الأمم المتحدة … حفار قبور معتمد

على الرغم من أن الأرقام التي تصدرها الأمم المتحدة عبر مكتب ممثل الأمين العام في بغداد، تخضع للتلاعب نزولا أو صعودا على وفق ما يناسب مزاج الأمم المتحدة وتوجهات الأمين العام في التركيز على ملف معين وتجاهل ملفات أخرى ترى مراكز الاستقطاب الدولية الكبرى التلاعب بها بما يخدم استراتيجياتها، فإن الرقم الذي أعلنه ميلادينوف عن أعداد القتلى الذين سقطوا في العراق من بداية عام 2014 وحتى نهاية تشرين الأول كان مخيفا جدا مع أنه لا يعكس الحقيقة كاملة، فهؤلاء ليسوا مجرد أرقام اصطفت مع بعضها وإنما هم بشر من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال الذي فقدتهم عوائلهم ومدنهم ووطنهم.


إن الرقم الذي أعلنه ميلادينوف الذي وصل إلى عشرة آلاف قتيل وأكثر عشرين ألف جريح، ومئات الآلاف من المهجرين قسرا والمهاجرين والنازحين من بيوتهم وقراهم ومدنهم يعتبر رقما متواضعا ولا يقترب من حقيقة ما يجري من شلالات الدم المتدفق في العراق بلا نهاية، ويبدو أن القتل والتهجير على الهوية والاسم والوظيفة والمنطقة والعشيرة والعرق والدين والمذهب، كان انعكاسا لطاحونة الدم المستمرة منذ الاحتلال الأمريكي ومن ثم تسليم رقاب العراقيين ومصائرهم لمليشيات مرتبطة بالمشروع الإيراني الانتقامي والتوسعي، ومتصارعة فيما بينها ومع بعضها على من يخدم المشروع الإيراني أكثر من سواه.


هذا العنف كان من اللافت أنه وفي كل مرة أو مرحلة، يأخذ شكلا أو مبررا أخطر في دمويته وحجم ضحاياه ومساحته مما سبقه، لدخول أطراف جديدة على النزاع أو حصول انقسامات وانشطارات داخل المليشيات يأخذ بعضها شكل الحفاظ على خط الخصومة القديم، في حين ينحو الطرف المنشق جانب التطرف في التعامل مع الأصل الذي انشق عنه ومع الأطراف الأخرى العاملة في الساحة من الشركاء والخصوم والأعداء، وفي ظل كل هذه الأجواء تقف الأمم المتحدة عاجزة تماما عن إعطاء الوصف الصحيح لدوامة الموت في العراق، لا يتفوق عليها في ذلك إلا عجز حكومة العبادي التي باشرت مهماتها في الثامن من أيلول الماضي، وسط أجواء كرنفالية ووعود وردية لها بداية ولكنها من دون نهاية، ويبدو أن الطرفين يشتركان في حالة العجز أو اللامبالاة أو اللاجدية في إيجاد الحلول الواقعية لمعانة شعب ما زال يدفع ثمنا باهضا من أرواح أبنائه ومن فرص عودة بلدهم إلى دولة المؤسسات التي تستند إلى حكم القانون.


قطعا نحن لم نكن ولن نعلق في أي يوم من الأيام آمالا مهما كان حجمها ضئيلا على الأمم المتحدة تلك المنظمة المشلولة الإرادة، والتي تحولت إلى أداة بيد الكبار لسحق الدول الصغيرة ومصادرة حقوقها والتجاوز على سيادتها، ولأن العراق كما هو حال فلسطين عبر قرار التقسيم الذي اتخذ عام 1947، كان من ضحايا تحكم القوى الدولية الكبرى التي وصفت بأنها خرجت من الحرب العالمية الثانية منتصرة وبالتالي صار لها أن تتحكم بمسار الأمم المتحدة وبتوجهاتها بحكم ما فرضه ميثاقها للدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن من حق النقض “الفيتو”، وهو ما منح هذه الدول حق الوصاية على سائر الدول الأعضاء الأخرى التي يفترض أنها تتمتع بحقوق سياسية متكافئة من الناحية النظرية مع الدول الكبرى، ولكنها في واقع الحال تبدو وكأنها دول لم تبلغ سن الرشد كي تقرر لنفسها ما تشاء، فجاءت الأمم المتحدة التي تحولت إلى شاهد زور على أحداث العالم، لتبرر النزعة العدوانية للدول الكبرى وخاصة ما تمتلكه الولايات المتحدة من خطط الهيمنة على العالم، والتي امتلكت بالإضافة إلى القوة العسكرية قوة الاقتصاد المتحكمة باقتصادات العالم بواسطة الشركات العابرة للقارات.


ربما لم يشهد تاريخ الأمم المتحدة قوة تدخلت في قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن والوكالات المتخصصة والمنظمات المتفرعة عن المنظمة العالمية، مثل الولايات المتحدة التي وقفت بما تمتلكه من تأثيرات متعددة الأسباب والمحاور في سياسات الأمم المتحدة، ابتداء من استضافتها لمقرها في نيويورك، وكونها صاحبة النسبة الأعلى في ميزانية المنظمة، وأتاح انهيار منظومة الدول الشيوعية وخروج الاتحاد السوفيتي من معادلة التوازن الدولي، أتاح للولايات المتحدة فرصة نموذجية لبسط هيمنتها على الأمم المتحدة حتى أوشكت الجمعية العامة إلى أن تتحول إلى كتلة عددية من دون إرادة سياسية، وتتحرك بجهاز سيطرة عن بعد وأصبح مجلس الأمن الدولي مجلسا للأمن القومي الأمريكي يتحرك بإشارة أمريكية ويتوقف بإشارة أخرى من البيت الأبيض، واستنادا إلى هذا فقد كان الأمناء العامون للأمم المتحدة ومن بداية عقد التسعينات في القرن الماضي، أسرى السطوة الأمريكية تأتي بمن تشاء وتستبعد من لا تراه مناسبا لها وتجدد لمن تشاء وتقصي من لا تريد بقاءه، وتلقائيا وعندما تم احتلال العراق وأصبح للأمين العام ممثل في العراق، فإن هؤلاء لم يتجاوزا وزن بواب صغير في وزارة الخارجية الأمريكية، وكانت تقاريرهم ومقترحاتهم انعكاسا للرغبة الأمريكية التي كانت قد قطعت أشواطا مهمة في غزل لم تعد واشنطن حريصة على إبقائه في غرف النوم مع طهران الولي الفقيه لتبادل الأدوار والمنافع وتقاسم مناطق النفوذ بين الطرفين.


وبدأت تقارير ممثلي الأمين العام تفقد آخر ما تبقى لها من مصداقية ومهنية مما يجب أن تتوافر في تقارير الأمم المتحدة، لأنها كانت تعكس رؤية مضطربة وقلقة تحاول المزاوجة بين المصلحة الأمريكية والمصلحة الإيرانية، ولم يفكر واحد من هؤلاء الموظفين الذين يتقاضون أعلى المرتبات من خزينة العراق، في أن يسدي خدمة منصفة للمجتمع العراقي سواء باقتراح التشريعات الضامنة لحقوق الإنسان والمفضية إلى وقف العنف أو بمراقبة تطبيقاتها، أو بإصدار القوانين الرادعة للأطراف والمليشيات والقوات شبه النظامية والتي كانت تقتل وتهّجر تحت سمع التحالف الشيعي الحاكم، ونظر القوات الأمنية والمسلحة، بل كانت تلك الأجهزة تقدم لمليشيا القتل كل أشكال الدعم والغطاء لتسهيل ارتكابها لجرائمها ومن ثم الانسحاب من مواقع جرائمها بطمأنينة وأمان.


إن تحول مكتب ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، إلى مكتب إحصائي لمعرفة عدد القتلى والجرحى والنازحين والمهجرين، لا يمكن أن يسهم بوقف هذه الرياح السوداء، بل حط من مكانة الأمم المتحدة نفسها وحولها إلى حفّار قبور محترف لا يزيد عمله عن إحصاء عدد الموتى الذين تولى دفنهم ثم يذهب لمشاهدته خزنته وكم جنى من المال.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى