بذلك، لأن اعترافا كهذا لا بد أن يثير سباقا إقليميا للحصول على السلاح وبشتى الوسائل، أو يثير تساؤلات مشروعة عن جدية الوعود بل والخطوط الحمر التي وضعتها المجموعة الدولية بوجه إيران لمنعها من الوصول إلى السلاح الذري ومدى مصداقية الدول الكبرى في تعهداتها لدول المنطقة؟
أم أن إيران تمتلك عبقرية دبلوماسية وسياسية خارقة تندحر أمام جبروتها أعتى الدبلوماسيات الدولية وتقف بانكسار لا تمتلك معه إلا التسليم لكل الشروط والمطالب الإيرانية الثابتة والتي كانت تلك الدول ترفضها رفضا قاطعا حتى الأمس القريب؟
أم أن استعراضات القوة التي تنفذها الزوارق الإيرانية في مياه الخليج العربي، وكذلك دبلوماسية الألغام البحرية التي تنشرها في بحر العرب والمياه الدولية، والتي تترافق مع أعلى وتيرة من تهديدات القادة الإيرانيين عسكريين وحرسيين وسياسيين هي التي تضع المنطقة على حافة الحرب، بعد أن تهدد خطوط الملاحة الدولية وامدادات النفط بالتوقف تطبيقا لشعار إيران (إذا مُنعنا من تصدير نفطنا فلن يصدر أحد نفطه)، هي المطرقة المرفوعة فوق رؤوس زجاجية تخشى الكسر من أول هزة حقيقية، والتي تجعل العالم المنهار عصبيا يسارع لترضية دولة الولي الفقيه ثم ليمنحها انتصارا من دون جهد حقيقي منها ومن دون استحقاق لها؟
وكما أن سلة الأسئلة المطروحة جاءت متنوعة ومتعددة المحاور فإن الإجابة عنها ستكون كذلك، وربما تذهب إلى محاور أكثر تشعبا وتعددا مما ورد في سلة الأسئلة نفسها.
ابتداءً لا نريد العودة إلى الجذور التاريخية القديمة التي جعلت من بلاد فارس أكثر قبولا من سواها لدى العالم المسيحي إلا في حالة الحاجة الملّحة، فهذا محور أشبعناه بحثا في مقالات ودراسات سابقة، بما في ذلك فارس التي تحوّل اسمها إلى إيران في 21 آذار 1935 من قبل رضا شاه بهلوي والد الشاه السابق، بل سنركز على إيران الجمهورية في عهد خميني وما أعقب ذلك، ذلك أن النظام الجديد الذي بدأ حكم البلاد في 11 شباط 1979، طفق يرفع أقوى الشعارات المعادية للولايات المتحدة خاصة، وللغرب عموما، ووصل العداء المعلن بين الطرفين أن خميني أصدر أوامره للطلبة (السائرين على خطه) باجتياح السفارة الأمريكية في الرابع من تشرين الثاني 1979، فتم حجز 52 دبلوماسيا وموظفا أمريكيا في السفارة، ولم يتم أطلاقهم إلا بعد مفاوضات عبر طرف ثالث استمرت 444 يوما، سجلت الولايات المتحدة أول تراجعٍ مذلٍ أمام إيران، وذلك عندما حولت واشنطن لطهران عدة مليارات من الدولارات كانت في الواقع جزءً من الموجودات الإيرانية في بنوك الولايات المتحدة، ويبدو أن تلك الواقعة كانت بمثابة المفتاح السري الذي اقتنعت إيران أنه يصلح لابتزاز أمريكا حيثما اقتضت المصلحة الإيرانية الإقدام عليها.
فهل تشكل حادثة احتلال السفارة الأمريكية في طهران، واحدة من مراكز الإغراء الغلاب للزعامة الإيرانية للتعامل مع عالم اليوم الذي لا يفهم إلا لغة القوة بصرف النظر عن مصدرها سواء كانت عن قدرة ذاتية أو عن عنادٍ غبي، هل هي عبر الابتزاز المالي أو مقامرة أو عمل عصابات منظم من قبل دول تريد التعامل معها بهذه الصفة؟
قطعا لا هذا ولا ذاك إذا ما تم النظر إليه منفردا، ولكنها عوامل شتى تضافرت مع بعضها لتجعل من إيران قوة تخشى الدول الكبرى التقرب من أسوارها.
لعل من بين أكبر النجاحات التي حققتها إيران في معركتها أو معاركها مع الغير، تطبيق شعار تصدير الثورة، الذي أسيء فهمه حتى من قبل أطول المتخصصين في الشأن الإيراني باعا، فقد ذهب كثيرون إلى تصور الأمر وكأنه تدخلات عسكرية إيرانية مباشرة ستباشرها إيران في الدول الأخرى، ومما عزز هذا الفهم بدء العدوان الإيراني على العراق في 4 /9 /1980، نعم ربما كان خميني يفكر على هذا النحو، ولكن قصم العمود الفقري للقوة العسكرية والاقتصادية والسياسية لإيران في نهاية الحرب في 8 /8 /1988، أدى إلى إعادة نظر جوهرية في الاستراتيجية الإيرانية من قبل خميني فانتقل إلى الخيار الآخر.
ففي الأيام الأولى للحرب وجدت إيران أن الثمن الذي بات عليها دفعه عسكريا واقتصاديا على الرغم من بعض الانجازات العسكرية الميدانية التي كانت تحققها في السنوات الأولى للحرب، بات ثمنا مكلفا للغاية لا تستطيع دول كبرى أن تنهض به، فقد اقتنع خميني أن توريط إيران بمواجهات عسكرية مباشرة وغير مدروسة سيؤدي إلى انهيار تجربة (الجمهورية الإسلامية)، ولهذا قام بتحويلةٍ استراتيجيةٍ في غاية الأهمية في تاريخ إيران، هذه التحويلة تمثلت في تشكيل المنظمات والأحزاب والحركات المسلحة أو دعم الموجود منها وخاصة الأحزاب الشيعية في الوطن العربي، ولما كان هذا الأمر مقتصرا على العراق الذي تخوض معه حربا ضروسا، ولبنان الساحة السياسية المفتوحة، فقد كان التركيز بثقل أساسي عليهما، فقد أسست إيران حزب الله اللبناني عام 1982 وحولته إلى مليشيا مسلحة تكافئ قوة الدولة وتحظى بالدعم المالي والتسليحي والتدريبي منها وبإشراف مباشر من الحرس الثوري الإيراني ومكتب شؤون المنظمات الثورية، أما في العراق فإن أحزابا شيعية كانت قد تأسست في ظروف سابقة من قبل رجال دين أو سياسيين شيعة مرتبطين بشاه إيران السابق، فلم تجد إيران خميني ضيرا من توظيفهم جنودا في مشروعها التوسعي على الرغم من أنها تحتقرهم في قرارة نفسها كما هو الأمر بالنسبة لحزب الدعوة.
ولكن إيران وجدت في أسرى الحرب العراقيين لديها والذين انهارت مقاومتهم لظروف الأسر القاسية حتى جاء بعضهم صاغرين، وجدت فيهم مصدرا لا ينضب من الطاقات المقاتلة والجاهزة لأي جهد أو تكليف (شرعي) وخاصة بعد تأهيلهم وشحنهم طائفيا، فتم في تشرين الثاني 1982 تأسيس (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) ووضعت على رأسه رجل الدين الإيراني محمود هاشمي شاهرودي، ووضعت المعمم الهارب باقر محسن الحكيم ناطقا باسمه، وتم تأسيس الذراع العسكرية للمجلس باسم (فوج بدر)، وأخذ الفوج بالتوسع بعد هرب أعدادٍ من الخونة العراقيين إلى إيران أو سقوط بعض الأسرى نتيجة ضعف حصانتهم الوطنية أو عدم قدرتهم على مواجهة ظروف الأسر القاهرة جراء التعذيب والتجويع والاهمال الطبي، فانهارت الخطوط الدفاعية لهؤلاء الأسرى أمام بعض الإغراءات التي أجاد الإيرانيون تقديمها بأغلفة من الشحن الطائفي.
ومع الوقت وجدت إيران أنها قادرة على توظيف حزب الله اللبناني في معارك إقليمية وحتى عبر القارات، تمكنت فيها من ابتزاز دول كثيرة والحصول على مكاسب سياسية واقتصادية ما كان لها أن تحصل عليها لولا مليشيا حزب الله.
ولكن إيران التي كانت تعاني من ضغط سياسي قبيل العدوان الأمريكي على العراق عام 2003، على الرغم من كل وصلات العلاقات العامة لتلميع وجهها وسمعتها التي قدمتها للغرب عموما وللولايات المتحدة خصوصا بُعيد أحداث 11 /9 /2001، فإنها باتت تتنفس بملء رئتيها بعد احتلال العراق عام 2003، فلا يجد المراقب صعوبة في اكتشاف الأصابع الإيرانية العابثة في كل الأحداث الداخلية في الأقطار العربية والدول الإسلامية في آسيا وأفريقيا، ولكن اللافت للنظر في كل المشهد أن الغرب والشرق معا يشيحان بوجههما عن كل المآسي والجرائم التي ترتكب من جانب قوى محسوبة على إيران.
ولا بد أن لهذا أسبابه السياسية والأخلاقية، فالغرب اختار إيران منذ قيام الدولة الصفوية حليفا يمتلك خواص المضاد النوعي للإسلام عموما وللدولة العثمانية خصوصا، ومن قبلها للدولة العربية التي امتدت إلى الأندلس.
فالفرس طرحوا أنفسهم كحليف استراتيجي للغرب المسيحي بإمكانه وقف الزحف الإسلامي نحو أوربا، حتى لو خاضت فارس حروبا محلية بالتنسيق مع أوربا وهو ما حصل فعلا.
ولكننا هنا نطرح سؤالين محددين عن أسباب ثنائية المكاييل والموازين التي يعتمده الغرب في تعامله مع دول المنطقة.
1 – لماذا يتغاضى العالم عن جرائم إيران بخرق حقوق الإنسان واضطهاد المكونات القومية والدينية في البلاد، وهي جرائم باتت أكبر من أن تُخفيها ماكنة النظام الإعلامية، في حين أن الصحافة الأمريكية والأوربية كانت تلاحق أي تصرف ولو كان عابرا من قبل دول أخرى؟
2 – العالم يشاهد في كل يوم العمليات الإرهابية التي تنفذها إيران بواسطة أذرعها التي زرعتها في الوطن العربي، ولا يصدر عنه إلا تعليق خجول بمن في ذلك أمين عام الأمم المتحدة، يقول بأن هذه الأعمال غير مقبولة، وأحيانا ترفقها بنصيحة غامضة تدعو فيها إلى ضبط النفس وعدم التصعيد الذي قد يؤدي إلى تهديد استقرار المنطقة.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى