كان مُقدّرا لهذه السطور أن تتناول الشأن السياسي المتعلق بمؤتمرات القمة التي التأمت في مكة المكرمة الأسبوع الماضي، لكن أي حديث يمكن أن يعلو فوق الجرائم ضد الإنسانية؟ وأي قلم يمكنه أن يصمت في واقعة امتهان كرامة البشر بأبشع الصور وأقذر الاساليب؟ وأي عاقل يستطيع أن يُحنّط عقله فيتجاهل ما يحدث في مدينة الموصل العراقية؟
ففي الأسبوع الماضي، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض القنوات الفضائية مقطع فيديو، يظهر فيه جندي عراقي داخل آلية عسكرية في مدينة الموصل. كان يضع طفلا في حجره ويتحرش به بالفاظ خادشة للحياء، بينما كان يتحدث لشخص أخر عبر الهاتف متفاخرا بما يقوم به من تحرش جنسي. ويبلغه بأن والدة الطفل قد تم اغتصابها، وأن جنديا ثالثا سوف يقوم بذلك معها الآن. ثم تنتقل كاميرا الهاتف الى والدة الطفل وهي في الخارج وتحمل رضيعا على كتفها، حيث يقتادها أحدهم ويختفيان خلف تلة تقع في المكان نفسه الذي تتواجد فيه الآلية العسكرية. بعدها يضع الجندي الكاميرا جانبا من دون أن يوقف التسجيل، حيث يُسمع صوت الطفل وهو يبكي.
وبعد انتشار فيديو الجريمة، أصدرت وزارة الدفاع العراقية يوم الخميس الماضي 30 مايو/أيار 2019 بيانا بشأن الواقعة. قالت فيه إن الاوامر قد صدرت بإيقاف واعتقال الاشخاص الذين ظهرت صورهم في المقطع المذكور. تبعها إعلان من وزارة الداخلية العراقية عن إلقاء القبض على اثنين من المجرمين، وتم تدوين أقوالهم بالاعتراف ابتدائيا وقضائيا، واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم.
وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن هذه الواقعة ليست الأولى، وأن هذا السلوك المُشين قد أشار اليه العديد من منظمات حقوق الإنسان الدولية العاملة في هذه المحافظة، فإنه يتبين لنا وبصورة لا تقبل أي لبس، بأن هنالك من منتسبي الأجهزة الأمنية والشرطية والجيش قد تحولوا الى عصابات سائبة، وأن الأعراف والتقاليد العسكرية قد غادرت هذه المؤسسات، وأن القادة والآمرين فيها قد فقدوا القدرة على السيطرة، حتى لم يعد للهيبة العسكرية المعروفة شيء يُذكر.
لقد بُنيت المؤسسة العسكرية العراقية منذ بدايات التشكيل على مبدأ الضبط الصارم للمنتسبين. وكان الهدف من وراء ذلك هو لتقييد كل تصرف خارج عن الضوابط، لان المُشرّع العراقي كان يعلم جيدا أن كل من ينتمي إلى هذه المؤسسات سيكون هو السلطة بيد صانع القرار، وبالتالي فإن السلطة السائبة قد تتحول من أداة حماية إلى وسيلة تخريب. ومن منظومة قيم أخلاقية ومهنية إلى مرتع للجريمة المنظمة وانتهكات حقوق الإنسان. فيستغل الجندي والشرطي ورجل الأمن الصلاحيات الموكلة إليه في إحقاق الحق وحماية أمن الوطن والمواطن، ليحولها إلى أدوات استغلال وفساد ورشوة وممارسات غير أخلاقية، تمس أعراض الناس وشرفهم، لذلك كان في الجيش العراقي فصيل يسمى (الانضباط العسكري) مهمته الوحيدة هي تدقيق سلوك وتصرفات المنتسبين إلى هذه المؤسسة بغض النظر عن رتبهم العسكرية، وبغض النظر إن كانوا داخل الثكنة العسكرية أم خارجها. كان يدقق حتى في الملابس الرسمية للعسكري ومدى نظافتها وترتيبها، وفي ما إذا كان حليق الوجه من عدمه، ومدى تطابق سلوكه العام في الشارع مع الخُلق العسكري المنصوص عليه قانونا، لذلك لم يكن أي منتسب يجرأ على التصرف المشين وهو يرتدي الزي الرسمي.
فأي جرأة تلك التي امتلكها ذلك الجندي، وهو يتحرش جنسيا بطفل صغير داخل آلية عسكرية، تعتبر في القانون جزءا من شرف الوطن؟ وأي جريمة تلك التي اقترفها وهو يمارس الرذيلة باللباس الرسمي الذي هو في القانون العسكري شرفه؟ بل أي تجبُّر وتنمُّر هذا الذي دفع الجندي الآخر لأن يغتصب والدة الطفل في الموقع العسكري نفسه، الذي هما مُكلفان بحمايته وحماية المنطقة التي يتواجدان فيها؟ إنها ببساطة شديدة جرأة من أمِنَ العقاب. كما أنه سلوك أنتجته عمليات التثقيف الطائفي والمناطقي، التي جعلت الجُهّال يعتقدون أن العراق مجرد مناطق لا تشبه بعضها بعضا، وليس بينها رابط وطني وثقافي وديني وقبلي وعائلي، وأن ابن الموصل ليس أخا لابن البصرة أو ميسان أو الأنبار أو كركوك. وبالتالي عندما هُزم تنظيم «الدولة» في الموصل، كان الخطاب موجها لأهلها أننا من حرركم وحرر أراضيكم، ودماؤنا سالت على أراضيكم. وكأن القوات التي جاءت من محافظات أخرى لتحرير المنطقة قد جاءت من دولة أخرى، ما شكل فجوة عقلية لدى البعض، فتصرفوا بعقلية الغازي الذي يتصور أن كل شيء أمامه في هذه المنطقة قد بات مباحا.
إن الإجراءات التي أعلنت عنها وزارة الدفاع العراقية بحق المجرمين من منتسبيها ليست كافية، خاصة أن القضاء العراقي بات عاجزا تماما عن إنفاذ القانون، في ظل تداخل سلطات الميليشيات والأحزاب والعشائر، مع الفساد المالي والأخلاقي داخل أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، فقد بات من السهولة بمكان أن يتم تغيير الأقوال والإفادات في مراكز التحقيق مقابل مبالغ مادية. وفي حالة انسداد هذا الطريق بسبب نزاهة القاضي، أو الموظف المسؤول، فإن التهديد بالقتل أو الفصل العشائري يمكن أن يكون هو الحل، ولن تمضي سوى أيام قلائل لتجد المجرمين أحرارا طلقاء مرة أخرى.
إن الادعاءات المتكررة من قبل أجهزة الدولة المسؤولة، بأن جرائم القتل العمد والسرقات والاغتصاب والابتزاز المادي والمعنوي، التي حصلت في المناطق التي أعادت الدولة سيطرتها عليها خاصة الموصل، هي تصرفات فردية من قبل أشخاص مسيئين، ولا تمثل المؤسسة العسكرية والشرطية والأمنية، هي ادعاءات باطلة وكذب وتدليس، الهدف منه التنصل من المسؤولية، بل هي إعلان رسمي بأن الدولة العراقية دولة فاشلة، وأن ما موجود فيها من أجهزة هو مجرد هياكل فارغة من القيم والتقاليد، فالدول الحقيقية هي تلك التي تجعل من أجهزة الدولة مدارس يتعلم فيها المنتسبون كيفية حماية أبناء الوطن والذود عنهم في أوقات السلم والحرب. أما آن لهؤلاء المتربعين على كراسي السلطة في بغداد، أن يعطوا جزءا من شهامتهم وغيرتهم في الدفاع عن إيران كي يدافعوا بها عن أبناء شعبهم؟
مثنى عبدالله
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية