هل أنت شيعي أم سني؟

ا. د. محمد طاقة

تخرجت في الاعدادية الشرقية بمدينة الموصل، وكان حلما يراودني أن أرى بغداد الحبيبة، عاصمة العراق العظيم، وفعلاً، قبلت في كلية التجارة، بجامعة بغداد، وغادرت مدينتي إلى بغداد، لأول مرة في حياتي، ملتحقاً بالكلية وبدأت مرحلةً جديدة من حياتي، اختلطت فيها بزملاء من محافظات القطر جميعها، وبدأت أسمع كلمات غريبة لم تطرق مسامعي من قبل، وسألت صديقاً لي على استحياء: ما معنى كلمة (الگلاوچي)، وما معنى (سني – شيعي)، وابتسم قبل أن يجيب أن كلمة گلاوچي جاءت من (الگلاو)، وهو غطاء رأس يعتمره الرجال على رؤوسهم، ومجازا تعني الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، وهي، فِي المراجع، تعني النهب والسلب بطريقة ذكية، كما تعني الضحك على الذقون.
و الگلاوچية مبدعون في خداع الآخرين واللعب عليهم للحصول على مبتغاهم، وهم الذين يراوغون ويكذبون ويضحكون على البسطاء، وحتى غير البسطاء، فجميع المواصفات، التي ذكرها لي ذلك الصديق، وجدتها بعيدة كل البعد عن الدين الاسلامي وبعيدة عن الأخلاق الإنسانية العامة.
وسألني الصديق: وهل انت شيعي أم سني؟ فأجبته: أنا مسلم عربي من العراق ومن مدينة الموصل.
وحقيقة، لم يكن عندي غير ذلك الجواب، قبل أن يدور بيننا حوار طويل، حتى استوعبت أن المذاهب وتعددها والطوائف وتعددها هي مسألة إيجابية تساعد على التطور وإيجاد الحلول لمشكلات المجتمع وتمنحه القوة والمنعة وتعزز الروح المعنوية الإيجابية لدى المجتمع وتدفعه نحو الأمام، وكذلك بالنسبة للعشائر، ولكن المقلق والمرعب هو الطائفية والعشائرية، التي تعني التعصب للطائفة والعشيرة، فهي مكمن الخطورة، وهي من عوامل التخريب والتدمير للمجتمع، وتحمل معها أمراضاً خطيرة جداً.
إن التطرّف، دينياً ومذهبياً وعشائرياً، يقود إلى الفرقة والتجزئة وأحيانا الاقتتال بين أبناء المجتمع الواحد، وهو ما حدث في العراق، فعلاً، فمنذ العام ٢٠٠٣ والى اليوم، شهدنا أن قوى الاحتلال جلبت مجموعة من السراق وقطاع الطرق وحثالات، انتقتهم، من الزوايا العفنة في العالم، بذكاء كبير وبالمواصفات المطلوبة أمريكيا وصهيونيا وإيرانيا، مجموعة لا تخطر على بال إبليس، على الاطلاق، وجميعهم (گلاوچية)، ووضعتهم على رأس السلطة.
مجموعة مجرمة وقتلة مأجورون وسراق محترفون، طائفيون حتى النخاع، عمدوا إلى تدمير البلد وتعميق الطائفية والعنصرية وتأجيجهما، لا دين لهم ولا أخلاق، وباسم الإسلام يمارسون تلك الموبقات كلها، وهم عن الإسلام الحقيقي بعيدون.
إن المسلم هو الذي يُؤْمِن بالله ورسله وكتبه واليوم الاخر، وهو الذي يسلم الناس من يده ولسانه، فجوهر الديانات جميعها هو التوحيد، أي الإيمان بالله الواحد الأحد، وأن يحترم المؤمن الديانات جميعها، والإسلام الحقيقي لا يميز بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى، والتقوى تعني الإيمان والعمل المنتج، الذي يخدم الإنسانية، وأن الناس سواسية كأسنان المشط.
الإسلام دين المحبة والسلام والتسامح، وهو للبشر كلهم ولا يقتصر على مجموعة أو جماعة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال في محكم كتابه (الحمد لله رب العالمين) ولم يقل ربّ المسلمين ولا ربّ المؤمنين.
ينبغي أن نفهم الدين مجرداً عن الطقوسية، أن نفهمه بجوهره ولا نفهمه بالقوالب الجامدة، التي وضعه فيها المغرضون، بل كقواعد متحركة ليعالج مشكلات المجتمعات (الاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية) إذ أن لكل مرحلة تاريخية خصوصيتها ومعطياتها وقوانينها، لذا فالتعامل مع الدين ينبغي أن يكون حضارياً وتفاعلياً وليس سلفياً جامداً.
أما الدين كعبادة، فهو لله لكن الوطن للجميع، وكل فرد مسؤول عن تنظيم علاقته بربه ولا أكراه في الدين، ونحن مع الإيمان ضد الإلحاد، والدين بالنسبة إلينا معاملة وأخلاق وسلوك.
لا منقذ للعراق مما هو عليه، الان، غير الابتعاد عن التطرّف والعقلية الطائفية المتخلفة، فالطائفيون أناس متخلفون ضيقو أفق لا يعيشون إلا في المياه الآسنة ويتعمدون نشر التخلف بين أوساط البسطاء من الناس ويزرعون في نفوسهم الطائفية، والحقد والكراهية والتخلف لتمرير مآربهم، فهم في الأحوال كلها يتاجرون بالدِّين، وهي التجارة الرائجة في المجتمعات المتخلفة.
أدركت مبكرا مدى خطورة التطرّف الديني والطائفي على المجتمع العراقي، وبخاصة أن المحتل يلعب على هذه الورقة لإضعافنا وتفرقتنا ويستغل ذلك لمصلحته فقط، وعلى حساب الشعب العراقي.
وأعلم جيدا أن بعض جوانب الحياة تكون مفروضة على الانسان، ولا يمكن له أن يتحكم بها، وهي خارج أرادته، فهي مفروضة عليه فرضاً، ولا يستطيع، على الاطلاق، تجاوزها أو الفكاك منها، كأن يفرض عليه أبواه وتفرض عليك ديانة أبويه وقوميتهما، وكذلك وطنه ومدينته، التي تولد فيها، وأسمه، وعادات المجتمع، الذي يترعرع فيه وتقاليده وكثير من تفاصيل الأمور والأحوال ونكون عن التحرر منها عاجزون، وبقيودها الجبارة مأسورون، فيما هي تلاحقنا حتى مماتنا. هذه هي أقدارنا جميعا. فقدري أن أكون مسلما عربيا عراقيا، وهنا يتوجب عليّ أن أدافع عن هذه التسميات الكبيرة بمعانيها، وأضحي من أجل القيم، التي تربيت وانتميت إليها وأحببتها حتى أصبحت جزءاً من كياني وروحي وجسدي، ولكني، في الوقت نفسه، قادر على ان أمارس دوري كجزء من هذا المجتمع، أن أجتهد بتغييره نحو الأفضل مع الحفاظ على أساسياته، التي أومن بها وأعدّها قيماً عليا لا يجوز المساس بها.
وهنا يبدأ صراع مرير بين الذات وبين ما يحيط بالفرد من تخلف ساد مجتمعه ولأسباب موضوعية وذاتية، كمشكلة الطائفية والتشرذم والتجزئة والتخلف، التي تؤدي جميعها إلى ضعف الانتماء الحقيقي للوطن والتمسك بالوطنية الحقة. فالانتماء للوطن حاجة ملحة وضرورية، كأهمية الغذاء والماء والهواء لحياة الانسان.
وعيت ذلك كله مبكرا ولكن، مع الأسف، لم يع ذلك بعض من أبناء مجتمعي، ولهذه الأسباب نذرت نفسي وبوعي كامل وإدراك تام أن أكون مناضلا لمقاتلة التخلف بأشكاله كلها، هذا التخلف، الذي فتك بالعراق، ودمر أحلامنا وتطلعاتنا للمستقبل.. هذا التخلف الذي دمر كل شيء من حولنا، وإذا استمر فلن يبقى لنا أي أمل بالمستقبل.
إنه الآفة الأكثر فتكا، والأكثر خطورة.. إنه المرض، الذي يستغله المحتلون، وينفذون، من خلاله، إلى الأوطان لينهبوها ويقتلوا أبناءها ويفتكوا بهم ويهينوا مقدساتهم، وليفعلوا ما يشاؤون.
فحذار من الطائفية.. حذار من الاثنية.. حذار من التفرقة والاقتتال.. توحدوا ورصوا الصفوف وساندوا الثوار في ساحات الاعتصامات،
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، كما أوصانا كتابنا الكريم.
وثورة حتى النصر

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى