متابعة القضية في قاعدة فورت هود الأمريكية في تكساس
كان علينا أن ندخل في انتظار جديد ليس لدينا وسيلة لنتابع القضية إلا بما يصل إلينا من تبليغات من الجانب الأمريكي، ففي منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2004 تم إبلاغنا من قبل السرجنت سينترون هاتفيا بالاستعداد للسفر إلى الولايات المتحدة لحضور جلسة محاكمة في المحكمة العسكرية في قاعدة فورت هود في ولاية تكساس، قالت لي بأن مروان وأخي مأمون والد الشهيد زيدون وأنا سنغادر في غضون أيام معدودة، وقالت بأن علينا جميعا التواجد في بغداد من أجل الذهاب إلى سفارة الولايات المتحدة (الدائرة القنصلية) داخل المنطقة الإسمنتية المسماة بالخضراء، اتصلت بمأمون ومروان وطلبت منهما المجيء إلى بغداد استعدادا للسفر إلى البلد الذي احتل بلدنا ودمر بنية الدولة العراقية وقتل مئات الآلاف من أبنائه، ومن بينهم زيدون، خلال أربع وعشرين ساعة كانا في بغداد انتظارا لمكالمة هاتفية من سينترون، وإذا بها تبلغني بالذهاب إلى منطقة المطار مع جلب جوازات السفر، تساءلت مع نفسي هل يتم هناك ختم الجوازات أم أن سينترون ستأخذ جوازاتنا إلى القنصلية الأمريكية لختمها؟ استبعدت الاحتمال الأول ورجحت الثاني إذ يبدو أنهم لا يحبذون ذهابنا إلى داخل المنطقة التي تتواجد فيها السفارة والقنصلية لأسباب أمنية، لكنني سرعان ما أسقطت هذا التفسير لأننا دخلنا في مواقع تابعة لأعلى القيادات العسكرية الأمريكية في منطقة المطار وفي السايلو في سامراء، على العموم يوم 18 /10 كان موعدنا أنا ومأمون ومروان مع السرجنت سينترون في مطار بغداد لنذهب إلى جهة مجهولة لتأشير جوازات السفر تمهيدا للسفر إلى الولايات المتحدة لحضور إحدى جلسات المحكمة العسكرية، حينما وصلنا السيطرة الخارجية للمطار لم تواجهنا الصعوبات التي واجهتنا في المرات السابقة، فقد عرفنا مداخل المنطقة التي نتوجه إليها وكذلك طرق الاتصال بمن نريد اللقاء به، كانت سينترون تمتلك خطا هاتفيا أمريكيا أو هكذا قالت لنا، نحن نشك في كل ما يقولون وهذا من حقنا وواجبنا ولكننا حينما نكون معا نراها تتكلم بهاتفها النقال دون انقطاع مما أثار عندي تساؤلا لم أجد غضاضة في طرحه عليها وقلت لها (لماذا لا تعطينا رقم هاتفك لتسهيل اتصالنا بك وقت الضرورة؟) قالت إن هذا الخط مرتبط بشبكة داخل الولايات المتحدة وتنظم اتصالاتها عبر الأقمار الصناعية، وأضافت إنها قررت اقتناء خط عراقي لتسهيل الاتصالات مع أصحاب القضايا التي تتولى دائرتها متابعة التحقيقات فيها.
بعد أن اكتمل العدد وهممت بالذهاب إلى سيارتي قالت لي أترك سيارتك في موقف سيارات المطار لأننا سنذهب سوية بعجلة أمريكية إلى المنطقة الخضراء حيث السفارة الأمريكية! كان هذا كفيلا بإثارة الكثير من التساؤلات المنطقية، قلت لها (كان يمكن أن تبلغيني بأن ننتظركم في مكان محدد في الباب القريب من جسر الجمهورية في كرادة مريم فلماذا هذا الجهد الذي لا أفهم له سببا منطقيا)، اكتفت بابتسامة عابرة وكأنها كانت تتوقع هذا السؤال ولهذا أعدّت هذا الجواب، لم يكن أمامنا من خيار إلا الذهاب في التحقيق إلى نهايته مع يقيننا أن أمريكا التي منحت جنودها من الحصانات ما يغطي على جرائمهم مهما كانت طبيعتها، ولذلك لا نريد منحهم سببا في التراجع، أشارت إلينا أن نتحرك باتجاه عربات همر كانت أطقمها في حالة انتظار، هل من المنطقي أن نستقل عربات همر تابعة لقوات الاحتلال الأمريكي، ونذهب بها إلى سفارة دولة الاحتلال ونجتاز خلال هذه الرحلة القصيرة الطويلة طريق المطار؟ وهل من المعقول أن من كان يتحسس من المرور على طريق المطار بسيارته الخاصة أن يجتازه من بدايته إلى نهايته وبمدرعة همر من جيش عدوه، هذه العربة التي تحولت إلى رمز أمريكي لقتل أطفال العراق ونسائه وشيوخه وهدف لنيران رجال المقاومة الشجعان، هل سنركب في عربة ما تزال رائحة الدم العراقي تفوح من نوافذها وعلى مقاعدها، أمّا الرشاشة الثقيلة التي تنتصب فوقها فربما حصدت أرواح المئات من العراقيين استنادا إلى ما يسميه الأمريكيون برد الفعل الغريزي للدفاع عن النفس بوجه الهجمات التي كانت المقاومة العراقية المسلحة تشنها بلا هوادة على قوات الاحتلال حتى أن الأرقام التي كانت تتسرب عبر الصحافة الأمريكية نفسها كانت تشير إلى أن المعدل اليومي للعمليات الحربية كانت بحدود 100 عملية، ربما فكرتْ سينترون مرة أخرى بأننا على صلة بحركة المقاومة وظنت أننا زودنا المقاومة توقيتات حركتنا من المطار حتى السفارة، نعم ربما فكرت سينترون بهذا وإلا فما معنى أن نأتي بسيارتنا من بغداد إلى المطار ونترك سيارتنا الخاصة في إحدى ساحاته الخارجية ونذهب بعربة همر إلى بغداد وبعد عودتنا بها إلى المطار نأخذ سيارتنا ونعود لوحدنا إلى بغداد؟
يمكن أن يكون ذلك مرتبة عالية من الغباء المركب الناتج عن الرعب والهلع الذي سيطر على الجنود الأمريكيين بعد سنة ونصف من احتلال باهظ الثمن للعراق، الذي فاجئ الأمريكيين ومن خدعهم من العملاء رخيصي الثمن وزينوا لهم الذهاب لخيار الحرب الذي لن يكلف أمريكا أكثر مما تخسره في مناورات لقواتها بالذخيرة الحية، وربما كان عملا مقصودا لهدف ما، ركبتْ معنا سينتورن في عربة واحدة، رأيت قلقاً في عينيها وعيون بقية الجنود يكاد يخرجها من محاجرها، وربما كنت اسمع نبضات قلوبهم وكأنها دفوف تقرع بين الضلوع بقوة توشك أن تمزق الصدور من فرط الخوف، قالت لي المترجمة الفلسطينية الأمريكية سهام الجعبري إنه أصعب امتحان يجتازه الجندي الأمريكي عندما يمر في شارع المطار وهو مشروع قتل شبه مؤكد، فمنذ انتهاء عمليات الفلوجة تحولت المواجهة إلى هذه المنطقة وكأن أبواب جهنم قد فتحت على مصاريعهما لاستقبال من تخونه الفرصة ويسقط قتيلا بنيران المقاومة أو بنيران الفوضى التي تسيطر على الموقف عندما يطلق مقاوم عراقي قذيفته الأولى باتجاه رتل أمريكي يبحر، وسط جو من الكراهية التي تتفنن في جره إلى منطقة اليأس، سألتها ولماذا اتخذتم هذه الإجراءات المعقدة والتي تبدو مقصودة أن نكون فيها ضمن عربات الجيش الأمريكي الممقوتة على مستوى الشارع العراقي؟ قالت يجب أن تعرف أننا لن نتحرك على طريق المطار إلا في الحالات النادرة جدا، والدوريات القتالية التي تتحرك على هذا الطريق تعيش أزمات قلبية وعصبية، ومعظم من خدم على هذا الطريق أصيبوا بأمراض نفسية كلفت الدولة الأمريكية أموالا طائلة للإنفاق عليهم.
وصف بعض المحللين الحربيين طريق المطار بأنه يستحق اسم “طريق الموت” كما استحقته طرق أخرى تقع على الطرق الرابطة بين بغداد والمدن التي تقع غربها وشمالها وشرقها وجنوبها، حتى أن كثيرا من جنود القوات الأمريكية خرجوا من الخدمة نتيجة ما لحق بهم من اصابات مباشرة ونفسية وعقلية.
وجدت نفسي مدفوعا أن أسألها سؤالا قد يحرجها وهي أنها فلسطينية تخدم بلدا عادى العراق وكانت القضية الفلسطينية أبرز دوافعه لغزوه، كيف تتعامل القيادة الميدانية الأمريكية مع هذه المستجدات؟ ألا تعتبر أن تكبدها هذا القدر من الخسائر يجب أن يدفع أمريكا لإعادة النظر بسياساتها الشرق أوسطية؟ أجابت بحرج شديد قالت إنها لا علاقة لها بالسياسة، هي وجدت لنفسها فرصة عمل براتب مجزٍ وجاءت إليها مدفوعة بتصور أنها ستعود إلى موطنها الجديد وقد تكدست لها أموال كافية وهي لا تريد أن تموت هنا وخاصة على طريق المطار الذي قد يحلق بأرواح الجميع عاليا، كانت تتحدث وتترجم بعض أجوبتها لسينترون دفعا للحرج مع مسؤولة في استخبارات القوات الأمريكية.
قالت “عليك أن تعرف أننا نتحرك بحماية ست مدرعات قتالية لتأمين وصولنا إلى المنطقة الخضراء التي لا نمر عليها إلا في الحالات المماثلة التي نذهب فيها اليوم”، حينما ذكرت رقم المدرعات التي تحمي ركبنا أخذتني مشاعر متباينة، فإن حجم الدورية يجعل منها هدفا مطلوبا أكثر من الدوريات الصغيرة من قبل المقاومة، فالدوريات الكبيرة لا بد أن فيها قائدا عسكريا كبيرا لتأمين تنقلاته، كانت أفكاري تذهب بعيدا، فإذا كنت أخشى من التفسيرات السياسية لمروي بسيارتي الخاصة على طريق المطار، فماذا يحصل لو أن المدرعة التي كنا فيها تعرضت لضربة مباشرة وكنت أنا وأخي وابن أخي من بين خسائرها؟ لا أنكر أن الموت بلا ثمن أمر محزن إلى حدود بعيدة ولكن أن تكون جثثنا مع جثث جنود الاحتلال لهو أبغض ما يرد على الخاطر.
عربات الهمر من الداخل فسيحة جدا ومريحة لأطقمها، وتحتوي على منظومة تكييف واتصالات مع مركز القيادة، وشاهدت الإضافات التي وضعت على تدريعها بعد أن انفجرت عليها عبوات ناسفة صممها متخصصون في الأسلحة والصناعات الحربية الذين درسوا خصائصها واكتشفوا النقاط الواهنة فيها، فجاءت زيادة سمك التدريع فيها على حساب المرونة التي كانت تتميز بها، فقوة المحرك تم تصميمها ليتناسب مع وزنها أما وأن وزنها قد ازداد كثيرا فإن إعادة نظر بقوة المحرك يجب أن تتم، ولكن وقتا كافيا لم يعد متاحا أمام القوات الأمريكية لإدخال تلك التعديلات، فجاءت التحسينات الأمريكية لمواجهة الخسائر التي لحقت بها وبمن يركبها بعد تطوير العراقيين لعبواتهم الناسفة ولقذائفهم الصاروخية.
كان لوجود عدد كبير من ضباط الحرس الجمهوري ورجال التصنيع العسكري بين قيادة المقاومة أكبر الأثر في تطبيق خبراتهم القديمة في تحديث الأسلحة والخطط العسكرية، كان زجاج عربة الهمر سميكا وكذلك الأبواب التي تغلق وتفتح بصعوبة بالغة، ومع كل ذلك فإنها لم توفر الملاذ الآمن للهاربين من الموت.
سار الرتل بنا بسرعة كبيرة ومر قرب جامع أم الطبول ومن هناك اخترق الطرق الموصلة إلى المنطقة الخضراء والتي دخلناها عن طريق بوابة القصر الجمهوري قرب جسر الجمهورية، مررنا بشوارع القصر الفسيحة والتي أعرفها عن ظهر قلب فأنا من سكنة كرادة مريم التي أحببتها فهي موطن طفولتي وفيها تكونت أولى براعم وعيي، وبيتنا كان قريبا من القصر الجمهوري، وكنت في بعض الأحيان وقبل أن يتحول الشارع الرابط بين جسر الجمهورية والجسر المعلق من أمام المجلس الوطني والقصر الجمهوري إلى طريق خاص، كنت أمر في ذلك الشارع يوميا وربما مررت فيه أكثر من مرة في اليوم، ولهذا وجدت منظر الجنود الأمريكان وهم يروحون ويجيئون وكأنهم أهل دار، وجدت ذلك منظرا يجرح العيون ويدمي القلب ويضغط على الصدر والأعصاب، تذكرت قول الله تعالى “وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون” وأي صبر يكافئ صبر مواطن يحب بلده على احتلال جائر وغاشم ودموي ينتهك الحرمات.
دخلنا مبنى القنصلية الأمريكية التي استعادت موقعها السابق الذي كانت تشغله السفارة الأمريكية على نهر دجلة قرب القصر الجمهوري، قبل أن تُخرجها حكومتنا الوطنية هي وسفارات الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية من أماكنها إلى أماكن أخرى، وجلسنا في غرفة الانتظار، جاء المصور لالتقاط صور لنا، فشروط السفر إلى الولايات المتحدة تقتضي أن تتوثق القنصلية من تطابق المواصفات المثبتة على التأشيرة مع الشخص المعني وهذا لا يتم إلا في حال أن تكون الصورة هي آخر صورة وأن تكون من دون نظارات طبية، قبل أن يبدأ المصور بالتقاط الصور، هز المنطقة الخضراء صوت انفجار هائل ترددت أصداؤه داخل صدور الجنود المرتعبين، إذ سقطت قذيفة قريبا من مبنى السفارة، وبعد ثوان فقط دوى انفجار ثانٍ وثالث، مع أول انفجار كان الجنود الأمريكيون يركضون برعب في كل الاتجاهات بعد أن أفقدهم القصف صوابهم القدرة على التفكير السوي، كانوا يبحثون أي شيء يكون ساترا لهم من الموت، عن كرسي يلقون أنفسهم تحته قد يوفر لهم الحماية اللازمة من موت يحصد الأرواح بوتائر متصاعدة، كنت ومأمون ومروان نتبادل الابتسامات ولا أدري أهي ابتسامات الشماتة بعدوٍ ظن أن العراقيين لن يقاوموا، أم هي ابتسامات السخرية من جيش أرعب العالم بقوة ماكنته الحربية ولكنه وقف صاغرا أمام بأس العراقيين، كانت نظرات الرضا مع كل قذيفة تسقط نتبادلها أنا ومأمون ومروان تجسد مشاعرنا الحقيقية، بل ونعيش احتفالا داخليا وكأننا نتلمس لأنفسنا عزاءً لما حل ببلدنا وثأرا ممن غزاه وسلمه لحثالة من الأوغاد من خونة ليس لهم من العراق إلا جنسية تصدّق بها عليهم أهله، ومن هؤلاء الذين عندما عايشناهم لبرهة قصيرة وجدنا أنهم يقاتلون بتفوق التكنولوجيا لا بشجاعتهم، وحتى لو أن تلك القذائف لم تقتل أحدا منهم فإنها قتلت فيهم ما يزعمون من إقدام وشجاعة وتركتهم كفئران فاجأها سيل جارف وقبل ذلك قتلت إنسانيتهم، بقينا في المبنى حتى عصر ذلك اليوم وأعيدت لنا جوازات سفرنا، فتحت جوازي لم أجد عليه أي تأشيرة، قالت سينترون أن التأشيرات في وثائق ستبقى معها ولا تثبت على الجوازات، وأخبرتنا سينترون بأنها لا تعرف توقيتات سفرنا إلى الولايات المتحدة ولكن علينا أن نتواجد في بغداد لاحتمال السفر في أي يوم وسوف اتصل بكم قبل يوم واحد وأبلغكم بالموعد.
عرفنا أن القذائف التي سقطت على مبنى السفارة المجاور للقنصلية والتي هزت مبنى القنصلية أيضا قد أدت إلى مقتل أمريكي وإصابة عدد آخر من حراس السفارة والقنصلية، كانت السفارة من بين الأهداف الثمينة التي يتصيدها رجال المقاومة المسلحة، وما أكثر الحالات التي استهدفت فيها، قلت لمأمون بلغة من تعرّض لظلم كبير ها هم الأمريكيون يسددون من جنودهم بعضا من ثمن أبنائنا العراقيين الذين سقطوا دفاعا عن وطنهم وأرضهم.
بعد أن انتهينا من هذه المهمة توجهنا مرة أخرى نحو عربات الهمر لنعود إلى المطار ومن هناك أأخذ سيارتي وأعود ومأمون ومروان إلى المنزل، واكبتنا في طريق العودة نفس هواجس الذهاب من المطار إلى السفارة الأمريكية ليس خوفا من الموت بقدر ما هو خوف من أن يكون موتنا في عربة همر أمريكية، مع ملاحظة أن أعصاب الجنود الأمريكان كادت تخرج من مواطنها بسبب أن وقت العودة كان يقترب مع نزول قرص الشمس وراء الأفق وحينها يبدأ نشاط المرابطين ليلا لملاحقة الجنود الأمريكان المذعورين.
يوم الجمعة22 /10 /2004 والموافق للتاسع من رمضان المبارك 1425هـ، اتصلت سينترون وأبلغتني بأن يوم غد السبت هو موعد سفرنا إلى الولايات المتحدة، وقالت إن موعد مغادرة الطائرة سيكون عند منتصف النهار على أفضل التقديرات، من الطبيعي ألا تبلغنا بموعد إقلاع الطائرة، وربما هي نفسها لا تعرف الموعد المحدد لذلك، بسبب الاحترازات القوية التي تتبعها القوات الأمريكية حرصا على حياة جنودها الذين تدنت معنوياتهم إلى أدنى مستوى ومن المؤكد أنهم يصبون لعناتهم على قيادة بلادهم التي صورت غزو العراق نزهة ربيعية أو رحلة صيد سيعود الصياد محملا بما لذ وطاب مما اصطاده في البحر أو في الغابة، ولهذا طلبت منا الوصول إلى المطار حوالي العاشرة صباحا من يوم السبت 23 /10، كنت على يقين أنها تكذب علينا بشأن وقت إقلاع الطائرة، فهم يريدون حضورنا في وقت مبكر ليأخذوا وقتا أطول لعزل حقائبنا في العراء وفي مكان بعيد عن تواجد الجنود الأمريكيين خشية من وجود عبوة فيها أو قنبلة موقوتة أو أية متفجرة، ومن ثم التدقيق فيها وإخضاعها للفحص في أجهزة السونار، ومن أجل أن يمر الوقت من دون عناء، دعتنا سينترون لتناول وجبة الغداء في المطعم العسكري الأمريكي في تلك القاعدة الذي سبق لي ولمروان أن تناولنا طعام الغداء أثناء مرحلة التحقيق الأولى، هذا المطعم مخصص للضباط والجنود على حد سواء، ولأننا على سفر فقد أفطرت ذلك اليوم ولكن مأمون أصرّ على البقاء صائماً، وحوالي الساعة الثالثة عصرا جاء النداء باللغة الإنكليزية حول الرحلة التي كنا سنغادر عليها، ظلت الجهة التي كنا سنذهب إليها مجهولة حتى طرق سمعنا اسم الكويت، آه من هذا الاسم المشؤوم الذي تجرّعنا بسببه كل هذه الآلام وتعرض بلدنا لأكبر الحروب منذ الحرب العالمية الثانية، ولولا حكام الكويت ومن اصطف من حكام العرب مع التحالف الدولي المضاد للعراق منذ 1990، وخونة الداخل الذين باعوا شرفهم وعرضهم لإيران وأجهزة مخابرات دولية، ما كان بلدنا سيُحتلُ وما كنا خسرنا وطننا وعشرات الآلاف من الضحايا، وخرج بلدنا من معادلة الأمن القومي والأمن الإقليمي، ولما أصبحت منطقتا الخليج العربي وجزيرة العرب ساحة مفتوحة لنوايا التوسع الإيرانية، حتى صار بعض العرب يتسولون الأمن لأنفسهم ونظمهم من السقوط فتحولا إلى بقرة حلوب ما عليها إلا أن تدفع لتأمين أمن قلق غير ثابت وغير مضمون، بل خسرنا سيادتنا الوطنية وأصبحنا مواطنين من الدرجة السابعة وخسرنا مع كل ذلك ابننا، فبقدر اللعنات التي نصبّها على أمريكا وبريطانيا وجورج بوش وتوني بلير ورئيس وزراء إسبانيا أثنار، ومن قبلهم بوش الأب ومارغريت تاتشر كنا نصبّها على أمير مشيخة الكويت ومن خلَفه ومن سبقوه وعلى كل من قدم لأمريكا أرضا أو قاعدة جوية أو بحرية لشن العدوان.
توجهنا إلى قاعة كبيرة اصطف الجنود الأمريكيون أمام بوابتها في طابور طويل وكانوا يخضعون لتفتيش دقيق أيضا، تساءلت مع نفسي إذا كان الجنود الأمريكيون يخضعون لهذه الدقة في التفتيش فماذا سيكون نصيبنا؟ ثم أنني عجبت من أسباب تفتيش جنودهم هل يعود ذلك لعوامل أمنية أم خشية من أن يصطحب هؤلاء الجنود معهم بعض الممنوعات؟ في ظني أن الجنود يهرّبون معهم كثيرا من المقتنيات التي يسطون عليها من مختلف المدن العراقية، والجهات الأمريكية تتغاضى عن ذلك ولكن سلطة الأمن في القاعدة تبحث عن مخدرات أو ممنوعات أخرى، وربما عن أسلحة وأعتدة تشكل خطرا على الرحلة، بعد إنجاز التفتيش اليدوي يكون على الجميع المرور من بوابة السونار لمزيد من التدقيق في ما يحملون، فالأمريكيون مقتنعون بأن الضجر المرافق لإجراءات ما قبل السفر أهون بكثير من ندم تجلبه كارثة تعرض سمعة أمريكا لزلزال كبير، بعد انتظار طويل كان جنود الاحتلال المرهقون يلقون بأنفسهم على أي شيء في صالة الانتظار ويغطون في سبات عميق، وبعد تأكيد نبأ اقلاع الطائرة توجهنا تباعا إليها وهي طائرة عسكرية أمريكية من طراز هير كلوس C130، هي ليست كالطائرات المدنية لا في طريقة الدخول إلى جوفها ولا في طريقة جلوس الركاب فيها، بعد أن دخلنا الطائرة من بابها الخلفي الذي يفتح بقوة الهيدروليك، وجدناها من الداخل وقد تم شطرها إلى نصفين على طول هيكلها بشبه جدار معدني مشبك، وفي كل نصف منهما رصفت الكراسي كل جزء منها أعطى ظهره لنوافذ الطائرة والجزء الآخر مقابله، ولكنها كراسي متعبة جدا وغير معدة لسفر طويل أو على وجه الدقة هي جزء من ترتيبات تنقل العسكريين الذين يجب أن تبقى ظروفهم أثناء وجودهم في الواجب قاسية وصعبة، استذكرت وحشية الأمريكيين الذين قاموا بنقل المئات من المجاهدين العرب والمسلمين أو من اعتقلتهم القوات الأمريكية وشكّت أنهم كانوا على صلة بمن كان يقاتلها فتم أسرهم في عدوان الولايات المتحدة على أفغانستان، بهذه الطائرات ولرحلات استغرقت أكثر من عشرين ساعة وكانوا معصوبي الأعين وموثوقي الأيدي إلى الخلف والأرجل في أسوأ عمليات نقل وحشية عرفها تاريخ الدول والأمم المتحضرة وتلك تجربة مرة وقاسية عانيت منها أثناء تنقلات الأسرى العراقيين بين مختلف المعسكرات الإيرانية، أو ما كان يُتبع في تجارة العبيد ونقلهم من أفريقيا إلى أمريكا وسط معاملة أصعب من معاملة نقل الحيوانات من بلد إلى آخر.
بمجرد دخولنا في الطائرة أعطانا بعض جنود الخدمة على متنها علبة صغيرة لم نتبين محتوياتها لأول وهلة واستنادا إلى خبرتي في التعامل مع المستجدات فإن علي مراقبة الآخرين ومعرفة تصرفهم والعمل على أساسه، كانت غربتنا موحشة من دون حدود على متن هذه الطائرة المخصصة للنقل العسكري ترى أنسافر مع قتلة شعبنا هؤلاء المتوحشين؟ وما أدرانا أن واحدا من قتلة زيدون ليس معنا على متن هذه الطائرة؟
بدأ الجميع بفتح العلبة وإذا بها تحتوي على قطعتين من الإسفنج المخصص كسدادة للآذان لمنع هدير الطائرة من الوصول إليها، فالطائرة ليس فيها عزل للصوت الخارجي أو للضغط والحرارة أو أي من مستلزمات الراحة المعهودة في الطائرات المدنية، بعد أن أغلقت الطائرة أبوابها تحركت نحو المدرج العسكري المخصص لسلاح الجو الأمريكي من مطار صدام حسين الدولي في تمام الساعة الرابعة عصرا، ثم انطلقت إلى أعلى، غير أنها بدأت بحركة دوران لولبي فوق منطقة المطار ولم نلحظ أنها توجهت باتجاه مستقيم، قالت لنا سينترون إن الطائرة ستبقى تدور في محور واحد لسبع دورات كاملة حتى تتجنب النيران الأرضية التي يمكن أن تستهدفها من مناطق معادية في أبو غريب والفلوجة حيث تنشط حركة المقاومة التي تتحين الفرصة لصيد ثمين بوزن طائرة نقل عسكرية أمريكية تحمل مئات الجنود الحالمين باستراحة محارب قصيرة قد يهرب خلالها من الخدمة العسكرية كما كان يحصل أثناء العدوان الأمريكي على فيتنام، ولكن من أين نجد بلدا يوفر الملاذ الآمن لجنود الاحتلال كما فعلت السويد في ذلك الوقت؟ هي التي كانت قد كتبت آخر سطر في سجل الاحتلال البغيض في نهاية المطاف، وبعد أن ارتفعت الطائرة إلى علو شاهق وبعيد عن متناول الصواريخ، انطلقت جنوبا.
بعد رحلة استغرقت ساعة ونصف من المطبات الجوية والضجيج العالي، ومع موعد الإفطار وصلنا قاعدة علي السالم الجوية، وهي قاعدة أمريكية بامتياز على الرغم من أنها تحمل اسما كويتيا، فهي من حيث الإدارة والسيطرة والتوجيه والإشراف تدار من قبل كوادر أمريكية ولم نلحظ وجود كويتي واحد فيها، تحمل القاعدة من الكويت اسم أحد أفراد الأسرة الحاكمة في المشيخة، وتم وضع القاعدة تحت خدمة الجهد الحربي الأمريكي بمجرد انسحاب القوات العراقية من الكويت عام 1991 تحولت إلى قاعدة أمريكية بصورة كاملة، واستمرت القوات الجوية الأمريكية تحتلها وتعدّ هي وقاعدة السيلية والعديد في قطر وأنجرليك في تركيا جزء حيويا من الحزام العسكري الأمريكي المضروب حول منطقة الخليج العربي.
بعد الوصول إلى القاعدة الجوية مباشرة توجهنا إلى مطعم القاعدة لتناول طعام الإفطار وبعد استراحة قصيرة أعقبت الإفطار اصطحبنا مترجم كويتي من أصل سوري اسمه مصطفى قداح، يعمل في أحد المكاتب الأمريكية الملحقة بالسفارة ويبدو أنه يمتلك نفوذا في الوسط الذي يعمل فيه، كان مكلفا بمرافقتنا خلال وجودنا في الكويت من أجل ضبط حركتنا، وأخذنا حقائبنا ومضينا مع مصطفى في سيارة خاصة وأخبرتنا سينترون بأننا سنغادر من مطار الكويت الدولي في طريقنا إلى مطار أطلنطا في أمريكا عبر مدينة أمستردام الهولندية في الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، ولهذا سنتوجه إلى المطار من فورنا لأننا لا نريد البقاء داخل مدينة الكويت. ذهبنا إلى المطار وفي الطريق لاحظت شاحنات كبيرة تحمل أشجار نخيل كاملة تم قلعها من العراق، في نطاق مساعٍ تنفذها جهات حكومية كويتية للإجهاز على رمز العراق (النخلة)، وإلا فما معنى أن يتم جلب نخلة لا يقل طولها عن ثلاثة أمتار إلا إذا كان القصد هو تشجيع اقتلاع النخيل وبخاصة من مدينة البصرة وبثمن بخس تدفعه إلى ضعاف النفوس وجهلة أغبياء يقطعون أثداء أمهاتهم ويتاجرون بها مع أسوأ سماسرة الأرض، ويجردون أرضهم من عمتهم النخلة ويبيعونها لطرف يتمنى أن يرى أرضهم صحراء قاحلة جرداء لا ينبت فيها زرع ولا يدر فيها ضرع، خلال ساعة مرت في الطريق ثلاثون شاحنة على الأقل، تحمل الكثير من نخيل العراق الذي يأبى الاستيطان في إلا في أرضه، حمدت الله أن غباء من قرر جلب النخيل من العراق جلب نخلات لم يعد بإمكانها إنتاج الفسائل فلا يمكن تكثيرها في الكويت، وبالتالي فإن النخلة التي تموت إنما تنتحر احتجاجا على صفقةٍ غبية بين نخاسٍ جشعٍ بليد وفلاحٍ أحمق، أغمضت عيني لأنني لم أطق رؤية المزيد من باسقات العراق تُنحر على يد جزار يستنسخ تجربة اليهودي شايلوك في مسرحية شكسبير المشهورة (تاجر البندقية)، ثم أنني لم أرغب برؤية شوارع المدينة التي كانت تتسع كبالونٍ يوشك على الانفجار إلا من جهة البحر من دون حاجة حقيقية لمثل هذا التوسع إلا لوجاهة استعراضية فارغة، واسُتخدمت جسرا للعدوان على العراق وتدمير بنية الدولة فيه وحراثة شوارعه وكأنها حقول تنتظر من يزرعها.
كانت شوارع الكويت تعجُ بالحركة البلهاء، وقد ارتفعت فيها أعمدة الكهرباء ببلادة ومن دون انتظام لتحمل مصابيح تحوْل ليلها إلى نهار من دون حاجة حقيقية إلى تلك الإنارة المسرفة إلا لتنفيس عقدة الدولة التي تؤرقها وتؤرق حكامها، بعد جولة غير مقصودة في شوارع الكويت، وصلنا مطارها بانتظار موعد إقلاع الطائرة، بمجرد وصولنا إلى مكتب الخطوط الجوية الملكية الهولندية KLM فاجأنا موظفُ المكتب وهو سريلانكي بأنه يتعذر عليه إتمام الحجز لأننا لم نحصل على تأشيرة لدخول هولندا وحينما أكدوا لهم بأننا لا نسعى للنزول في أمستردام أصرّ على شرط حصولنا على تأشيرة هولندية فكان هولنديا أكثر من رئيس وزرائها وربما أكثر من الملكة بياتريس، وأظهر عنادا آسيويا لم تنفع معه الكلمات الطيبة، حتى دخل ممثلو السفارة الأمريكية في الكويت بحوارٍ استخدمت فيه لغة يبدو أن بعض مواطني البلدان الضئيلة الوزن والحجم لا يفهمون سواها وتم حل المشكلة، وبعد أن أنجزنا وزن الحقائب وأشرنا تذاكر السفر دخلنا قاعة المغادرين باتجاه كابينة شرطة الجوازات الكويتية فوجئنا بها تتحجج بهبوطنا في قاعدة علي السالم وعدم حصولنا على تأشيرة لدخول الكويت، معتبرة ذلك مخالفة منا لا يمكن لحكومتها التغاضي عنها، ولذلك منعت سفرنا على متن الطائرة التي كانت سينترون قد حجزت لنا عليها، وكانت حجة الكويتيين بأن الاتفاقية مع الولايات المتحدة تسمح للرعايا الأمريكان فقط بالعبور عبر المنافذ الحدودية من دون تأشير جوازات سفرهم اعتمادا على بطاقة الهوية، وهذا ما تدحضه الوقائع التي شاهدناها بأعيننا عندما عبر المئات من الآسيويين أو من دول أمريكا اللاتينية الذين جاءوا بالطائرة التي وصلنا عليها، أو بطائرات قبلنا وبعدنا والذين لم يعترض طريقهم أحد، ولكن مشيخة الكويت أرادت أن تُوصل لنا رسالة بأنها تستطيع التمرد على الأوامر والإملاءات الأمريكية، ولكن ليس مع أمريكي أو من يتعاون معهم، وإنما مع من يناهضهم وهذا أسوأ أنواع النفاق، نعم إن الآلاف من أفراد القوات الأمريكية والعاملين معها وفي خدمتها من عمال خدمات من مختلف الجنسيات يدخلون ويخرجون من أجواء الكويت ومنافذها البرية من دون عراقيل، كان هدف الكويت تدمير العراق بواسطة قوى دولية بعد أن عجزت أن تصل إلى أي من أهدافها عبر دبلوماسيتها النشطة، كانت تفعل ذلك علّها تشعر بشيء من الطمأنينة وقليل من الاسترخاء المؤقت.
ولكن الكويت التي ضاق صدرها بثلاثة عراقيين تنفسوا جزء من هوائها أو شربوا قليلا من مائها وهي لا تدري بذلك، وهما على كل حال لا ماؤها ولا هواؤها أرادت أن تنتفخ أمامهم لتبدو أكبر من حجمها، وربما لو لم تكن معنا مرافقة أمريكية مسؤولة عن سلامتنا حتى تأمين عودتنا إلى العراق، لكان يمكن أن نستهدف من القوات التي تنتمي إليها أي القوات الأمريكية أو من قبل الشرطة الكويتية، فقد كنا سنتعرض لتغييب من قبل سلطة تحمل عقدة الدولة وموروثا ثأريا لازمها كمرض البرص لا تستطيع الشفاء منه حتى عند أمهر الجراحين ولا في كل مياه الأرض.
لم يكن من شأننا أن نتدخل في الأمر فهناك السفارة الأمريكية وهناك معنا على الطائرة مرافقتنا السرجنت سينترون والتي أجرت اتصالات مكثفة وواسعة النطاق حتى وصلت القضية إلى مكتب قائد القيادة الأمريكية الوسطى، الذي اعتبر التصرف الأمريكي في بغداد خطأ يجب تحمّل تبعاته، ولكنه وعد بالتحرك من أجل حل هذه القضية.
على أمل أن تستكمل الإجراءات الأصولية في اليوم التالي تم سحب حقائبنا من الطائرة التي انتظرتنا بعض الوقت وحصل اتصال مع وزير داخلية الكويت من أجل حل الإشكال الذي لم نكن طرفا فيه ولا نرغب بوقوعه، ولأن الأمر لا يرتبط بالسرجنت سينترون فقد كان متاحا لها المغادرة على الطائرة، ولكنها آثرت إرجاء سفرها أيضا لحين التأكد من أننا سنغادر إلى الولايات المتحدة من دون متاعب جديدة.
غادرنا المطار باتجاه المدينة للمبيت فيها ليلة واحدة وأخيرا استقر بنا المقام في فندق النخيل وهو اسم لا ينطبق على هذه البقعة الصحراوية على كل حال، ولكنه من الفنادق المشيّدة حديثا على ما يبدو، ولم نبارح الفندق من ليلة دخولنا إليه إلى وقت مغادرته مع اقتراب موعد السفر في اليوم التالي لآن جوازات سفرنا محجوزة عن سينترون، ونحن في أرض تتصيد لنا الأخطاء وتنتظر ارتكابنا أي فعل تعتبره خطأ لكي تتخذ ضدنا إجراءاتها البوليسية، وتوجهنا مرة أخرى إلى المطار عبر شوارع مدينة الكويت ولا نعرف فيما إذا كانت رحلتنا ستتم بيسر أو تبرز مشكلة جديدة.
في العاشرة ليلا كنا في المطار وأخضعنا حقائبنا للوزن والتفتيش الالكتروني مرة أخرى، ومررنا هذه المرة عبر حواجز شرطة الجوازات من دون أية عراقيل، ودخلنا في جوف طائرة البوينغ 767 التابعة للخطوط الجوية الهولندية والتي أقلعت في موعدها المحدد، الطائرة من نوع حديث وسمعة الخطوط الجوية الملكية الهولندية طيبة جدا في عالم الطيران المدني، وكانت الشركة على حد معلوماتي القديمة التي تعود لعقد السبعينيات، تمتلك أفضل مطبخ بين الخطوط الجوية العالمية وكان الكثير من شركات النقل الجوي تستفيد من خدماته لتجهيز طائراتها بالوجبات الغذائية للمسافرين على متن طائراتها، ولكن يبدو أن الزمن أكل من خبرتها وجودة خدماتها، بل يبدو أن شركات الطيران في مختلف دول العالم قد خفضت من سقف خدماتها لركابها بحثا عن الربح والإثراء السريع، وعلى كل حال نحن في سفر ولا نبحث عن رفاهية عابرة، وخاصة بعد طائرة النقل العسكرية من بغداد إلى الكويت، استمر طيراننا المباشر بين الكويت وأمستردام ست ساعات كاملة.
وجدنا مطار العاصمة الاقتصادية لهولندا مدينة قائمة بذاتها، يتم التنقل بن محطاته الرئيسة بواسطة قطار مجاني خاص بالمطار، ولما كان أمامنا ست ساعات أخرى حتى يحين موعد إقلاع الطائرة التي تذهب بنا إلى مدينة أطلنطا الأمريكية، فقد تجولنا في أنحاء المطار من دون قلق من اقتراب موعد إقلاع الطائرة، وفي حوالي الحادية عشرة من صباح اليوم التالي أقلعت بنا الطائرة الهولندية وهي من نوع بوينغ 767 أيضا باتجاه العالم الجديد، بعد أن غادرت البر الأوربي أخذت تتجه شمالا نحو جزيرة غرينلاند والتي كانت تظهر من نوافذ الجزء الأيمن من بدن الطائرة، فرق التوقيت بين بغداد وأمستردام ساعتان وبين أمستردام والشاطئ الشرقي للولايات المتحدة خمس ساعات، وبعد رحلة كنا معلقين خلالها بين السماء والأرض ولا نرى أيا منهما بدأت الطائرة تستعد للهبوط في مطار أطلنطا، وكان مطارا شديد الازدحام هبوطا وإقلاعا، وأخيرا وعند الثانية عشرة بالتوقيت المحلي استقرت الطائرة على أرض المطار عند أحد الخراطيم، وبعد انتظار قصير في مطار أطلنطا الذي لم نر منه شيئا، أخذنا طائرة أخرى متجهين إلى مدينة هيوستن في ولاية تكساس، ومن مطار هيوستن أخذنا طائرة أخرى إلى مدينة أوستن في الولاية نفسها وبعد رحلة استمرت حوالي 24 ساعة وجدنا أنفسنا يوم الاثنين 25 تشرين الأول/أكتوبر 2004 والمصادف للثاني عشر من رمضان المبارك 1425هـ في أخر مطار نهبط فيه، ولنواصل رحلتنا برا إلى قاعدة فورت هود العسكرية الكبرى حيث المحكمة العسكرية المكلفة بالنظر في قضية قتل الشهيد زيدون، وفي المطار وجدنا مترجماً أمريكياً يعمل في الجيش الأمريكي، وهو من أصل لبناني اسمه إبراهيم حسين، وسبق له أن خدم في العراق مع الفرقة الأمريكية في محافظة صلاح الدين، وقد رحب بنا وتحركت فيه التقاليد العربية في إكرام الضيف وبذل جهدا كبيرا من أجل إثبات أنه يعاني من انفصام في الشخصية كونه عربي الأصل ويخدم في جيش كل حروبه الحالية ضد أبناء جلدته، وقال إنه يتمنى أن يسير الزمان أسرع مما يفعل كي يحصل على مستحقاته التقاعدية ويستريح من حرب الأعصاب التي يعيشها، هذا ما كرره أكثر من مرة، هو يسكن في القاعدة ويبدو أن ظروفه المادية كانت جيدة جدا فقد ساق لنا أحاديث عن هوايته لامتلاك الخيول العربية وامتلاكه بعض منها وربما تبادر إلى ذهني أنه استولى على بعض مما وجده في (عراق الفرهود) وضياع مؤسسات الدولة وتعرض الممتلكات العامة للنهب على أيدي الرعاع واللصوص، كما أعلمنا بأنه جلب عبر طائرات النقل العسكرية عند عودته من إجازاته الدورية أعدادا كبيرة من فسائل نخيل البرحي وهو النوع الممتاز من أجود أنواع التمور العراقية، وذكر لنا أنه باع الفسيلة الواحدة بألف دولار، هل يمكن أن يكون الرقم صحيحاً؟ وإذا كان كذلك فهل تحولت مهمة الجيش الأمريكي في العراق إلى تجارة رائجة من تهريب كل ما يمكن تهريبه، يا لها من تجارة رائجة ربما وجدت فيها الجهات الزراعية في الولاية مكسبا لنقل المزيد من نخيل العراق وزراعته في ولاية تكساس التي يشبه مناخها مناخ العراق.
بعد أن استكملنا سحب الحقائب وتوجهنا إلى السيارة العسكرية، أبلغنا إبراهيم حسين أن موعد جلسة المحكمة كان يوم أمس وبسبب عدم حضوركم في الوقت المحدد تم تأجيل الجلسة إلى موعد يتم تبليغكم بوقته لاحقا وقال إنه يعرف تفاصيل ما جرى في الكويت وأدى إلى تأخركم أربعاً وعشرين ساعة وتم إبلاغ هيئة المحكمة بذلك.
أقمنا في أحد فنادق قاعدة فورت هود والمخصص للضباط من غير المقيمين فيها عادة والذين يضطرون للمكوث لمدة محدودة إما لزيارات التفتيش أو الاستدعاء أو الإجازة أو العبور بين محطتين، كان الإعياء قد أخذ منا كل رصيدنا من المطاولة لذلك أمضينا بقية اليوم حتى المساء في غرفنا وقد أقام لنا السيد إبراهيم حسين مأدبة عشاء كريمة في مطعم لبناني قريب من القاعدة، وحضر معنا السيد مروان عبد الرحمن وهو مترجم مصري مقيم في نيويورك ويمتلك مكتبا للاستشارات والترجمة القانونية، وقد انتدبته المحكمة للمشاركة في الترجمة القانونية أثناء سير المرافعة، وقد أخبرنا السيد إبراهيم حسين أن مروان عبد الرحمن تقاضى مقابل العقد مع المحكمة عشرة آلاف دولار مع تذكرة السفر على الدرجة الأولى من نيويورك إلى أوستن ذهابا وإيابا والإقامة في فندق خمس نجوم مع سيارة تحت تصرفه طيلة المدة التي تستغرقها مهمته، وفي اليوم التالي جاءنا السيد إبراهيم حسين وذهبنا إلى أحد مطاعم القاعدة واشترينا منه ما نحتاج إليه من أطعمة لبقية اليوم.
في يوم الأربعاء 27 تشرين الأول 2004 عقدت جلسة استماع في المحكمة وقد استدعي مروان ومأمون تباعا ووجه لهما القاضي أسئلة حول الجريمة، وحاول أن يذهب بهما بعيدا إلى القناعات السياسية والفكرية، ورأيهما في مواجهة قوات الاحتلال الأمريكي من جانب العراقيين.
حاول القاضي أن يتسلل بين العبارات التي تحدث بها مروان عن تفاصيل الجريمة ووجد أن أقواله هي هي لم تتغير منذ أول استدعاء له أمام لجنة التحقيق العسكرية في كولورادو خلال الجلسة التحقيقية التي عقدت في مطار صدام حسين، أو اللجان التحقيقية التي سبقت ذلك، فالواقعة حصلت بالصورة التي تحدث عنها مروان منذ اليوم الأول، لأنها حصلت له ونجا من الموت بأعجوبة، قال له القاضي لم نجوت ومات ابن عمك؟ أجابه مروان بكلمات بسيطة، أنا مسلم ومؤمن بما جاء في القران الكريم “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”، وسأله عن تفاصيل أخرى حصلت معه ومع زيدون منذ أول لحظة لوصولهما إلى سيطرة سد الثرثار، فأعاد عليه سرد القصة كما حصلت، حاول أن يستدرجه إلى قول كلمة قد تشكل دليلا للإدانة عن علاقته وعلاقة زيدون مع المقاومة المسلحة، أجابه “أنا أؤيد المقاومة لأنه حق مشروع لشعب كل بلد تم احتلاله”.
أما مأمون فقد عرض تفاصيل المحنة التي سببتها القوات الأمريكية له شخصيا ولكل أفراد الأسرة وأقارب زيدون، سأله القاضي كم تتوقع أن نعوضك عن خسارة ابنك؟ أجابه بشكل قاطع “ما جئنا لنطلب تعويضا لأن أموال أمريكا كلها لن تعوض خسارتنا، ولكنني كنت أرى مسار المحاكمات في أمريكا عبر الأفلام التي تنتجها هوليود، فأردت أن أعرف حقيقة العدالة في بلادكم على الأرض وليس بالأفلام، أريد أن ينزل القصاص العادل بالقتلة جميعا أريد أن أرى قتلة ابني يدفعون الثمن، لأنهم على ما يبدو ارتكبوا جرائم غير الجريمة التي لحقت بابني، من أمر بالقتل ومن نفذ الجريمة”، لم يجد القاضي ثغرة يتسلل منها ويعثر على خطأ بسيط في سرد الحكاية من قبل مروان ولا في حديث مأمون عن فجيعته في ولده البكر.
في المساء جاء إلى الفندق المحامي النقيب شيفرز ومعه النقيب المحامية التي لم أعد أذكر اسمها، وطلبا من مروان الاستعداد لمقابلة معهما، حين سألنا عن سبب اللقاء في الفندق قال إبراهيم إنهما يريدان التوثق عن بعض المعلومات التي وردت بإفادة مروان ومأمون، وقد أبلغني المحامون الأربعة نقلا عن هيئة المحكمة أنها لا تسمح لمحامٍ غير عسكري أمريكي أن يترافع أمامها ضد متهم عسكري أمريكي، بل أنها لا تقبل محامياً مدنياً حتى ولو كان أمريكياً ليفعل ذلك، هذا هو القانون العسكري الأمريكي والقانون هو الذي يأخذ طريقه للتنفيذ بصرف النظر عن رأينا فيه، مساءً دعانا إبراهيم حسين على طعام العشاء في مطعم إيطالي قريب وبعد تناول طعام العشاء وحينما كان مقر قيادة المعسكر خاليا من ضباطه أخذنا إبراهيم إلى مقر قيادة القوات التي عملت في العراق خلال وجوده مع القائد في محافظة صلاح الدين وأطلعنا على صوره مع القائد الأمريكي وبعض من أسماهم بوجهاء المحافظة، ويبدو أن ذلك من بين الأسباب التي دفعت الجهات العسكرية الأمريكي إلى منعه من مرافقتنا في زيارتنا الثانية للمنطقة.
لم يطل بنا المقام في فورت هود ففي يوم الجمعة 29 تشرين الأول أراد إبراهيم حسين أن يودعنا فأقام لنا دعوة عشاء في مطعم لبناني في مدينة كلين المجاورة، ويبدو أن تكاليف اقامتنا كانت على نفقة الجانب الأمريكي، وأبلغنا إبراهيم بأننا سنغادر إلى العراق يوم غد 30 /10 وتمنى علينا أن نجلب له تمرا عراقيا خلال زيارتنا المقبلة ووعدناه بذلك بود وشعور بالامتنان لجهوده معنا، وفي تمام الساعة الثانية ظهرا بالتوقيت المحلي غادرنا مطار أوستن متوجهين إلى مطار “مينا بولس” في ولاية ميسوري، ومما لاحظته على حركة النقل داخل المدن الأمريكية القريبة على بعضها، أن جميع الطائرات المستخدمة كانت طائرة متوسطة الحجم وليست نفاثة، وانتقلنا إلى طائرة الخطوط الجوية الهولندية الملكية KLM المتجهة إلى أمستردام، وأقلعت بنا الطائرة في الوقت المحدد، وبعد طيران استمر ست ساعات هبطت بنا الطائرة في مطار أمستردام ومنه غادرنا إلى الكويت على متن طائرة أخرى ووصلناها يوم 31 /10 وانتقلنا إلى قاعدة علي السالم الجوية حيث بتنا فيها ليلةً واحدة، وهذه القاعدة كنا قد حللنا فيها في طريق المغادرة إلى الولايات المتحدة.
عصر اليوم التالي أي يوم الاثنين 1/ 11 /2004 غادرنا القاعدة الجوية الأمريكية في الكويت على طائرة C 130 إلى بغداد وعند اقترابها من المطار لم تكن الطائرة قد بدأت بالهبوط التدريجي كما هو معتاد حتى وصلنا محيط بغداد حيث بدأت بالهبوط اللولبي كما أقلعت قبل أسبوع، ولم تتمكن القوات الأمريكية البرية “والحمد لله” من تأمين إقلاع وهبوط آمنين لطائراتها المغادرة والعائدة إلى بغداد من استهداف المقاومة الباسلة، ويبدو هذا النوع من الإقلاع والهبوط مثير للقلق وتوتر أعصاب الطيارين والركاب، فالهواجس تتكرر وبدرجة أكبر من حوادث العجلات الأمريكية في شوارع بغداد فيما لو وقعت وخاصة على طريق المطار، فالبحث عن الجثث في حوادث سقوط الطائرات ومن ثم تشخيص الجثث بواسطة الحمض النووي، يعد في مثل ظروف العراق الأمنية غاية في التعقيد والصعوبة أو الاستحالة، على العموم هبطت الطائرة وهي ذات أربعة محركات مروحية على مدرج المطار وحمدنا الله على السلامة والعودة إلى أرض الوطن، أوصلتنا سيارة رباعية الدفع إلى السيطرة الخارجية للمطار وكنت قد اتصلت بمن يأتي إلينا لأخذنا إلى المنزل.