قبل وصول خميني إلى الحكم في إيران عام 1979، كانت سياسات ملوك فارس سواء من الصفويين أو من جاء بعدهم، تتركز على خطط التوسع نحو المياه الدولية والتحكم بممراتها الاستراتيجية، ولم تقتصر خطط شاه إيران محمد رضا بهلوي وأبيه رضا خان على استكمال برامج فارس التاريخية بالتوسع غربا على حساب الأراضي العراقية فقط، بل حاول محمد رضا بهلوي أن يحول بلاده إلى دولة إقليمية كبرى تتحكم بمنطقة الخليج العربي والسيطرة على الجزر الحاكمة بممراته البحرية وخاصة مضيق هرمز.
ولم يصادف الشاه اعتراضات جدية من قبل الدول الكبرى الغربية منها والشرقية على حد سواء على طموحاته التي يمكن أن نقول فيه، بأنه يرتدي حذاء أكبر من قدميه بكثير، ولهذا استغل الشاه اعلان بريطانيا نيتها الانسحاب من شرقي السويس عام 1971، فاستولى على الجزر الثلاث العائدة لدولة الإمارات العربية، وسط تقاعس فاضح من الإمارات في الدفاع عن ممتلكاتها الوطنية وسيادتها على أراضيها، ومع الوقت راح الشاه يعلن عن نواياه في التحول إلى دركي إقليمي ينوب عن الدول الكبرى في التحكم في منطقة الخليج العربي متناغما مع المخاوف الدولية على أمن الخزان الأكبر في العالم للنفط وانسيابية الطاقة إلى الدول المستهلكة الكبرى لها ازاء تقلبات السياسات الإقليمية وصراع الدول الكبرى ومراكز الاستقطاب الدولية.
وعلى طريقة الدول الكبرى عندما تستنفد كل أهدافها من عملائها، وعندما رأت الولايات المتحدة أن شاه إيران قد أدى المطلوب منه وجدت أن الوقت قد حان لاستبداله بنظام حكم بثوبٍ ديني عساه أن يطوقَ الاتحاد السوفيتي بحزام الفتن الدينية، ولما رأت واشنطن أن الشاه بدأ يعمل لحسابه الخاص وراح يتصرف حتى من دون تشاورٍ معها، وخاصة بعدما صار شريكاً فاعلا في مواقف منظمة الدول المنتجة للنفط والمتجهة نحو التحكم بسياسة الانتاج والتسعير، تخلت عنه وتركت عرشه يهتز تحت وقع التظاهرات التي اندلعت في خريف 1978، حتى سقط في11 شباط 1979.
ويمكن للمراقب أن يسجل على الاستراتيجية الايرانية في الحقبة الخمينية أنها استنساخ للاستراتيجية التي وضعها النظام السابق واعتمدت على نظرية التوسع والضم للمجال الحيوي لإيران ولكن بعد استبدال قبعة الكاوبوي بالعمامة الإسلامية، وهنا يحضرني ما سبق وأن أعلنه هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس الشورى وممثل خميني في مجلس الدفاع الإيراني الأعلى خلال حقبة حرب الثماني سنين، “أن احتلال القوات الإيرانية للفاو تم تطبيقا لخطة وُضعت في عهد الشاه وتم استخراجها من أدراج رئاسة الأركان الإيرانية”، وهذا الاعتراف سيقودنا حتما إلى التعرف على أن الزعامة الإيرانية الجديدة لم تقتفِ خطى العهد الشاهنشاهي في الميدان السياسي فقط بل سارت على طريقة إدارة ملف الحرب حتى في الجزئيات الصغيرة.
الشاه لم يطرح نفسه على المستويات المحلية أو الإقليمية أو الدولية، كنظامٍ ديني يعتمد منهاجاً مذهبياً محدداً، إلا أنّ الشاه أسس الأحزاب والحركات الشيعية الموالية لإيران في العراق ولبنان والبحرين مثل حزب الدعوة الإسلامية ومنظمة العمل الإسلامي وكانت الحركتان تنشطان بدعمٍ وإشراف من السافاك الإيرانيةٍ أما في لبنان فقد أوفد الشاه موسى الصدر ليؤسس حركة أمل لتمثل الشيعة سياسيا ولتستغل هامش الديمقراطية الغربية السائد هناك وحرية الصحافة لطرح الأفكار بحرية تامة، وكان الشاه ينظر إلى نفسه كحامٍ لشيعة العالم، وربما تدل واقعة حصلت أثناء تقديم السفير الإيراني لأوراقِ اعتمادهِ للرئيس الراحل عبد السلام عارف، أنه أثناءها نقل أمنيات الشاه للرئيس عارف بأن يهتم بشيعة العراق، فما كان من الرئيس عارف إلا أن طرده من القصر الجمهوري، ونقل السيد صبحي عبد الحميد وزير خارجية العراق في ذلك الوقت تفاصيل الواقعة في مذكراته.
لكن قدرة الشاه على الانتشار باستغلال الموضوعة الطائفية، كان يواجه بمقاومة التيارات الوطنية والقومية المؤثرة في الساحة العربية في تلك الحقبة التي كان الشاه يطرح نفسه كقائد لمشروع قومي فارسي مدني علماني بعيدٍ عن الدين والتيارات المذهبية وبالمقابل كانت الأفكار القومية هي المسيطرة على الساحة العربية، وبوصول خميني إلى الحكم ممتطيا شعاراً دينياً يحاول تجيير الموقف الإسلامي في خدمة برنامجه الذي يرتكز على أساسٍ مذهبي طائفي يعتمد التشيّع الجعفري الاثني عشري منهاجا معلناً كما ورد في الدستور الإيراني، أخذ المشروع الإيراني قوة دفع كبيرة نستطيع وصفها أنها تمكنت من تعطيل المشاعر الوطنية والقومية لدى قطاعات كبيرة في الوطن العربي لصالح الانتماء للمذهب حتى لدى أوساط كانت تجاهر بالإلحاد منهاجا سياسيا اجتماعيا، ومكمن الخطر في الأمر لا يتمثل بالتشيع كمنهاج ديني، بل تحويله إلى برنامج سياسي عابر للحدود ينظر إلى الفكر القومي نظرة عدائية، في حين أنه بالأصل ينطلق من فكرة قومية عنصرية مغلفة بقناع ديني مذهبي.
استطاع خميني خلال فترة وجيزة من حكمه، تأسيس حركات سياسية ذات طابع طائفي مرتبط بنظامه ارتباطاً وثيقاً رفعت شعاراتٍ كانت تتبنى الموقف الإيراني حتى إذا كان على حساب الموقف الوطني، كان بعض التيارات الشيعية وخاصة في لبنان قد أعادت ترتيب أوضاعها بما يتناسب مع نظرية ولاية الفقيه التي تبناها خميني وفرضها في دستور إيران بعد أن كانت ترفع شعارات أخرى كما هو مثبت في تاريخ حركة أمل التي أسسها موسى الصدر الإيراني الأصل والفارسي العرق والمولود في مدينة قم الإيرانية في 4 حزيران 1928، كان قد جاء إلى لبنان ليستقر فيها نهاية عام 1959 بعد وفاة المرجع الشيعي في لبنان عبد الحسين شرف الدين، وليؤسس لمرحلة جديدة من دور الشيعة السياسي في لبنان بعد أن درس مكونات المجتمع اللبناني عن قرب عندما كان قد زار لبنان لأول مرة عام 1955، أما مجيئه الثاني إلى لبنان فكان لغرض الاستقرار فيه نهائيا، فوضع مشروع الحراك الذي سيقوده خاصة بعد ثورة عام 1958 ضد محاولة الرئيس اللبناني حينذاك كميل شمعون للتجديد والتي وقف فيها الشيعة موقف المتفرج في حين تم استنزاف طرفي الصراع السنة والدروز من جهة والموارنة من جهة أخرى، واستطاع الصدر تحييد دور الشيعة في الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975 والتي أوصلت المكونات اللبنانية من دون استثناء إلى حافة الانهيار باستثناء الشيعة الذين انتظروا نهاية المنازلة ليقتنصوا الفرصة وليصبح الشيعة بعدها رقما لا يمكن تخطيه ويفوق حقيقة الثقل السكاني لهم في أية معادلة سياسية لاحقة وهذا ما تحقق فعلا وأخذ مداه في الوقت الحاضر، وبعد اختفاء الصدر في 31 آب 1978 ونتيجة مخاض مر به شيعة لبنان وبعد وصول خميني إلى السلطة في إيران كان لا بد من تغيير أساليب التحرك والانتقال إلى خيار القوة للوصول إلى الهدف المنشود، حينذاك برز في لبنان “حزب الله”، كأقوى تعبير عن قدرة النظام الجديد في إيران على تسخير أدوات النظام السابق في خوض الحروب بالنيابة التي تميّزت بها إيران حتى على الاتحاد السوفيتي السابق الذي حاول اتخاذ الأحزاب الشيوعية في العالم خطوط دفاع له أحيانا وقوة الهجوم على (الإمبريالية) أحيان أخرى، وبهذا المثال نجد أن النظام الجديد الذي أقامه خميني، لم ينسف الأسس التي أرساها نظام الشاه بل توسع فيها بعد أن أعطاها بعدا استراتيجيا، فالحركة التي أسسها موسى الصدر من أجل إيجاد موطئ قدم على المتوسط ليتواصل مع خطة التحكم بالمضائق البحرية، تحولت إلى أداة محورية في برنامج الحرس الثوري للانتشار في العراق وسوريا واليمن والانتقال إلى آسيا وأوربا وأمريكا اللاتينية.
ولعل في فكرة تأسيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق في تشرين الثاني عام 1982 برئاسة معمم إيراني هو محمود شاهرودي، ما يجسد الفكر الاستعلائي لخميني وحقده على العرب، واحتقاره للخونة العراقيين الذين باعوا أنفسهم لدولة تخوض حربا ضد بلدهم، وبحثه عن مرتزقة يخوضون نيابة عن إيران حروبها الخارجية والدفاع عن حدودها في حروبها الأخرى كما حصل في تجنيد الآلاف من الأسرى العراقيين الخونة في صفوف فيلق بدر، الذي قاتل الجيش العراق في حرب الثماني سنوات، ونفذوا الكثير من العمليات التي حاولت تشتيت جهد القوات العراقية المدافعة عن الحدود، وتحول مرتزقة إيران بعد الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق عام 2003 إلى وكلاء رسميين لإيران في العراق يرعون مصالحها وينفذون أوامرها التي كانت تأتي بصفة مستمرة على الضد من مصالح العراق، وهناك أمثلة كثيرة يضيق المجال لذكرها، ولكننا سنكتفي بذكر أبرز ما طفح على السطح من تصريحات أو ممارسات، ففي مجال التصريحات قال عبد العزيز الحكيم الذي كان رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى “على العراق دفع تعويضات لإيران عن خسائرها الحربية”، أما جلال الدين الصغير القيادي في المجلس نفسه فقد كان أكثر وضوحا من سيده عندما حدد مبلغ التعويض بترليون و200 مليار دولار، وهناك نماذج لمعممين كانوا أكثر وقاحة عندما أعلنوا أنهم على أهبة الاستعداد للقتال إلى جانب إيران ضد العراق في حال نشوب حرب بين البلدين وبذلك فقد نزعوا عن أنفسهم فرصة الدفاع عنها لدى اتهامهم من خصومهم بأنهم إيرانيون وليس عراقيين، هذا الموقف ليس بالمستغرب طالما أن فيلق بدر الذي كان بإمرة محمد باقر الحكيم خاض معارك مختلفة ضد الجيش العراقي في القادسية، لكن المستغرب أن كل هذه المواقف تمر من دون أن تنبس ما تسمى بالمرجعية الشيعية العليا في النجف ببنت شفة على الأقل لإيضاح موقفها من هذه المواقف الوقحة مما يفسر على أن “السكوت في معرض الحاجة بيان”، أنها موافقة على هذه التصريحات والمواقف، ويمكن إضافة كثير من الشواهد على أن سلطة الاحتلال الفارسي وقفت عبر رموزها بكل قوة ضد إقامة مشاريع توليد الطاقة الكهربائية ونقلها للمواطن من أجل أن يبقى العراق مستوردا دائما للطاقة الكهربائية من إيران وبأسعار خيالية، وعندما عرضت دول الخليج العربي على العراق تجهيزه بكل احتياجاته بسعر يقل عن ربع كلفة استيرادها من إيران، انتفض كل قادة التحالف الشيعي واعتبروا ذلك إذعانا لشروط أمريكا، وما يصح على الكهرباء يصح على عرقلة إعادة تأهيل المصانع أو إحراق المحاصيل الزراعية كي تبقى السوق العراقية سوقا لتصريف البضائع والسلع الإيرانية الكاسدة والرديئة.
ومع الوقت ومع شعور إيران بامتلاكها لقدرة اللعب على ملفات المنطقة من دون أن تتحمل تبعات مباشرة جراء عبثها بالأمن الإقليمي والدولي والملاحة في المياه الدولية، فقد عبر أحد رموز إيران في العراق وهو جلال الصغير عن هذه الحقيقة عندما صرح علانية، بأن إيران باتت تتحكم بتجارة النفط الدولية، من خلال سيطرتها على نفط العراق وسوريا واليمن إضافة إلى نفطها، لاسيما وأن الممرات البحرية والمضائق باتت تحت سيطرتها، وضرب على ذلك مثلا بسيطرة إيران المباشرة على مضيق هرمز وسيطرتها عن طريق الحوثيين على مضيق باب المندب، وبذلك فقد أحكمت إيران سيطرتها كما زعم الصغير على تجارة النفط وحركة التجارة البحرية في البحر الأحمر مما يمكنّها من خنق مصر بتهديد حرية الملاحة وتعريض أمن المرور عبر قناة السويس إلى مخاطر جدية، في أي وقت تشاء.
خطة السيطرة على المضائق الدولية في الوطن العربي قائمة على قدم وساق من قبل إيران وعبر عملائها، وهذا شأن الدول الجبانة التي لا تستطيع مواجهة الأطراف الدولية مواجهة مباشرة.
من المعروف أن إيران تتحرك على البيئة الفقيرة المتخلفة في أي مجتمع تستطيع الوصول إليه، فتوفر للمعدمين والفقراء فرص لهم في مرحلة الانتشار الأولى الحصول على رغيف الخبز، وتوفر لأولادهم فرص التعليم والعلاج المجاني، حتى تبدأ ببث سمومها الطائفية وتنشر فكرها التكفيري المستند على فكرة ولاية الفقيه.
وهنا تبث الأوساط الموالية لإيران من معممين وصحفيين وصلات وردية من الدعاية لإنسانية إيران وتضحيتها من أجل الفقراء، وحرمان الإيرانيين من الامتيازات التي توفرها لفقراء الدول الأخرى، وهنا يكمن السم المميت من مثل هذه الدعاية السوداء، فحقيقة الأمر أن إيران لا تدفع تومانا واحدا ما لم تسترده مليونا من التومانات أو أكثر سواء من جهة الاستثمار السياسي أو الاقتصادي، أو في تجنيد تلك الأوساط التي انطلت عليها لعبة إيران، في كتائب تخوض نيابة عنها معارك تكتنفها مخاطر كبرى، لا تجرؤ إيران على خوضها مباشرة لمعرفتها بعواقبها المادية والبشرية عليها.
لم تكتف إيران بالسيطرة على مضيق هرمز أو باب المندب، وربما تخطط لما هو أبعد من ذلك، من أجل إحكام سيطرتها على ثالث المضائق الحساسة في الوطن العربي، وهو مضيق جبل طارق وبذلك تستطيع التحكم بحركة الملاحة البحرية في الخليج العربي والبحر الأحمر وأخيرا البحر المتوسط نظريا على الأقل، ولتهدد بها عن طريق عملائها متى ما شاءت ولتشدّ أعصاب الدول المستهلكة للنفط وشركات النقل والتأمين.
تناقلت بعض الأوساط الإعلامية أن إيران نشطت منذ مدة في مدينة تطوان المغربية وعلى مقربة من الحدود مع مدينة سبتة المغربية التي تحتلها اسبانيا، فزرعت مستعمرة من عدة آلاف من أتباعها المغاربة والعراقيين والأفارقة هناك، وهؤلاء لهم امتداداتهم داخل شمالي المغرب وخاصة في مدينة طنجة، إذ يمتلك أتباع إيران نوادٍ ليلية وصالات قمار وعصابات تهريب المخدرات عبر مضيق جبل طارق إلى أوربا، لإعالة سكان المستعمرة الولائية في تطوان.
لم تتوفر معلومات دقيقة مؤكدة عن هذه التقارير، ولكن بالاعتماد على سابق تجارب إيران في المملكة المغربية وتحريك العملاء هناك، وما قامت به المدرسة العراقية من خطوات لنشر التشيع والموقف الحازم من جانب السلطات المغربية الذي وصل حد إغلاق هذا المنبر الطائفي المقيت، لا بد أن نستنتج أن إيران لن تعدم أية وسيلة لشراء المرتزقة باسم المذهب، وهناك شواهد في نيجيريا وشرق أفريقيا.
إن ما يحصل في أكثر من بقعة جغرافية لا بد أن يقرع جرس الإنذار بأن إيران التي تتعرض لضغوط اقتصادية مزعومة وخاصة من جانب الولايات المتحدة، ما تزال تجد لديها فائضا من المال لتوزعه على أقاليم كثيرة ترى أنها مناطق استثمار سياسي طائفي واقتصادي، لا سيما وأنها أي إيران صارت هي المتحكم بكل ما يدخل إلى العراق من أموال بترو دولار.
لكننا لا يمكن أن نصدق أن إيران صارت عصية على العالم ما لم يكن الشرق والغرب موافقين على مشروعها التوسعي الذي يستهدف الأمة العربية لوحدها، وهنا يبرز سؤال ملح وهو إذا كانت إيران محصورة في نطاقها الجغرافي وتعاني من عزلة إقليمية وشبه دولية، ترى كيف ستكون إذا امتلكت السلاح النووي وماذا لو عاشت انفتاحا اقتصاديا على العالم.
761