1 – عبد الوهاب البياتي في الرباط
باشرت عملي في سفارة العراق في ربيع عام 1977 كمستشار صحفي في المملكة المغربية، كان وزير الثقافة والإعلام حينذاك المرحوم طارق عزيز، وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1977 أصبح السيد سعد قاسم حمودي رحمه الله وزيرا للثقافة والإعلام.
منذ بداية وصولي إلى العاصمة المغربية الرباط وضعت نصب عيني النجاح في عملي كمستشار صحفي بالدرجة الأولى، وهي وظيفة سياسية، من دون أن أغفل عن مهمة أخرى ربما تكون أداة أكثر فاعلية في المغرب من سواها، وضعتها نصب عيني وهي فتح مركز ثقافي عراقي في الرباط وذلك للبيئة الثقافية العالية الرصانة في المغرب، ومن أجل تنشيط التواصل الثقافي والحضاري بين جناحي الوطن العربي الشرقي (العراق) والغربي (المملكة المغربية)، لما فاتحت ديوان الوزارة وجدت استجابة من مدير عام دائرة العلاقات الخارجية في الوزارة السيد حسن طوالبة الذي كان متفاعلا مع أي مقترح بنّاء يصله من الدوائر الصحفية العراقية، وعندما وصله مقترحي طلب مني إعداد دراسة كاملة عن الجدوى الثقافية والإعلامية والكلف المالية لتقديمها للوزير من أجل استحصال الموافقة عليها.
وفي اتصال هاتفي مع السيد طوالبة ذكّرته بتجربة المركز الثقافي العراقي في لندن الذي تحوَل بفعل الدور الرائع الذي أداه مديره السيد ناجي صبري الحديثي، واعتبرته مثالا يصلح للتكرار في حال توفر الكفاءة في الإدارة والدعم من المركز، وافقني على ذلك.
كانت أول خطوة هي تحديد الموقع الذي يجب أن يكون قريبا من الوسط الجامعي الذي أراه المادة الرئيسة للتلاقح الثقافي، وبعد اختيار الموقع وتحديد مبلغ الايجار، ننطلق إلى الخطوة الثانية وهي تحديد نوعية العدد والآلات التي نحتاجها مثل أجهزة السينما والأجهزة الصوتية، والتأثيث.
بفضل الله وبدعم مفتوح من الوزير المرحوم سعد قاسم حمودي وتشجيع منه، باشرنا العمل الدؤوب، كنت لوحدي في الدائرة الصحفية مع سكرتيرتين محليتين فقط، ولهذا وجدت ذراعي اليمنى في الأخ العزيز وليد عمر العلي مراسل وكالة الأنباء العراقية خير عَوْنٍ لي في تذليل الصعوبات التي واجهتني في بداية الطريق، وبعد تحويل المال المقترح من بغداد لغرض شراء المعدات والأجهزة اللازمة، تم تشكيل لجنة مشتريات تضم في صفها محاسب السفارة باعتباره جهة الصرف المالي وكاتب السطور (المستشار الصحفي) والسيد وليد عمر العلي، وبعد استحصال الموافقات الأصولية من وزارة الخارجية المغربية لاستيراد المعدات، غادرت اللجنة إلى مدينة سبتة المغربية التي تحتلها إسبانيا وهي منطقة حرة معفاة من الرسوم، ثم إلى مدينة جبل طارق الإسبانية التي تحتلها بريطانيا، وبالفعل تم تجهيز كل شيء خلال فترة وجيزة وبأسعار تنافسية لأن المدينتين من المناطق الحرة التي لا تفرض سلطاتها رسوما جمركية على الأجهزة الكهربائية خاصة.
وتم جلب كل المشتريات إلى العاصمة المغربية، وباشرنا بإعداد المركز للافتتاح الرسمي.
وجهنا الدعوة لأعضاء السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي والمراكز الثقافية العاملة في المغرب ووسائل الإعلام المحلية والأجنبية، وكان يوم افتتاح المركز يوما مشهودا حقا، فقد حضر السيد عبد اللطيف العراقي وزير التربية المغربي لافتتاح المركز وألقى كلمة أشاد فيها بالعلاقات الثقافية بين البلدين واعتبر الثقافة أساس راسخ للعلاقات السياسية والاقتصادية بين دول العالم، ثم ألقيتُ كلمة أشدتُ فيها بما حصلنا عليه من دعم من السلطات المغربية والتسهيلات المطلوبة، وشكرتُ الوزير على تفضله بافتتاح المركز، كما شكرتُ الدبلوماسيين الذين حضروا هذه الفعالية.
وبعد يوم الافتتاح بدأتْ مسيرةُ العمل والتخطيط للبرامج القريبة والبعيدة المدى، وتنوعت فعاليات المركز لتتراوح بين معارض الكتب والأمسيات الأدبية لشعراء عراقيين من مختلف المدارس الشعرية، وفرق فنية من مختلف الاختصاصات.
كانت أول فعالية دشن فيها المركز موسمه الثقافي للشاعر عبد الوهاب البياتي، وبعد اتصالات مع وزارة الثقافة المغربية وعدنا السيد محمد أبا حنيني وزير الدولة للشؤون الثقافية بأنه سيحضر بنفسه الأمسية وسيلقي فيها كلمة ترحيبية بالشاعر البياتي لما له من مكانة مرموقة في الأوساط الثقافية في المغرب.
للشاعر البياتي حضور متميز في المغرب ذلك أن دواوينه سبقته إلى هناك منذ زمن طويل، كما أن كتّابا إسبان كتبوا عنه وحصل بعضهم على درجات علمية عن رسائل جامعية قدّموها عن الشاعر ومكانته الشعرية إلى بعض الجامعات الاسبانية ونالوا فيها الماجستير أو الدكتوراه، ثم انتقلت كتاباتهم إلى المغرب.
حجزنا مسرح محمد الخامس الذي يسع لخمسة آلاف مقعد، وشعرت بتحدٍ كبير ذلك أن مسرحا بهذه السعة ليس ميسورا أن تُملأ كراسيه في أية فعالية كانت وخاصة إذا كانت البداية فالبدايات عادة ما ترسم معالم الطريق.
وحانت ساعة الاختبار، وإذا بالقاعة تمتلئ بالحضور عن آخرها ووقف عدد كبير من الشباب الذين جاءوا لسماع محاضرة البياتي مع قصائد مختارة له، في بداية الأمسية ألقيتُ كلمة شكرتُ فيها السيد الوزير على رعايته لها وقلتُ اليوم تقدّمُ لكم بغداد الحضارة والثقافة العربية، رسولها الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي لينقلكم إلى عالم السحر والجمال والألم عالم ألف ليلة وليلة، ثم تحدث الوزيرُ المغربي السيد أبا حنيني واعتبر وجود عبد الوهاب البياتي في الرباط علامةً إيجابيةً على أن التواصل بين أبناء الأمة العربية وإحياءً لتواصل بين طرفي الوطن العربي وربطا محكما بينهما، ونقطة تحول مهم في علاقات جناحي الوطن العربي.
ثم بدأ البياتي بعرض تجربته الشعرية ودوره الريادي في عالم الشعر الحر، وانتشاره في الوطن العربي، والمنابع التي استقى منها تجربته، ثم استعرض بعضا من قصائده الشعرية التي كتبها في مراحل مختلفة.
بعد ساعة من حديث متشعب للبياتي وشعره بدأ حوار تخلله في بعض الأحيان جدل ساخن واختلاف في وجهات النظر بين الحضور والشاعر، وخاصة بشأن الريادة في الشعر الحر، وكان البياتي في أجوبته مصرّا على أنه أولُ من دشن عصر الشعر الحر في العراق والوطن العربي وأن الآخرين قلّدوه واقتفوا خطواته، ولأن مثقفي المغرب نخبة عالية الوعي الفكري والثقافي، فقد كانت مهمة البياتي في إقناعهم غاية في الصعوبة إن لم تكن مستحيلة، مما أدى ردود فعل انعكست على تغطية الصفحات الثقافية في الصحف المغربية في اليوم الثاني، ذهب بعضها للقول إن البياتي حاول السطو على تجربة بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ومصادرة دورهما السابق لسواهما، ولمكانتهما في هذا المضمار، على العموم لو أجرينا جردة لحساب الربح والخسارة فسوف نخرج بنتيجة أن البياتي لم يخرج بكسب كبير، وإن كانت خسارته محدودة، ولكنه فقد بعضا من صورته السابقة لدى كثيرين من معجبيه المثقفين ثقافة عالية المستوى في الساحة المغربية.
وإلى حلقة جديدة من (أيام ثقافية عراقية في المغرب).

748
تعليق واحد