وطنك حيثما يكون رزقك – طالب سعدون

طالب سعدون

رجعت الى أرشيفي الخاص فوجدت فيه مقالا خاصا كل عام عن الموازنة  ، بدافع  للكتابة يكاد يكون متشابهاً ، وهو الوقوف على أثر الموازنة  على البلاد، والتــــطور الذي يعقبها في السنة اللاحقة وهكذا ..

ووجدت هناك مشتركات في تلك المقالات وهي أن الروتينية والتقليدية كانت هي الغالبة على الموازنات ، سواء في الاعتماد على النفط  كمورد رئيسي ، وخضوعها لتقلباته  المستمرة ، أو في خلقه حالة من الاتكالية وعدم الالتفات الى القطاعات الانتاجية  الاخرى ، أو في غلبة الجانب التشغيلي على الاستثماري ، مما يفقدها صفة التنمية ، وإنعكاس ذلك على مستوى الخدمات ، وفرض العمل والبناء عموما ، أو في التأخير في اقرارها ، وكأنه (علامة) مميزة لها ، لانها تحتاج الى توافق بين الكتل ، مما يجعلها وكأنها موازنة أحزاب ، وليس حاجة  شعب ..

مقالات ذات صلة

وقد لخصت صفة تلك الموازنة  في أحد المقالات بانها (موازنة  الأمر الواقع ) ، ولم يكن لها تأثير يذكر على البلاد ، أو تلمس تطورا فيها يجعلها تغادر تلك الصفات التي أشرت اليها … فهل تغيرت  الموازنة هذا العام عن سابقاتها أم كانت امتدادا لها ،  خاصة وإن إختيارالدكتور عادل عبد المهدي  لرئاسة الحكومة قوبل بحالة من التفاؤل ، وعد (قفزة نوعية في العملية السياسية) ، وإن كانت الموازنة عدت قبله ، لكنه إعتمدها ، ويمكن أن تظهر لمساته وتطبيق برنامجه الحكومي واضحة فيها ، ( لانه مسؤول عن تنفيذها ، ويمارس صلاحياته  الواسعة من خلال منصبه الذي يعد أهم منصب في الدولة ) ، وليس هناك ما هو أفضل من الموازنات لتـــــكون وثيقة تعكس هذا الرهان على دوره  في المستقبل ..

إن تكرار مثل هذه الموازنات على هذه المواصفات تدفع الباحث الى تأمل حال البلاد ويتساءل .. هل بمثل هذه الموازنة يمكن أن  يبنى الانسان وتتطور البلاد ، وتتحقق تنمية حقيقية ، واقتصاد متطور متعدد المصادر ، وخدمات راقية تناسب العالم ،  وتحترم دور الانسان ، أم تستمر في الاعتماد على النفط  ، وتساعده بجزء يسير ضرائب ورسوم ، أي أنها تلجأ الى (جيب المواطن  كلما  وقعت  في ضائقة مالية أو لسد العجز) ، فتزيد الضرائب أو تخلق ضرائب جديدة  تستنزف بها المواطن ..

إن صفة التقليدية وغياب التطور يدفع الى التساؤل..هل تحقق  مثل هذه الموازنة طموح  المواطن على أرضــــــه ، وتقف أمام تطــــلعه الى غيرها بحثا عن الرزق فيها .. ؟..

اذا كان المكان ثابتا ، لا يتغير، أو يرحل عن قدره الازلي  الذي حدد  وجوده ، ومعالمه ، وحيزه في هذا الكون ، لكن  البشر عليه متغيرون باستمرار ، سواء في العدد – بالزيادة والنقصان ، أو في النوعية – في التطوروالتراجع  .. فالانسان كل  يوم (يمتطي) أرضا جديدة الى أن يجد الارض التي يستقر فيها ،  ليبني وطنه عليها ، هكذا هو في حقب التاريخ المختلفة  …والشواهد كثيرة ..

إن مستقبل الأوطان يتوقف على الانسان .. في عمارة المكان ، أو خرابه … ومسؤولية الحاكم ، هي أن يأخذ بيد هذا الانسان ، والارتقاء به لما فيه الخير والصلاح والاعمار ، ويعمل على توفير  الموارد المطلوبة ، والخطط اللازمة لتحقيق هذا الهدف من خلال المؤسسات المختلفة التي يتولى قيادتها ..

وتتساوى في هذا الهدف الدول الغنية والفقيرة .. فموريشيوس على سبيل المثال ، وهي دولة فقيرة حالها حال أمريكا وهي  دولة غنية وصلت موازنتها هذا العام الى  4.4 ترليون دولار في  هذا المسعى وتطلعها الى التطور من خلال بناء الانسان .. فقد استطاعت هذه الدولة الصغيرة أن تكون أغنى دولة افريقية رغم عدم امتلاكها موارد طبيعية مثل النفط والمعادن ، لانها اعتمدت على الانسان ، وكانت فلسفتها في البناء أن تبدأ مع الانسان من التعليم  فجعلته  خدمة مجانية ، وليس سلعة الى نهاية المرحلة الجامعية ، وكذلك صحة الانسان خدمة مجانية ايضا لجميع المواطنين ، بما في ذلك العمليات  المكلفة ، وليست تجارة ، وإستطاعت بهذا الانسان أن تصل الى ذلك المستوى الذي تكون فيه  (نموذجا للاستقرار والرخاء الاقتصادي في الجانب الشرقي في أفريقيا) …

فاين نحن من هذه التجارب، الغنية والفقيرة ، وأرضنا لا تشد مواطنها  اليها ، فكيف بها  تكون مغرية للغير ، فهي تقترض لتسد العجز، وتأكل، وهي بهذا المستوى  المتدني من الخدمات ،  بعد أن كان  يشد الرحال اليها  للعمل ،  إذا ما ضاقت بطالبه السبل في بلاده ..أو تشبع رغبة العالم المفتوحة للعلم  ويقطع المسافات لكي يسد ما ينقصها في بغداد والكوفة والبصرة ، وينهل من علمها وأدبها وفنها ما شاء له حظه في الشهرة والنبوغ ، لكن الاعداء خلاف تلك القاعدة يتكالبون عليها طمعا بما تحت الارض ، وليس بما فوقها ..

كانت بغداد موئل العلم والعلماء والادباء ، وكم تغنى بها الشعراء وافاض بمدحها العلماء والحكماء ..

وكانت أمنية  الطالب أن يتخرج من بغداد منارة العلم ، ويفخر المتخرجون منها لتميزهم بها ، فتجد هناك روابط وجمعيات  للمتخرجين  من جامعات العراق تعبيرا عن الوفاء والاعتزار بشهادة كانت لها درجتها المتميزة بين جامعات العالم المتقدم ، ورغبة في التواصل معها ، وربما قد لا يحصل ذلك مع غيرها  ..  واليوم تغير الحال ..فهل يشد الرحال الى بلد يصنف بانه خارج مؤشر جودة التعليم لاـفتقاره الى ابسط معايير الجودة المعـــــتمدة في الدول المتقدمة .؟..

الارض تأخذ لونها من  إنســـــانها  .. تتعافى بعافيته ، وتضعف وتمرض باعتلاله  ..

والارض بلا إنسان (تكون يتيمة) ، لكنه لا يمنح حبه لها دون أن تؤمن حياته عليها بكرامة .. فهوعندما لا يجد كرامته  في أرض  يهاجر الى غيرها الى أن يجد ضالته  ، وأرض الله واسعة ، وفي هذا المضمون يقول  الامام علي (ع) (الفقر في الوطن غربة ، والغنى في الغربة وطن ) …

وفي هذه الكلمات القليلة  قدم الامام علي إبن ابي طالب نظرية إنسانية ، إقتصادية ، علمية ، إجتماعية ،  حضارية  سبق بها المنظرون  المعاصرون بكثير ، تصلح لكل الازمان والشعوب  ، وخلاصتها  أنه حيثما وجد الغنى وجد الوطن .. ولا وطن حيثما وجد الفقر ..

والرزق يحقق الغنى..  وعندما يفقده الانسان تضعف صلته بالوطن ،  و( استمرار وجوده على أرضه ، حتى وإن كان بين أهله وأقاربه وأصدقائه ، يرى نفسه غريبا) ، أو عالة عليهم  لفقره ، وكرامته لا تسمح له بذلك …

اذا فوطنك حيثما يكون عملك  –  رزقك ..

والبطالة  تورث الفقر ..  والفقر يكاد يكون كفرا … فاذا لم يكن  من وظيفة  الحكومة إدخال الناس الى الجنة ، فإن وظيفتها أن توفر لهم جنة على الارض تعينهم على دخول جنة السماء على حد قول أحد البرلمانيين العرب ، فاين برلمانيونا من هذه المهمة  ؟… وهل في موازناتنا ما يجعل الوطن  جنة العراقيين  على الارض ..

ولك أن تقدر خطورة البطالة على الوطن قبل الانسان …؟.

الموازنة سنة بعد أخرى تقدم صورة ( لا تسر  ) عن حال الوطن ، لا تناسب مكانته ، وذلك التاريخ الذي نتحدث عنه ونعتز به … تراجع مخيف ، ومستقبل  يبدو مقلقا ، محفوفا بالمخاطر .. يمكن أن تعرف ملامحه من هذه الموازنات (البائسة)، التي لم توفر فرصا كافية للعمل ، تشد الانسان الى أرضه …

لقد تخلت الحكومات عن واجبها ، وهو بناء الانسان أولا ، لكي يبني الوطن ، وفي أهم مرفقين هما التعليم والصحة ، واصبحا تجارة ، وسوقا مفتوحا لمن يدفع ، ويرسخ من  الطبقية في المجتمع وإكتفت الحكومة  بمهمة واجب (محاسب) يتولى مهمة توزيع الرواتب على الموظفين ، أما الفقراء فلهم الله ، وهم عياله سبحانه .. وتلك مهمة لا تحتاج الى عبقرية ، ولا تبني وطنا يحقق تواصله مع ماضيه المجيد ، ويحقق حاضرا سعيدا ، ومستقبلا يواكب به حركة العالم وتقدمه في المجالات كافة ويترك إثراغنيا للاجيال القادمة …

هل تتوقع  شيئا مختلفا من موازنة ينتقدها من شرعها ، فقد  استمعنا الى إعتراضات  كثيرة من  البرلمانيين والسياسيين على الكثير من بنودها التي جاءت شبيهة للموازنات الماضية ، وإن كان هناك من يرى أنها  لا تخلو من معطيات إيجابية ..

فهذه الموازنات ( البائسة ) تجعل من يصف العراق بانه ( بلد ماضيه أفضل من حاضره )  بانه على صواب ، ويدعو من يشك في رأيه  الى أن يرجع الى الارشيف والصور ليقف على حال الانسان في ثقافته وصحته وتعليمه ، ونظافة المدينة ، والشارع ومستوى الخدمات من الثلاثينات في القرن الماضي صعودا وهي افضل بكثير مما هو عليه الأن ….

إذا كانت الدول ومراكز البحوث والمواقع الاقتصادية والتجمعات فيها تنشغل بوضع  تصورات وبرامج وخطط وافكار ومقترحات للمستقبل  وترسم الطرق التي تناسب التطورات المحتملة وملامح المستقبل  في العالم خلال مديات زمنية مختلفة ، وكيف تواكب  الدول حركة العالم  واين موقعها فيها ..  لكن في العراق  يمكن أن  تعفيك  المــوازنات  من كـــــل ذلك ، وتعرف تلك الملامح  بوضوح ..

وإذا كان صعبا على من يتولى أمر البلاد أن يقارن نفسه بغيره  من الدول لكنه بالتأكيد قادرعلى أن  يقارن نفسه  بنفسه .. كيف كان قبل عام ، وكيف أصبح  بعده ، وكيف سيكون ..

 عندها يعرف دور وقيمة الموازنة .. أنها ليست أرقاما فقط ، هي صورة لحاضر ومستقبل البلاد ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى