بين طيات الصحف ووكالات الأنباء التابعة لإيران وما يسمى بمحور المقاومة، خرجت أصوات الانتصار والتغني بهزيمة إسرائيل على يد حزب الله في الاتفاق الأخير حول ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائل، وفاق التصور والإدعاء كل خيال، حتى انطبق على المتنطعين مقولة “كذب الكذبة وصدقها”.
فبعد وساطة أمريكية استمرت لعامين، توصلت لبنان وإسرائيل إلى اتفاق لترسيم حدودهما البحرية، ويموجب هذا الاتفاق الذي وصف “بالتاريخي” على لسان المقاومة، سيسمح للدولتين بالتنقيب عن الغاز والنفط في المنطقة المتنازع عليها التابعة لمياههما الإقليمية، ويصبح حقل “كاريش” بالكامل تحت سيطرة إسرائيل، فيما سيضمن الاتفاق للبنان كامل حقل “قانا” الذي لم يبدأ استغلاله بعد، ومن المفترض أن تبدأ شركة “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية في التنقيب واستخراج الغاز منه لصالح لبنان.
جزء من هذه الاتفاقية ينص على أنه بعد تشغيل شركة “توتال” لحقل “قانا” الخاص بلبنان، فإن جزءا من أرباح مبيعات الغاز في هذا الحقل سيذهب إلى إسرائيل أيضا.
فورا انبرت وسائل الإعلام الإيرانية والتابعة للمقاومة لنشر العناوين الثورية بالخط العريض، ومنها مثلا ما عنونته صحيفة “اعتماد” الإيرانية: “استطاع لبنان أن يأخذ حقه بالتهديد بالعمليات العسكرية”، وفي عنوان آخر “مع الانتصار الأخير، سيكون لبنان ثريا”، وأكدت صحيفة “ابتكار” الإصلاحية أن لبنان ولأول مرة، استطاع أن يأخذ حقه بالتهديد بالعمليات العسكرية، وعنونت صحيفة “رسالت” الأصولية: “الانتصار الأخير في كاريش كان سببه قوة المقاومة”، وقالت صحيفة جوان المقربة من الحرس الثوري: “اتفاق بدافع الخوف، حددت طائرات حزب الله بدون طيران حدود تل أبيب”، وأوردت صحيفة كيهان التابعة للمرشد الإيراني تقريرا بعنوان: “غضب الإعلام العبري من استسلام لابيد لحسن نصر الله”، وهناك الكثير من قبيل هذه العناوين والتقارير والمقالات.
محاور بروباغندا المقاومة
ركزت الدعاية الإعلامية لمحور المقاومة على الترويج لعدة قضايا تخدم المحور إعلامية وهي:
1 – هزيمة كبيرة لإسرائيل أمام لبنان وحزب الله والمقاومة.
2 – حكومة لابيد قد قدمت تنازلات بعد تهديد حزب الله.
3 – لبنان وحزب الله لم يطبع مع الجانب الإسرائيلي، بل فرض شروطه.
4 – الوساطة الأمريكية أنقذت إسرائيل من صواريخ حزب الله، واستحق لبنان حقه الكامل.
5 – لبنان ستصبح دولة غنية ولن تكون بحاجة إلى مساعدات أجنبية وخليجية.
6 – حتى المقاومة لن تحتاج إلى مساعدة مالية من دول أجنبية.
7 – ما حدث هو انجاز سياسي كبير للبنان ولكل محور المقاومة.
تفنيد الخطاب الإعلامي للمقاومة
أولا: على الرغم من الأرباح التي قد يحققها لبنان، إلا أنّها لا تغطي سوى جزءا بسيطا من الديون المتراكمة عليه حيث يبقى غارقا في انهيار اقتصادي صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850.
ثانيا: أن أرباح لبنان من هذه الاتفاقية “قد تصل إلى ست مليارات دولار موزعة على 15 عاماً، حسب ما أوضحته عضو الفريق الاستشاري في المبادرة “ديانا قيسي”.
ثالثا: أن هذه الاتفاقية تخدم الجانب الإسرائيلي ومصالح الدول الغربية في حربها مع روسيا من خلال حصولها على الغاز الإسرائيلي.
رابعا: بنود الاتفاقية تضمن بشكل أكبر المصالح الإسرائيلية في المستقبل، مقابل رمادية واضحة في الحقوق اللبنانية.
إن توقيع هذا العقد رافقه تقلبات عديدة، فعلى سبيل المثال، الأسبوع الماضي، قامت إسرائيل بتنشيط قيادتها الشمالية وأرسلت قواتها إلى حدود لبنان، فضلا عن أنباء حول اكتشاف موارد غازية أخرى في البحر الأبيض المتوسط، ويرى بعض معارضي هذا الاتفاق أن الاتفاق تكتيك انتخابي من قبل “لابيد” ضد نتنياهو للحصول على المزيد من المقاعد في الكنيست، ويقول بعض المعارضين الآخرين إن هذا الاتفاق تم بضغط ووساطة من أمريكا لتوفير مصالح لها وللاتحاد الأوروبي.
بعض المعارضين للاتفاق في لبنان يصفونه بأنه نوع من التطبيع مع إسرائيل، ولن يكون له فائدة تذكر على البلاد، وتهديدات حزب الله لم تكن سوى للاستهلاك المحلي، وتقديم صورة مفادها أن الاتفاق حدث ليلبي مصالح المواطن اللبناني.
بالإضافة إلى كل هذه التحليلات، أن جهود إسرائيل للتوصل إلى اتفاق فوري مع لبنان لا يمكن فصله عن أزمة الطاقة العالمية، وضغوط الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على إسرائيل، بسبب أزمة الطاقة العالمية، بمعنى أن قبول إسرائيل بهذه الاتفاقية جاءت لتلبي مصالح غربية من خلال سد جزء من نقص الغاز الروسي نتيجة العقوبات المفروضة على موسكو بسبب حربها على أوكرانيا، فمع هذه الاتفاقية تكون إسرائيل قادرة على تعويض ما نسبته 10٪ من الغاز الروسي في الاتحاد الأوروبي، وتجدر الإشارة إلى أن الأمريكيين بذلوا جهودا لتشجيع جمهورية أذربيجان وقطر وشمال إفريقيا على استخراج الغاز، وهذه الموارد إذا ما جمعت، قد تكون قادرة على أن تحل محل الغاز الروسي من المنظور العربي، ويمكنها توفير الغاز للعديد من الدول الصناعية الأوروبية الكبيرة.
والشيء الآخر هو أن الألمان حاولوا مؤخرا زيادة مشترياتهم من الأسلحة وتحسين علاقاتهم مع إسرائيل، الأمر الذي لا يمكن فصله عن طموحهم بموارد الطاقة في البحر الأبيض المتوسط، لأن ألمانيا ستعاني من أكبر ضرر من قطع الغاز.
الأمر الأهم من ذلك كله، أنه إذا تم إنشاء خطوط أنابيب غاز إسرائيلية إلى الاتحاد الأوروبي، فإن مستوى النفوذ السياسي لتل أبيب في الاتحاد سيكون أكبر مما كان عليه في الماضي، لأن أنابيب الغاز هي عمليا قوة ونفوذ وأمان لبلد المنشأ وبلد المقصد أي إسرائيل وأوروبا،
وختاما، يجب أن نضيف، أن توغل إسرائيل وأذربيجان في أسواق الطاقة الأوروبية، وسد حاجتها من الغاز، سيضع إيران على الرف ويقطع الطريق أمامها لبيع موارد طاقتها وتخسر أكبر ورقة ضغط تمارسها على الوقى الغربية في ملفات عدة أهمها الاتفاق النووي، فإوروبا وقتها لن تكون بحاجة إلى إيران.
النتيجة ان طهران وحزب الله اضطرا لهذه الاتفاقية لتجنب تصعيد إسرائيلي ضد حزب الله في وقت تشهد فيه إيران أحداث وظروف صعبة نتيجة الاحتجاجات الشعبية، وحاجتها لعناصر حزب الله لقمع هذه الاحتجاجات، والتصعيد يعني حاجة عناصر حزب الله في لبنان.
يهدف حزب الله وإيران من هذه الاتفاقية إلى الحصول على عوائد مالية قد يسد العجز القادم من إيران نتيجة ضائقتها المالية جراء العقوبات.
يمكن لهذه الاتفاقية بعد الترويج بأنها انتصارا لحزب الله أن تخلق ظروف ملائمة في تحسين صورة المسؤولين اللبنايين الموالين لحزب الله في العملية السياسة والانتخابية في لبنان وترفع من أسهمهم أمام المعارضين لحزب الله.