ولكن كل شيء تغير تماما وانقلب رأسا على عقب بعد احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وتسليمّها العراق هدية مجانية لإيران استكمالا للتلاقي بين مشروع تمزيق الوطن العربي الذي وضعه الغرب منذ الحروب الصليبية، والمشروع الإمبراطوري الفارسي الذي يحمل موروثا من الكراهية للعرب منذ إسقاط فارس الساسانية في معركة القادسية (13 شعبان 15 هـ (16-19 نوفمبر/تشرين الثاني 636).
واستطاعت (فارس) أي إيران وخلال عدة مئات من السنين أن تُلبسَ الحقد على العرب طابعا دينيا مقدّسا من خلال وضع الأحاديث المنسوبة للأئمة الاثني عشر والتي أصبحت متداولة أمام الجميع من خلال مواقع التواصل الاجتماعي من خلال معممين لا يتورعون عن الكذب على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى علي بن أبي طالب والحسين وابنه علي السجاد أو محمد الباقر أو جعفر الصادق، بحيث جعل أولئك المعممون من كراهية أصحاب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأزواجه المطهرات من الأرجاس والمجاهرة بلعنهم، عبادة وتقرّباً إلى الله ورسوله.
ومع تأشير ظاهرة تفاقم الضغط النفسي والجسدي والمادي والسياسي التي اعتمدتها إيران على السنّة في العراق بعد 2003 وفي سوريا بعد 2011 ثم اليمن بعد ذلك، يمكن أن نسجل بالمقابل نزقاً وطيشاً وتصرفات منفعلة من جانب رجال الدين الشيعة وبعضٍ ممن يسمون أنفسهم رجال إعلام على حالة واحدة تم تداولها بعد وفاة اللاعب الدولي أحمد راضي رحمه الله، وذلك عندما انبرى عشرات الأشخاص ومواقع التواصل الاجتماعي لشن هجمات ظالمة عليه، وذلك باتهامه بالانتقال المذهبي من (أتباع آل البيت) إلى التسنن، وكأنه ارتكب بذلك جريمة منكرة، وهذا ما جعله هدفا لسهام مسمومة بسبب ذلك، لهذا من حقنا أن نسأل لماذا تُنكرون على الآخرين الحق في الاختيار الطوعي لمذهب مغاير لكم في حين أنكم تريدون فرضَ مذهبكم على الآخرين بالقوة والتمييز في المعاملة وليس بالاقناع الطوعي وعبر المنطق والحوار المتكافئ، أذكر بهذا الصدد أن أحد أبناء علماء السنة في كردستان إيران قد أعلن تحوله نحو التشيّع في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، فتحول الأمر إلى تظاهرة سياسية يسوّق لها الإعلام الإيراني ليل نهار خاصة بعد أن تحدّث هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني وممثل خميني في مجلس الدفاع الأعلى عن ذلك الحدث في خطبة الجمعة، مما تم تفسيره على أنه محاولة لإغراء من يقتفي خطى ابن المعمم الكردي بأنه سيحظى بالاهتمام الرسمي على أعلى المستويات.
وإذا انتقلنا إلى جهود سلطة الحكم التي جاءت بعد الاحتلال الأمريكي وبتخطيط محكّم منه، فإننا سنضع أيدينا على أكبر حالة تصادم بين الأهداف المعلنة والسلوك السياسي الذي تنفذه قوى كانت تسعى وبمباركة إيرانية إلى التوفيق بين شعارات الموت لأمريكا والعداء المعلن لها، وحالة الانخراط معها في التآمر على العراق في مواجهته للتحالف الغربي المدعوم للأسف الشديد من دول النفط العربي ومصر وسوريا، فالقوى المدعومة من إيران وخاصة ما يسمى (بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) والذي تأسس في إيران بأمر من خميني، وسار على نهج ولاية الفقيه في 17 تشرين الثاني 1982 وإن كان لدوافع انتهازية معروفة ومن باب التقيّة قد أعلن عن تخلّيه عن مبدأ ولاية الفقيه والتحول نحو مرجع جديد هو علي السيستاني، صار القوة الميدانية التي تحركها إيران ضد العراق. حينذاك وضع خميني على رأس المجلس المذكور، إيرانيا هو محمود هاشمي شاهرودي رئيس مجلس القضاء الأعلى في إيران فيما بعد، والذي تم استبداله بعد سنة واحدة بمحمد باقر الحكيم نجل المرجع الشيعي محسن الحكيم، ولتلتحق به مجاميع من الأسرى العراقيين الخونة أو المسّفرين من الإيرانيين الذين كانوا مقيمين في العراق، مع من فرّ من عناصر حزب الدعوة والحركات الشيعية التي كانت قد تشكلّت في عهد الشاه لتكون أداة بيده يحركها كيفما يشاء في نزاعه الطويل مع العراق، أو من هرب من الخدمة العسكرية إلى جانب العدو في زمن الحرب كان ذراعه العسكري فيلق بدر اول مليشيا موالية لإيران تدخل العراق بعلم من قوات الغزو الأمريكي وتنسيق معها.
إن تسليم الحكم من جانب الحاكم الأمريكي المطلق بول بريمر إلى الحركات والمليشيات الشيعية الموالية لإيران حتى بالتفاصيل الصغيرة، لم يكن ضربا من العبث السياسي الأمريكي، بل كان ذلك عن سبق معرفة بأن هناك اشكاليات متعددة تعيشها حركات التشيٍّع السياسي الماسكة بمفاصل السلطة في العراق منذ عام 2003 وحتى اليوم، فمعظمها تدين بالولاء الكامل للولي الفقيه وبعضها لا يخفي ذلك، حتى أن بعض قادة المليشيات الولائية أكدوا أنهم سيقاتلون إلى صف إيران في حال نشوب حرب بينها وبين العراق، وهناك أقلية منها تزعم أنها لا تؤمن بولاية الفقيه بل تقلّد علي السيستاني وهذه إحدى الإشكاليات التي ما تزال عنوانا لحرب محتملة بين الولاءات المتعددة، لأن هذه المليشيات لا تقبل بنصف ولاء بأي حال، فمن لا يعلن انصهاره أو ذوبانه في الولي الفقيه لا مكان له في السلطة إذ لا مغانم من دون تضحيات.
هذه ليست الاشكالية الوحيدة فقط بل هناك اشكالية أخرى، وهي أن المسؤول الشيعي المؤدلج، لا يستطيع البت بقرار ما، ما لم يرجع إلى مرجعه الذي يعيش خارج الحدود لأخذ المباركة والموافقة على أية خطوة يريد الاقدام عليها، مع كل ما يمثله ذلك من عرقلة وتأخير في تصريف شؤون الدولة عندما تُصادر من جهات لا تعي ولا تريد أن تفهم القوانين التي تسيّر شؤون الدولة واحتياجاتها.
لهذا قررت الولايات المتحدة تسليم العراق لإيران الولي الفقيه مع إرادة في أن يبقى العراق كما رسمت هي صورته، لمنعه من النهوض السياسي والاقتصادي والأمني، لأنها تعتقد بأن نشر التشيّع الفارسي الولاء على المستوى الرسمي في أوساط السلطة الحاكمة سيقود البلد إلى الفساد السياسي والمالي وحافة الانهيار الاقتصادي كما هو حاصل اليوم.
العمل المنسق الوحيد الذي عرفه العراق طيلة السنوات التي أعقبت الاحتلال هو السطو على المال العام واثراء المسؤولين من الذين اكتنزوا مليارات الدولارات من ثروة العراق الوطنية، ثم يأتي ذلك المخدّر الذي يراد به إشغال الناس بقضية مفتعلة وهي نشر التشيّع على مستوى المناطق والمدن السنية، فسوف لن نفاجئ إذا رصدنا أنّ محافظة ديالى ذات الأغلبية السنية الساحقة، احتلت الأولوية الأولى في خطط إحكام السيطرة الإيرانية على المناطق الحدودية بهدف التحكم في شؤونها الأمنية والاقتصادية وتدمير بناها التحتية وربط اقتصادها بعجلة الاقتصاد الإيراني وتحويلها إلى ساحة مستباحة للمليشيات الإيرانية، من أجل الانطلاق منها إلى سائر المحافظات العراقية.
أما محافظة صلاح الدين فقد شهدت ناحية يثرب تهجيرا منظمّا منذ انتهاء العمليات الحربية لطرد تنظيم الدولة (داعش) منها، وما زالت المدينة وأنحاء مختلفة من محافظة صلاح الدين تحت سيطرة عصائب أهل الحق وحزب الله العراقي ومليشيا النجباء وجيش المهدي الذي غيّر اسمه إلى سرايا السلام، ولم يُسمح لسكان المدينة وقراها بالعودة إلى ممتلكاتهم وبيوتهم وبساتينهم العامرة على الرغم من مضي عدة سنوات على ما يسمى بتحريرها من داعش.
ما حصل في يثرب حصل على نطاق أوسع في مدينة جرف الصخر شمالي محافظة بابل، فقد استولى الحرس الثوري الإيراني وبواسطة المليشيات المرتبطة شكلا بالحشد الشعبي وفعلا بالحرس، على المدينة بعد انتزاع بساتينها ومزارعها ودور سكانها ولم يبق واحد منهم فيها، وحولتها مليشيا الحشد إلى قاعدة عسكرية تضم مخازن أعتدة وصواريخ بالستية مع قواعد إطلاقها ويقال إنّ فيها ورشا لتطوير الصواريخ البالستية تدار من قبل الحرس الثوري، وعندما سئل أحد رؤساء الوزارات مرة عن تحديد موعد لعودة سكان جرف الصخر إليها، قال بالحرف الواحد أن القرار بيد إيران، ومن مفارقات ما شهدته هذه المدينة التي تحتوي على سجون سرية، أن وزير الداخلية ذهب مرة لزيارتها فتم منعه من قبل مليشيا الحشد من دخولها لأسباب أمنية.
وكذلك شهدت أجزاء من محافظة الأنبار مثل الفلوجة محاولات لنشر ما يسمى بالرباط المحمدي وهي حركة صوفية تختلق البدع والخرافات، ويمكن أن نلمس الاستفزاز من اسمها، فهي عندما تسمي نفسها بالرباط المحمدي فكأنها تسعى لحجب هذه الصفة عن غيرها من المسلمين، وقد حظيت هذه الحركة بدعم مفتوح من قبل قاسم سليماني ومليشيا الحشد، وكأن الهدف من تأسيسها هو تهيئة الأجواء لدعم حركة التحول المذهبي بعد زرع بذور الفتنة بين سنّة العراق فيذهب الطرف الذي تدعمه إيران ومليشيا الحشد إلى اصطفاف مذهبي وليس سياسيا فقط، أما في مدينة القائم أقصى غربي العراق فقد افتتحت المليشيات مقار ومعسكرات لها، بهدف السيطرة على المعابر الحدودية من أجل ضمان انسياب حركة تهريب السلاح والمخدرات ومختلف البضائع من إيران إلى سوريا ولبنان، أو بهدف ممارسة الضغوط الأمنية والاقتصادية على سكان هذه المدن وتضييق سبل الرزق عليهم والتحرك التدريجي لاستمالة المواطنين نحو التعامل والتعاون معها بالكيفية التي تحددها هي، وهنا يجب التوقف عند خاصية تتمتع فيها محافظة الأنبار وهي أنها تمتلك ثلاثة معابر حدودية رسمية مع غرب العراق واحد مع الأردن وهو معبر طريبيل واثنان مع سوريا الأول من مدينة القائم باتجاه مدينة البو كمال السورية وهذا المعبر تسيطر عليه مليشيا حزب الله وأقامت على طرفي الحدود معسكرات وقواعد لعناصرها من أجل إحكام السيطرة على عمليات النقل الشرعي وغير الشرعي والسطو على المليارات من العوائد الكمركية والثاني معبر التنف وهو المعبر الرئيس لحركة النقل والبضائع مع سوريا وهنا ليس أمامنا إلا أن نستعيد تعليقا لقيس الخزعلي على موضوع الهلال الشيعي بقوله أن الهلال سيصبح بدرا.
وللأنبار معابر مع المملكة العربية السعودية أهمها معبر عرعر، وهو مسيطر عليه بالكامل من جانب المليشيات الإيرانية الولاء.
أما إذا توجهنا نحو الموصل فإن مأساة هذه المدينة العراقية الثانية في أهميتها، فتجسدها مناظر الدمار والخراب الذي ما زال قائما نتيجة المعارك التي نشبت فيها منذ احتلالها من قبل داعش، ثم ما تعرضت لها من قصف جوي ومدفعي من جانب الولايات المتحدة والمليشيات والقوات الحكومية التي استردتها مما أتى على آلاف من الأبنية، وما زالت المليشيات تحكم قبضتها على المدينة وتُطبِقْ عليها عن طريق عصائب أهل الحق وحزب الله وغيرهما من المليشيات الولائية التي تواصل محاولة إذلال السكان والتضييق عليهم في إعادة إعمار مدينتهم سواء كانت الفعاليات للممتلكات الخاصة أو الأبنية العامة مثل المستشفيات والأبنية المدرسية والجسور وغيرها من الأبنية الحكومية، والأخطر من هذا كله أن مليشيا الحشد أسست لنفسها مكاتب للسيطرة الاقتصادية في كل المحافظات لغرض الجباية من المواطنين وانتزاع العقود الحكومية لمقاولين أو شركات مرتبطة بها بعد مضاعفة أقيامها عدة مرات، ويستوي في ذلك ما يسمى بالحشد الشبكي أو حشد تلعفر أو الحشد الكلداني وغيرها من العصابات الإرهابية التي لا واجب لها إلا السطو على الممتلكات ومنع المواطنين من العودة إلى منازلهم وخاصة في الساحل الغربي لمدينة الموصل.
وتشير تقارير مؤكدة من داخل الموصل، أن مليشيا الحشد تفرض حظرا تاما على بيع العقارات وشرائها في سهل نينوى وداخل مدينة الموصل من دون علمها وموافقتها المسبقة، وقد سيطرت تلك المليشيات على دوائر التسجيل العقاري لإحكام القبضة على حركة نقل العقارات في نينوى.
ولمحافظة نينوى معابر رئيسة وغير رئيسة مع تركيا اهمها معبر ابراهيم الخليل، ومع سوريا أهمها معبر ربيعة الخاضع لسيطرة المليشيات أيضا.
لكن مدينة سامراء تبقى الهدف المركزي الأكبر لخطط التغيير السكاني وهذا الهدف كان يراود إيران وما يسمى بالمرجعية منذ مطلع القرن العشرين، عندما حاول الشيرازي نقل المرجعية من النجف إلى سامراء ولكن مساعيه باءت بالفشل نتيجة وقفة أبناء سامراء بوجه كل المحاولات التي تفنن بها، ولكن الشيرازي أقام مدرسة تحمل اسمه فيها وبعد قرن من الزمن تم بناء المدرسة ببناء فخم جدا.
ومنذ ذلك الوقت كانت سامراء هدفا لخطط رجال الدين الفرس في تغيير تركيبة المدينة السكانية عبر كل الوسائل المشروعة مثل الاستيلاء على العقارات المملوكة للسكان الأصليين وبوسائل ضغط تسمى بلغة القانون (عقود الإذعان) وقد برز هنا دور ما يسمى بالعتبة في السطو على الممتلكات والأراضي وصبّها في إطار قانوني زائف، فقد تعمدت الجهات المتواطئة معها على خفض لافت لأسعار العقارات المبنية والأراضي في المدينة على نحو لافت للنظر، ثم انتقلت إلى الخطوة التالية وهي غلق وسط المدينة بعد تحويلها إلى مستوطنة “اقتداء بما تقوم به إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة” وإرغام مالكي العقارات فيها على الخروج منها بعد أن تحولت إلى منطقة أمنية بامتياز تحصى حركات وسكنات من احتفظ ببيته فيها، وتم إسكان المستوطنين الغرباء فيها، أما في محيط الضريح فقد منعت العتبة عبر جيش المهدي مالكيها من الانتفاع بها منذ عام 2007 وبقيت مهجورة لا يسمح لمالكيها بالوصول إليها، وبدأت العتبة بالتوسع في شراء الأراضي بتواطؤ مع بعض ضعاف النفوس والمنافقين من أبناء المدينة، خارج مدينة سامراء من أجل إقامة مجمعات سكنية يتم استجلاب مستوطنين فرس وأفغان وباكستانيين واسكانهم فيها كما حصل في كربلاء وغيرها، لتطويق سامراء من أكثر من جهة، مما يجعل خطوة العتبة المدعومة بسلطة طائفية مقيتة ومليشيا مسلحة عميلة لإيران جريمة ضد الإنسانية، كما أن التضييق على أهل مدينة سامراء أمنيا وتحويلها إلى كانتونات مقطوعة عن بعضها لا يمكن اجتيازها إلا من خلال سيطرات أمنية تابعة لما تسمى بسرايا السلام (جيش المهدي)، ومضايقة الناس في أرزاقهم والتعمد الحكومي في عدم تنفيذ أي مشروع عمراني أو خدمي ومحاربة الناس في الخدمات الصحية العلاجية والوقائية، والتقنين الجائر لخدمة الكهرباء بالتواطؤ مع بعض العناصر الوصولية والانتهازية من أبناء المدينة، يعتبر جريمة متكاملة الاركان حسب القوانين الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إن ما يقوم به الحشد من جرائم وممارسات لا أخلاقية تتحمله مرجعية السيستاني التي استخدمت واجهة لإصدار فتوى الجهاد الكفائي، على الرغم من أن حقيقة الأمر أن جميع المراجع الإيرانية أو المقيمة في النجف، تتحمل أخلاقيا ودينيا ما يتعرض له العراقيون من ظلم وقهر وحيف، سواء بدعمهم الصامت أو بالدعم المعلن في اللقاء المحصورة بينهم أو بالموافقة الضمنية على كل ما يحصل.
740