ربما هي ليست أول خيانة رجل لسيده في القصر لاستبعاد سيد القصر والجلوس على عرشه في تاريخ ميزوبيتاميا، ولكنها خيانة غيرَت مجرى تاريخ الإمبراطورية البابلية وحذفت بابل من التأثير في رسم مسارات أحداث المنطقة التي نبتت فيها أول حضارة في تاريخ الأمم، فقد تآمر نابودينس مع قورش ملك فارس عام 539 ق.م على نبوخذ نصّر ملك بابل العظيم، الذي حرر القدس من سيطرة اليهود مرتين، لإزاحته عن الحكم تسهيلا لاحتلال بابل وتدميرها بالتواطؤ مع اليهود الذين كان نبوخذ نصّر قد أسرهم وجاء بهم إلى بابل بعد أن تمردوا عليه بعد فتح القدس في المرة الأولى، ففتحها ثانية وجاء بهم أسرى إلى بابل، ولكن خبث اليهود لم يقف عن حد، فقد استغلوا زوجة قورش اليهودية لكسب وده.
بلاد ما بين النهرين محل أطماع من كل من جاورها من القبائل المتخلفة ثم الدول الناشئة ثم الإمبراطوريات القوية، فكان العراق ساحة صراع ممتد بسبب ثرواته السطحية أو تحت باطن الأرض وموقعه كنقطة وصل استراتيجية بين أقاليم وقارات عدة.
بعد احتلالها، اندثر دور بابل السياسي والعسكري نتيجة خيانة نابودينس لسيده نبوخذ نصّر ملك بابل العظيم، ونابودينس هذا ابن زنا جاء به نبوخذ نصّر إلى قصره لتسخيره في مهمات تليق بأصله ووضعه الاجتماعي، ولكنه أظهر براعة في فنون القتال وفي عقد الصفقات السياسية السوداء، فنشطت اتصالاته باليهود الذين أقاموا في بابل وانصرفوا إلى وظيفتهم الأصلية، التجارة وصياغة الذهب وحبك الدسائس، فوجد فيهم رافعته القوية للانقلاب على سيده وصاحب الفضل عليه والذي جلبه من عاره وقربه في قصره، وبسبب طبيعة اليهود في عدم المواجهة المباشرة، فقد وسعوا من اتصالاتهم مع قورش ملك فارس وأغدقوا عليه الوعود بالمساندة وخيرات العراق التي ستكون خزينة لا تنضب نتيجة ما في العراق من خيرات وثروات، فانساق وراء هذا الوهم وما درى أنه وقف فوق كثيب من الرمال المتحركة، ومع ذلك فقد سمح لليهود بالعودة إلى مناطق سكناهم التي أسرهم منها نبوخذ نصّر، وأحرق بابل واستولى على ما فيها من كنوز وثروة هائلة، وأطفأ وهج الحضارة البابلية العظيمة.
ولم تكن تلك الحادثة المفصلية في تاريخ العراق القديم مقطوعة، بل يبدو أنها أنبتت بذرة الخيانة في حاشية الملوك والقادة من داخل قصورهم، ففي عام 1258، وعندما كان هولاكو يحاصر بغداد وعندما كان آخر خلفاء بني العباس لا يقّدر حجم الأخطار المحدّقة بحاضرة الخلافة، كان وزيره ابن العلقمي (رئيس الوزراء بلغة العصر الحديث) ينسق مع هولاكو لدخول بغداد بعد الغدر بالخليفة المستعصم بالله بعد أن حصل على الفتوى والتشجيع من نصير الدين الطوسي، فسلم ابن العلقمي بغداد والخليفة المستعصم للغزاة وإذلاله ثم قتله بالطريقة التي نعرفها، ومع أن التعاون مع الغزاة يعد أقبح وجه لخيانة الأوطان، فإن ما قام به نابودينس ومن بعده ابن العلقمي وزير المستعصم بالله، هو سلوك فردي شائن يذكّرنا بخيانة “أبي رّغال” الذي ما زالت اللعنات تصب عليه منذ أن دلّ إبرهة قائد جيش الحبشة الذي جاء لنقل الكعبة من مكة المكرمة إلى الحبشة ولكن الله خذله ومزق جيشه بالطير الأبابيل، نعم كانت الخيانات فردية في بابل وبغداد من دون أن يعني ذلك عدم وجود خيوط سرية وارتباطات لهما مع الحاشية، ولكنها دمرت حضارة وأنهت وجود دول كانت تشع بألقها على سائر الأمم.
وبعد سبعة قرون ونيف، تعرضت بغداد لخيانة مدوية عندما تحولت الخيانة إلى عمل جماعي منظم مدعوم بالفتوى الدينية، التقت عليها أطراف لا رابط بينها إلا الحقد على العراق وحكمه الوطني وقائده، فيلاحظ المراقب أن حركات سياسية من الشيعة والسنة ومن الأكراد والشيوعيين والمنظمات الدينية من مختلف التلاوين التقت على تكرار لعبة نابودينس وابرهة وابن العلقمي، ولكن في ظاهرة جماعية لم يعرف لها تاريخ الأمم والشعوب، حتى تساءل المرء ما هذا الحقد على البلد الذي أهدى البشرية أعظم ما امتلكته عبر مسيرتها نحو الارتقاء، الكتابة والعجلة.
قد يذهب البعض إلى تبسيط الأمور وتصوير الأمر على أن التآمر الدولي على العراق قد أخذ مبرراته من دخول العراق للكويت، وفي مراجعة تاريخية سريعة سنجد أن عُقَدَ التاريخ القريب الذي تحركه عُقَدَ التاريخ القديم، ومنذ حكاية سقيفة بني ساعدة، ما زالت نارا تتأجج في الصدور، يروي الكاتب فاضل الربيعي في كتابيه “الخوذة والعمامة، والعسل والدم” القصة التالية عن بداية الاتصالات بين المرجعية الشيعية في آذار عام 1990 أي قبل دخول العراق للكويت بأكثر من أربعة شهور، فيقول إن مصطفى جمال الدين وعزت الشابندر سافرا إلى لندن من دمشق وغادرا بمعية موفق الربيعي إلى الولايات المتحدة حيث التقيا هناك بوزير الخارجية الأمريكية جيمس بيكر، وبمسؤول ملف “المعارضة العراقية” في وزارة الخارجية الأمريكية حينذاك، فقدم مصطفى جمال الدين وثيقة باسم المرجعية الشيعية، أشار فيها إلى أن شيعة العراق سبق لهم وأن جربوا الانكليز ولكن الانكليز خذلوهم عندما لم يسلموهم الحكم، وأن الأوان قد حان للأمريكان أن يسلموا الحكم لشيعة العراق، الذين يقفون ضد ولاية الفقيه ويؤمنون بالديمقراطية والحوار، وكشف فاضل الربيعي أن مصطفى جمال الدين هو الذي طالب بحل الجيش العراقي لأنه كما قال جمال الدين مؤسسة سنية، هذا قبل الغزو والاحتلال الأمريكي وقرار بول بريمر بحل الجيش عام 2003، ولم يقتصر الأمر على هذه الاتصالات بل تعددت مؤتمرات ما تسمى بالمعارضة في بيروت ولندن ومصيف صلاح الدين وكانت ممارسات فاضحة يفتخر بها من دعا إليها أو شارك بها من دون أن تسيل قطرة عرق على جبينه، ولعل جردة لأسماء الأحزاب والأشخاص المشاركين في تلك المؤتمرات وخاصة مؤتمر الخيانة العظمى في لندن نهاية 2002، تعطينا تصورا عن هامش تلك القوى السنية والشيعية والكردية واليسارية واليمينية على حد سواء.
ويشير الربيعي إلى أن حميد مجيد موسى سكرتير عام الحزب الشيوعي، وممثله في مجلس الحكم بصفته الشيعية وليست الشيوعية، كان في غرفة انتظار في وزارة الخارجية الأمريكية للالتقاء بموظف صغير هناك، فرآه السياسي الكردي محمود عثمان الذي صادفه هناك واستغرب منه هذا التصرف وقال له نحن نتعاون بصفة مستمرة مع أمريكا، ولكن ماذا جاء بكم إلى هذا الطريق؟
فهل هناك من يجرؤ على تسمية مثل هذا الفعل الشائن معارضة؟ وهل عرف شعب من الشعوب اصطفافات صدئة مثل هذه؟ وكم من الشعوب كان على استعداد لتحويل اليوم الذي أدخل الغزاة إلى مضجع أمه أو زوجته إلى عيد وطني؟
لقد تحولت الخيانة من هواية ماكرة وخبيثة فردية مخلة بالشرف نتيجة خلل فسلجي في التركيبة الجينية والأخلاقية، إلى حرفة جماعية تمارس فيها الدعارة السياسية باسم الوطنية والمذهب على أعلى المستويات، وللأسف الشديد أخذ العراق سبق الاختراع في هذه الوظيفة كما كان رائدا في كل ما يرفع الرأس.

2٬152