مازالت زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى العراق تحظى
باهتمام الصحافة والمواقع الإيرانية، فقد ركزت
بعضها اهتمامها على موضوع أن إيران والولايات المتحدة تسعيان للسيطرة على
العراق، وتحاول كلّ منهما طرد الطرف الآخر منه، واصفة حركة الدبلوماسية النشطة
لايران من خلال الزيارة الأخيرة لروحاني بالنموذج عن تلك المحاولات الإيرانية، في
مقابل حركة دبلوماسية أميركية غير مسبوقة تجلت من خلال زيارة الرئيس ترامب وعدد
كبير من المسئولين الأميركيين في وقت سابق إلى بغداد معتبرة
أن كلا الطرفين بوسعهما التعاون في القضاء على عدوهما المشترك داعش الذي ما
زال ينشط في العراق وسوريا ، واحتمالية
عودته مجدداً وبقوة ، مشيرا إلى أن هذا التعاون من الممكن أن يكون سبيلا لتحقيق
سلام دائم بين طهران وواشنطن، نازعاً فتيل التوتر .
من المؤكد أن ما تطرحه طهران هو أمر لافت
، لا تحاول فيه فقط نزع فتيل التوتر في العلاقات مع واشنطن ، بل السعي إلى بناء أرضية تستطيع من خلالها وضع الملفات على
الطاولة تباعاً ، لكن ماذا يعني ذلك ؟
ثمة إستراتيجية إيرانية بدأت تلوح في الأفق حول سعي إيران إلى اعادة بعث داعش في عدد محدد من المناطق العراقية والسورية ضمن سياق التطورات المحمومة بين أطراف المواجهة التي باتت تواجه طهران ، موسكو وواشنطن وطهران ، نتيجة تشابك ، وتغير قواعد المواجهة والتنافس الصراع، وتعاظم الخلافات بين حلفاء الأمس ” طهران ، وموسكو” ، وتباعد وجهات النظر ، وحالة عدم الثقة ، بين المتصارعين على امتداد الجغرافيا العراقية و العراق وسوريا وشرعنته ، فلم يعد تحجيم قدرات داعش في صالح الإيرانيين ، ليس فقط لتبرير وجودهم في المنطقة ، بل لمحاولة تحقيق جملة من الأهداف في مقدمتها ، التقارب مع واشنطن ، والانتقام من الروس والتواجد الغربي والأطراف الإقليمية الأخرى المنسجمة مع هذا المشروع بشكل عام ، والطامحة لمحاصرة إيران بعد اعلان واشنطن عزمها فرض وجبة ثالثة من العقوبات على إيران .
الاستراتيجية الإيرانية تتطلب الآن ، إعادة بعث داعش في مناطق محددة ، يتواجد فيها
الأمريكيين والروس وفي تطور لاحق ، هذا سيمهد لانشغال هذه الدول عن مجابهة إيران
من ناحية ، ويدفع الدول العربية المنخرطة في التحالف الأميركي لمواجهة إيران
للتفكير مليًا ، لمحاولة اعادة العراق إلى الحضن العربي ، والسعي لإرسال قواتها
إلى سوريا ؛ وربما توفر إيران لتنظيم داعش الانتقال إلى مناطق محددة في العراق
وسوريا كالسويداء وجبهة جنوب سوريا
وشمالها ، وأن يوسّع التنظيم عملياته
العسكرية في كافة الاتجاهات، بالتزامن مع
سعي طهران للعمل إلى تراجع مليشياتها ، وانحسارها باتجاه نقاط ارتكازها
محددة ، مما قد يسهم في خلط الأوراق وصدم موسكو وواشنطن وتل
أبيب وقوى عربية أخرى من استفاقة التنظيم المفاجئة.
من هنا فإن أهمية استعادة تنظيم “داعش” نشاطه في مناطق
محددة في المنطقة ، بات يمُثل أولوية إيران ، مع تسهيل انتقاله إلى مناطق تماس حيوية
لتوجيه الضربات ، ولتلقين الدول التي باتت تتشاطر ضرورة انسحاب إيران ومليشياتها
من المنطقة ، والتضييق على وكلائها وأذرعها .
المحصلة أن قيادات طهران قد أعطت الضوء الأخضر لمثل هكذا سيناريو بشكل عاجل ، وهذا ما يتضح من خلال تركيز الماكينة الإعلامية الإيرانية، على الرد القاسي وغير المتوقع الذي سوف تتبناه طهران لكل من يحاول النيل من التضحيات التي قدمتها على امتداد سنوات الأزمتين العراقية و السورية، ؛ وفي مقدمتها الحرب على داعش ، وافتراض عودتها في حال تراخي القبضة الإيرانية ، وهي رسالة سياسية إيرانية باتت موجهة للجميع ؛ بمن فيهم روسيا .
تواجه إيران مأزقها السياسي والاقتصادي والإستراتيجي غير المسبوق نتيجة انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي ، وتصاعد وتيرة التوتر المقترن بالاستهداف الإسرائيلي،الذي بات مشهداً شبه يومي ضد إيران ومليشياتها بغية تحجيم نفوذها في العراق وطردها من سوريا؛ هذا عدا عن مطالبة موسكو على لسان وزير خارجيتها ضرورة خروج كل القوات والمليشيات من سوريا ، لن نفاجئ قريباً إذا ما شهدنا عودة نوعية لداعش ، وفتح المجال أمام مزيد من المرتزقة والمليشيات للعبور إلى سوريا بدعم وتوجيه إيران ، ورفع متعمد لليد الإيرانية الدائمة على حركة التنظيم، وتنقلاته في البادية السورية وشمال وجنوب سوريا .
الإستراتيجية و التكتيكي الإيراني بات يتحرك سريعاً بعد أن أعطت طهران الاتحاد الأوروبي الفرصة الأخيرة لانقاذ الاتفاق النووي والتي انتهت مع غروب العام الفارسي الجديد ، تطورت سريعة تُفسّر اعلامياً وعسكرياً وسياسياً خطوات إيران القادمة للرد ؛ فالإعلام الإيراني يعيش الأن حالة إحماء للانتقام ، وهو المصدر شبه الوحيد الذي نستطيع الاتكاء عليه لتفسير سياسات النظام ، و يجعلنا نطرح أسئلة دقيقة عن كيفية تواطؤ مع نشاط تنظيم الدولة الإرهابي ، وكيف يتقاسم مسؤوليته إيران ومليشياتها ، وتوظيف هذه الورقة ككرت رابح للضغط على مختلف القوى ، وهو يماثل في ظروفه ودلالاته، تسليم الإيرانيين تدمر لتنظيم “داعش” في يناير عام 2016م، للانتقام من أميركا وروسيا حينذاك ، ومنعها من إنشاء قاعدة عسكرية هناك، وكانت طهران تريد بذلك توجيه رسالة واضحة إلى بوتين فحواها ، أننا قادرون على تدمير مخططاتكم وأهدافكم إذا لم تتناسب مع إيران و مصالحها في العراق وسوريا والمنطقة ؛وإدخالكم في حرب استنزاف طويلة ، لأن الأرض بيدنا في نهاية المطاف ، وداعش أحد مخالبنا التي نستطيع من خلالها ضرب المنافسين والخصوم لنا .
لا شك أن حرب إيران مع منافسيها في المنطقة باتت حرب وجود ، وعلى الرغم مما يبدو بين روسيا وإيران من تحالف ” مؤقت ” في الحرب السورية، فالصراع بدأ يطفو إلى السطح ، وهذا يتجلى في الصراع على من هو صاحب القرار في سوريا، وأن إيران لن تقف موقف المتفرج في ظل حالة اصطفاف دولية وإقليمية غير مسبوقة تسعى لطرد إيران من سوريا، و انضمام روسيا إلى هذا المحور بشكل علني ، هذا عدا عن محاولة واشنطن اعادة انتشار قواتها في العراق تمهيداً ليكون رأس الحربة لمحاصرة إيران مجدداً.
تدرك طهران أن دعوة ترامب الحكومة العراقية لتكون أحد أدوات
الضغط على إيران ، إلى جانب أن مطالبة الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجية بضرورة
خروج كل القوات الأجنبية من سوريا، أن
المقصود صراحة بذلك طبعاً الميليشيات
الإيرانية، وأن دورها الحقيقي في أي معركة
قادمة قد انتهى ، وأن المتغير الإسرائيلي
بات يلتقي مع الروسي ، وإعلان موسكو بالتوافق مع إسرائيل لحماية حدودها وأمنها ، وحيادها الضمني مع القصف الجوي لقواعد إيران وميليشيا
“حزب الله”، ومنح “إسرائيل” الغطاء لتوجيه الضربات تلو الضربات لاستهداف الوجود العسكري
الإيراني في سوريا بمختلف مستوياته ، وتوفير معلومات إستخبارية مهمة للإسرائيليين ، وهو ما باتت بعض وسائل الإعلام الإيرانية المحسوبة على
الحرس الثوري تُلمح له صراحة .
كذلك فإن إعادة طهران لبعث داعش من جديد
في هذا التوقيت سيسهم في إحراج كلاً من ترامب ” بوتين ” الذين اعلنا النصر النهائي
على التنظيم ، و حاولا تلميع صورتيهما أمام العالم كقوتين عظميينم
لديها رسالة سامية على المستوى الدولي لمحاربة الإرهاب ، وقياس مدى اختبار قدرات واشنطن
وموسكو الأمنية التي ربما ستكون على المحك
، مع استبعاد فرضية الحليف الكوري الشمالي
لمصالحة تاريخية مع واشنطن ، وتبعات ذلك على روسيا والصين ، ومصالحها الإقليمية
والدولية ، هذا عدا عن ضرورة عقد صفقة مع
الأميركيين بخصوص الملفات المشتركة والمتشابكة والمعقدة ؛ وفي مقدمتها الأزمة مع واشنطن والأخذة في التصعيد.