أصبحت مدينة الناصرية بالنسبة للعراقيين عاصمة الثورة، ودولتها التي تتجه لها أنظار بقية المدن العراقية، ويتطلع الثوار بفخر نحو إصرار أبنائها والتحدّي الذي فيهم، ولم يتزعزع، مستمدّين منهما عزما جديدا ومتجدّدا في إكمال مشوار ثورتهم، فقد استجابت عدة مدن عراقية لاستئناف التظاهرات بعد تظاهرات الناصرية، مثل بغداد والمثنى والسماوة والنجف وكربلاء والبصرة وديالى التي هتفت: “كلنه عند عيناج يا الناصرية”، وخرجت أحياء من بغداد تهتف: “فوتي بزودج يا ذي قار أحنا حزام لضهرج”. وفي ساحة التحرير، خرج آلاف الشباب يهتفون: “الناصرية حلوة وقوية”، ما حدا بالقوات الأمنية والعسكرية للهبوط إلى وسط بغداد، وإغلاق الجسور بشكل تام، تحسبا لموجة كبيرة جديدة من التظاهرات، كالتي حدثت في بدايات ثورة تشرين (2019).
تستحق الناصرية بجدارة أن تكون عاصمة الثورة في العراق وقائدتها، لصمودها الأسطوري أمام ماكنة حكومة الاحتلال المدعومة بكل خبرة الاحتلال الأميركي وحلف شمال الأطلسي الذي قال رئيسه، قبل أيام، إنه موجود خصيصا لتأمين بغداد، أي المنطقة الخضراء وعمليتها السياسية، وأمام أخطبوط المليشيات الولائية رأس حربة الأحزاب والبرلمان، وهي أيضا تستحق أن تكون كذلك، لأن ثوارها يسيرون بخطواتٍ ثابتةٍ، وتضحيات كبيرة، نحو تحقيق مطالبهم في التخلّص من العملية السياسية وحكومة الاحتلال.
تحتل الناصرية المركز الثاني بعد بغداد في أعداد الشهداء، إذ بلغ عدد ما فقدته المدينة أكثر من 155 شابا وعدة مئات من الجرحى، والأرقام في تصاعد هذه الأيام
تحتل الناصرية المركز الثاني بعد بغداد في أعداد الشهداء، إذ بلغ عدد ما فقدته المدينة أكثر من 155 شابا وعدة مئات من الجرحى، والأرقام في تصاعد هذه الأيام، ومعه تتصاعد عزيمة الثوار ورجال عاصمة الثورة الذين يكثّفون المواجهة مع الحكومة المحلية، ومع حكومة المنطقة الخضراء. عاد ثوار الناصرية مجدّدا، بعد فترة احترامهم قوانين الحظر الصحي الخاص بكورونا، إلى التظاهر بأعداد أكبر من أعداد العام الماضي، إذ يخرج غالبية شباب المدينة، منذ عدة أسابيع، مصرّين على إسقاط الحكومة المحلية بمحافظها ونائبه متهمين إياهما بالفساد وعدم الكفاءة. وعلى الرغم من قمع القوات الأمنية والمليشيات والتعزيزات التي أرسلت من العاصمة لمواجهة الثوار وقمع حراكهم وسقوط أعداد كبيرة من الشهداء والجرحى، إلا أنهم تمكّنوا من إجبار المحافظ ونائبه على الاستقالة، وإعطاء الحكومة مهلة 72 ساعة، لتنفيذ مطالبهم، ما اضطرّ رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، لتعيين مدير جهاز الأمن الوطني، عبد الغني الأسدي، بعجالة، محافظا جديدا للمدينة. ولكن التظاهرات الرافضة هذا التعيين لم تنقطع، بل زادت، واتجهت من جديد صوب المحافظة، للتعبير عن غضبها ورفضها تعيين الكاظمي شخصا عسكريا، بينما يريد المواطنون شخصية محلية تتمتع بالكفاءة والوطنية، قريبة من همومهم، لا يمتلكها مدير جهاز الأمن الذي بدا بعيدا وغريبا كليا عن مشكلات المدينة الحقيقية ومعاناة أبنائها، وعن مطالب المتظاهرين الأساسية بخصوص محاسبة قتلة المتظاهرين، وإطلاق سراح المعتقلين منهم، ومطالب كشف فساد المحافظ ونائبه وأعضاء مجلس المحافظة، في اجتماعه مع موظفي المحافظة، وتركز حديثه على تفاصيل غير ذي قيمة لا ترقى أهميتها لما تعيشه الناصرية ومواطنيها من إهمال تام ومتعمد. وقد شكّل المحافظ الجديد لجنة عليا للإسراع في إنجاز معاملات “قتلى التظاهرات” التي لا تريد الحكومة الاعتراف بهم شهداء، وتقوم غالبا بتحريف الوقائع وتزويرها، وإنكار أحداث الاغتيالات، وهو إقرار بعدم احترام مطالب المتظاهرين الذين يريدون كشف القتلة ومحاسبتهم وإحقاق العدالة لعوائلهم وإطلاق سراح الناشطين والمعتقلين. ما دفع المتظاهرين إلى إصدار بيان يندّدون فيه بتعيين عبد الغني الأسدي، معتبرين ذلك حلا ترقيعيا.
هبّت مدن المثنى والديوانية والكوت، وتلتها مدينة الحلة، واتجهت تظاهراتها إلى مباني المحافظات، منددين بالتسويف، ومطالبين بإقالة المحافظين ونوابهم والمفسدين معهم
فجر مشهد الصرامة والإصرار في المواجهة بين ثوار الناصرية (ومتظاهريها) والحكومة المحلية وحكومة الخضراء تظاهرات واسعة في المدينة، دعت العراقيين، في مختلف المحافظات، إلى التعبير عن تعاضدهم ومساندتهم ورفعهم ثوار الناصرية ومدينتهم الى مرتبة عاصمة الثورة، بل تبع تظاهرات الجمعة، المحتجّة على تعيين الأسدي، الواسعة في الناصرية، حراك كبير في المدن الأخرى، تحضيرا لتظاهرات واسعة، رأت في مسيرة ثوار الناصرية الخطوة الأمثل لتحقيق المطالب الشعبية والقيام بالتغيير المنشود. هبّت مدن المثنى والديوانية والكوت، وتلتها مدينة الحلة، واتجهت تظاهراتها إلى مباني المحافظات، منددين بالتسويف، ومطالبين بإقالة المحافظين ونوابهم والمفسدين معهم، وحبست محافظات أخرى أنفاسها مرعوبة من تظاهراتٍ كبيرةٍ للجماهير، تقيلها من مناصبها، كما فعل متظاهرو الناصرية.
تقود الناصرية ثورة تشرين إلى صفحتها التالية للخلاص والتغيير والتحرّر من عملية الاحتلال السياسية البغيضة
بإقالة المحافظ، واستمرار التظاهرات الضخمة في المدينة، ومدن أخرى، يوصل شباب العراق ثورتهم إلى عتبة التغيير المنشودة بطريقة سلمية، مؤكّدين صحة اختيارهم هذا المسار، منذ البداية، ليعبروا بالثورة وبالعراق إلى الأمان. أوصلت الناصرية، عبر شبابها، الثورة إلى باب النصر وإلى باب الخلاص من عملية تدمير العراق وتخريبه، والتي يريد المحتلون بأشكالهم استمرارها سنوات بل قرنا.
تقود الناصرية اليوم ثورة تشرين الشعبية إلى صفحتها التالية للخلاص والتغيير والتحرّر من عملية الاحتلال السياسية البغيضة في المحافظة، وتقود عقول ثوارها جميع العراقيين في كل المدن للوصول إلى الهدف نفسه. التحاق مدن الجنوب بالناصرية هو التحاق بالعزم والقرار الصائب والصحيح والقيادة التي أنتجتها إرادة شباب وشابات المدينة التي عجنت، منذ بداية الثورة، بالشهادة والدم والجراح، صقلتها أيام في ساحة الحبوبي، وصراع على الوجود واللاوجود، في الساحة التي أحرقت يوما فيها الخيام، فعاد أهلها الوطنيون بجديدة غيرها ينصبونها في فجر الصباح التالي. ومن حرق إلى حرق، عزم شبابها على تعميد الثورة والاحتجاج والتغيير، ببناء غرفٍ من الإسمنت، رغما عن القمع والقتل وأدوات الاغتيالات، هذه الإرادات التي أبدعت وسهرت، بكت وأدميت، تكونت فكانت، صلبة، جسورة ومهابة، منها رافع علم العراق في ساحة التحرير في بغداد وهو يتقدم للرصاص، غير عابئ بصلي الطلقات، ومنها أبطال ساحات العراق، صغارا وكبارا، أرواحا وتكوينات نقية نقاء الزلال، مطلقة كما لا يمكن من إطلاق، تفجروا شجاعة وبطولة، غيرة وإباء، عطاء وكرما وفداء. بكم سنحلف حينما تنجزون الثورة، وتسترجعون العراق الذي أقسمتم وضحيتهم بأنفسكم لاسترجاعه