زيارة فاشلة بكل المقاييس القومية والسياسية لسوريا، قام بها وفد عراقي كبير برئاسة السيد صدام حسين رحمه الله عندما كان نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة، واختتمت باجتماع مغلق مع حافظ أسد في قصر المهاجرين، بدأ في الساعة العاشرة من ليلة 25 على 26 آذار ختمها رئيس النظام السوري بتصريح قال فيه “أخشى ما أخشاه أن تصدق مقولة، ما يتفق عليه السياسيون يخربه الفنيون”، فقد اتفقت مع السيد صدام حسين على كل محاور البحث، وأحلتها إلى الجهات الفنية، وغداً إن شاء الله سيتم عقد اتفاقيات كبيرة، تتعلق برسوم مرور النفط العراقي إلى ميناء بانياس السوري واللبناني في طرابلس، وعلى تقسيم حصص مياه الفرات بين القطرين، وعلى ربط العراق بسوريا بخطين بريين، أحدهما للسكك الحديد والآخر طريق مرور سريع للسيارات، يربط الحدود العراقية السورية بميناء طرطوس الذي سيُمنح العراق فيه منطقة حرة.
وفي اليوم التالي نسف حافظ أسد كل ما أطلقه من وعود وتعهدات، إذ أوعز للفنيين بعدم الاتفاق على أيٍ من محاور المفاوضات، فقرر السيد صدام حسين ترك دمشق والتوجه إلى محطته الثانية وهي القاهرة.
عند ظهر يوم 26/3/1972غادرت الطائرة بنا إلى القاهرة، كان معظم أعضاء الوفد العراقي الذي رافق النائب في زيارة دمشق، قد عاد إلى بغداد لتباين طبيعة الزيارتين، وبعد رحلة مريحة في طائرة الترايدنت وصلنا مطار القاهرة الدولي، وكان في استقبال نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، الدكتور محمود فوزي نائب رئيس الجمهورية والدبلوماسي المصري المخضرم والقدير، ومن مفارقات الاستقبال أن السلام الجمهوري العراقي كان هو نفسه السلام الجمهوري المصري وهو مقتبس من أغنية وطنية لأم كلثوم تحت عنوان (والله زمن يا سلاحي) وكان العراق في حكم البعث قد ورثه من الحقبة السابقة لثورة 17 تموز/ يوليو 1968، ولم يشأ تغييره على عجل بل انتظر حتى ترسخت أقدام التجربة، ثم أعلن عن مسابقة لتأليف نشيد وطني يؤخذ منه السلام الجمهوري، وقد كتب نصه الشعري، الشاعر الكبير المرحوم شفيق الكمالي، فقدم نصا هو (مرحبا يا معارك المصير) وأنيطت مهمة التلحين بالموسيقار اللبناني المبدع وليد غلمية، ولكن هذا النص تحول إلى أغنية وطنية لأنه لم يرق إلى المستوى الذي يصلح فيه أن يكون نشيدا وطنيا، حتى كتب الشاعر الكمالي قصيدته (وطن مد على الأفق جناحه) وقد لحنها وليد غلمية أيضا واعتمدت كنشيد وطني وسلام جمهوري للعراق، بعد أن استكمل كل الشروط الفنية اللازمة ليكون نشيدا وطنيا لبلد كالعراق ومشروعه القومي الكبير.
يوم وصولنا إلى العاصمة المصرية لم يكن الرئيس المصري أنور السادات في القاهرة فقد كان في جولة تفقدية للقطعات المصرية على طول خط المواجهة، فأقام السيد صدام حسين في قصر الطاهرة، وهو من القصور الملكية القديمة الفخمة والأنيقة التي ورثتها مصر الجمهورية عن النظام الملكي، وحافظ المصريون عليها واهتموا بها، وجعلوا منها مقرا لإقامة كبار ضيوف مصر، وأقام النائب في جناح في الطابق العلوي وأقامت البعثة الإعلامية المرافقة في جناح أرضي، وبعد سلسلة لقاءات مع مسؤولين مصريين، ومباحثات مع الدكتور محمود فوزي في قصر القبة، كان الموضوع الرئيس هو مشروع المملكة المتحدة الذي اقترحه الملك حسين بين الأردن والضفة الغربية، ولكن هذا الموضوع وعلى ما كان يبدو من خلال أصداء الزيارة، لم يحتل مكانا بارزا في المباحثات، فالجانب المصري كان يرى في دعوة الملك حسين مجرد ضغط مزدوج على الفلسطينيين ممثلين بمنظمة التحرير الفلسطينية من جهة وعلى الإسرائيليين من جهة أخرى لينتزع تنازلات من الإسرائيليين على طريق الحل، ومن الفلسطينيين من أجل إعطاء مرونة فيما يتصل بموضوع اعتبار منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ولم يكن هناك جدول أعمال محدد للمباحثات.
ظل الوفد في القاهرة بانتظار عودة الرئيس السادات إلى القاهرة، وبانتظار ذلك تفقد صدام حسين المناطق التي كان يرتادها حينما كان لاجئا في مصر، وخاصة المقهى الشعبي وطلب رؤية بواب العمارة التي كان يسكن فيها، وصاحب المقهى الذي كان يرتاده عندما كان لاجئا سياسيا وطالبا في كلية الحقوق في مصر حتى 8 شباط/ فبراير 1963.
في صباح اليوم الثالث للزيارة استدعاني السيد صدام حسين، وكان ذلك لافتا للنظر إذ أن واجبي يقتضي مني تقديم تقرير إخباري وخاصة عما يجري في العراق، ولكن استدعاءه لي صباحا كان أمرا مستغربا، عندما ذهبت إليه وجدت عنده كالعادة في كل مرة السيد صباح مرزة مرافقه لزمن طويل جدا، قال (أنت وصباح سترافقاني للاجتماع بالرئيس السادات)، هيئ نفسك، خرجت ولم يكن مطلوبا مني إلا قلما وهو في جيبي دائما وبعض الأوراق، بعد قليل جاءت السيارات وركب مع النائب مسؤول مصري كبير ومرافقه صباح مرزة، وركبت سيارة مع مرافقين أمنيين مصريين، ومع الوقت وجدت أن الموكب يتجه إلى مطار القاهرة، ولكن السيارات انحرفت نحو اليمين، ودخل الموكب في قاعدة الماضة الجوية القريبة من مطار القاهرة الدولي، وركبنا طائرة عسكرية روسية من نوع أنتينوف، في الطريق إلى المقر المؤقت للسادات، لم تستغرق الرحلة طويلا، فقال قائدها نحن الآن قريبون من القاعدة الجوية غرب الإسكندرية، بدأت الطائرة تدرج على أرض القاعدة، وبعد أن اقتربت من بناية قصية وصغيرة إلى حد ما، توقفت الطائرة تماما ونزلنا منها جميعا ومن مسافة تقرب من عشرة أمتار أو تزيد شاهدت الرئيس أنور السادات وبطريقته المعتادة، يخرج ملوحا بكلتا يديه ويقول بصوت عال (مرحبا يا سي صدام) وظل يكرر هذه العبارة لعدة مرات حتى تعانقا، ثم سلم السيد صباح مرزة وسلمت أنا على الرئيس المصري، واقتادنا الرئيس المصري إلى بناية صغيرة خرج منها لتوه، وربما تخيلت لأول وهلة أنها مكتب آمر القاعدة الجوية.
بطريقة رجال البروتوكول أشار السادات لصدام حسين أن يدخل الغرفة، ودخل بعده، ولما لم أجد من يمنعني من الدخول وراءهما فقد سارعت لأنفذ ما عقدت العزم عليه، لم تكن لي صفة أقدمها للرئيس المصري، وبالتالي فهو لم يعرف ما إذا كنت مرافقا لصدام حسين أو لا أو مسؤولا في مكتبه، ولكنه نظر إلي باستغراب ولم يعلق بكلمة، وإن أحسست أنه رغب بألا أكون في القاعة، أما صدام حسين فقد كان بإمكانه أن يخرجني بإشارة من عينيه، ولكنه لم يفعل فتشجعت على مواصلة التقرب عن كثب من موقع القرار، بقيت واقفا حوالي ساعة من زمن ملئ بكل ما هو مثير من الموضوعات الحساسة.
بدأ الرئيس السادات بكلمة مجاملة وترحيب بالسيد صدام حسين، ورد عليها النائب بكلمة أكد فيها دور مصر في معارك الأمة العربية وثقلها النوعي فيها، وتنوع الحديث بين استذكار حياة صدام حسين في القاهرة ردحا من الزمن، والعلاقات الثنائية بين البلدين، والحديث عن مشروع الملك حسين حول المملكة المتحدة، لكن الرئيس المصري بعد ذلك التقط الحديث حول حتمية المواجهة مع إسرائيل لتحرير الأرض المحتلة، وشدد على أن الاتحاد السوفيتي خذل العرب على الدوام في اللحظات الفاصلة التي هم بأمس الحاجة لدعمه، ولم يوفر لهم الأسلحة الهجومية القادرة على دحر القوات الإسرائيلية، وحاول تبرير سياسة القطيعة المصرية مع الاتحاد السوفيتي، ولكنه أكد على عزم مصر باسترداد كرامتها الوطنية وإزالة الاحتلال الإسرائيلي من سيناء وإعادة قناة السويس للسيادة المصرية.
وسأل السادات صدام حسين عن إمكانية إرسال العراق لسربٍ من طائرات الإسناد الأرضي من نوع هوكر هنتر البريطانية الصنع، والتي تتميز بدقة إصابتها لأهدافها، كما طلب عددا من صواريخ لونا الروسية الصنع، وفي تبرير كل ذلك قال إن الجيش المصري بحاجة إليها لمواجهة التفوق الإسرائيلي في المواجهات التي تحصل بين آونة وأخرى على جانبي القناة، وخاصة أن خزين مصر منها لا يفي بأي غرض دفاعي، ولأن صدام حسين مركز قرار قيادي، فقد وعد بدراسة الطلب بعناية وشعور عال بالدور القومي للعراق، فهم السادات من هذه الإشارة موافقة عراقية على الطلبين، كما وعد صدام حسين بدعم مصر في مجال إمدادات النفط، فقد وعده بخمسة ملايين برميل هدية للشعب المصري، من العراق وبمليون طن بسعر خاص، هنا قال السادات لصدام، بلهجته المعروفة (الأولاد في القلعة خذهم معاك)، وكان يقصد بعض الشباب العراقيين الذين ألقي القبض عليهم من قبل أجهزة الأمن المصرية، بتهمة محاولة اغتيال عدد من رموز المعارضة العراقية الناصرية مثل صبحي عبد الحميد وهادي خماس وعرفان عبد القادر وجدي ورشيد محسن.
ولا أعرف من منهم كان في مصر يوم محاولة الاغتيال، ولكن المقيمين في مصر ظلوا هناك منذ محاولة الانقلاب التي تعرض لها نظام حكم الرئيس عبد الرحمن عارف في 30 حزيران 1966، وقيل في حينها إن هؤلاء وهم من الضباط الناصريين، كانوا يخططون للقيام بانقلاب عسكري ضد نظام حكم الحزب، حينها قال صدام حسين بثقة عالية، “لم آتِ إلى هنا من أجل هذه القضية، وإذا كانوا مذنبين فيجب أن ينالوا جزاءهم العادل، ولا صلة لفعلتهم بالقرار السياسي على مستوى القيادة، أما إذا كانوا أبرياء فالحكم متروك للقضاء المصري الذي نثق تمام الثقة بنزاهته”، إذن هو حديث ودي متبادل وحمل في ثناياه أملا في تطور العلاقات الثنائية، انتهى لقاء صدام حسين بالرئيس المصري أنور السادات بآمال عريضة، وخرج السادات إلى باب الطائرة مودعا صدام حسين بنفس الطريقة التي استقبله فيها.
كان لهذه الزيارة تأثيراً كبيراً في مسار حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، فقد كانت الضربة الجوية الأولى والتي استهدفت صواريخ أرض– جو الإسرائيلية شرقي قناة السويس ضربة عراقية بامتياز، نفذها طيارون عراقيون كانوا يسابقون لتنفيذ أي واجب قومي في أية ساحة قومية تدعوهم بنداء واعراقاه، نفذوها بسربين من طائرات هوكر هنتر، التي ذهبت إلى مصر عبر الأجواء السعودية، وعبرت البحر الأحمر قبل أكثر من سنة على بدء ساعة الصفر في حرب تشرين/أكتوبر 1973، وقدم العراقيون فيها دماً على طريق تحرير الأرض العربية، كما أن صواريخ لونا رافقت الصواريخ المصرية من النوع نفسه وصواريخ من أنواع أخرى دكت مواضع القوات الإسرائيلية الحصينة في خط بارليف، نعم سقطت في ساعات القصف التمهيدي للقوات المصرية قبل مباشرتها خطة العبور التاريخية، فاستشهد منهم من استشهد وعاد منهم من عاد إلى أرض الوطن.
1٬660