وبقدر تعلق الأمر بالوطن العربي فقد شهد تململا لم يخلُ في أحيان كثيرة من عنفٍ من جانب الحكومات بتشجيع من الدول الكبرى أو بصمتٍ منها، وصار قمع التحرك الشعبي قاعدة أساسية والاستثناء هو الاستماع لصوت الشعب والاستجابة لمطالبه، وفي خضم هذه المعاناة برزت على الساحة حركات وأحزاب سياسية بنفَسٍ جديد وبرامج غير متداولة في الساحة العربية، وكان البعث العربي الاشتراكي في طليعة هذه القوى، وتعززت قوة التصدي للمشاريع الاستعمارية بقيام ثورة 23 تموز/يوليو وصعود التجربة الناصرية التي وضعت في متناول الخطاب الثوري العربي، امكانات الدولة المصرية سياسيا وإعلاميا، حتى عُدّ عقدُ الخمسينيات من القرن الماضي عقدَ الجماهير العربية ففيه أممت مصر قناة السويس وانتصرت على العدوان الثلاثي وهو الذي وفر الفرصة التاريخية لتحقيق وحدة عربية لأول مرة منذ زمن بعيد.
هكذا تعامل المؤرخون مع عقد الخمسينيات على الرغم من أنه ترافق مع سلبيات وإخفاقات جدية طفت على السطح تم التعامل مع بعضها بواقعية ثورية، وأُهمل البعض الآخر وخاصة ما برز بين جناحي حركة التحرر العربي الصاعدة، أي حزب البعث والحركة الناصرية، مما أدى إلى انشطارات عمودية أعمق وأفقية على مستوى المجتمع العربي، ولعل إخفاق تجربة الوحدة المصرية السورية بانفصال عام 1961 وضياع الحلم العربي في توسيع نطاق هذه التجربة القومية، الأثر البالغ في حالة النكوص التي عاشتها الأمة، ولكن انتصار ثورة الشعب اليمني في 26 أيلول/ سبتمبر1962 قبل أقل من سنة على الانفصال على جريمة الانفصال ما أنعش حركة الجماهير العربية مرة أخرى، غير أن الدور السعودي في دعم ولي عهد الإمام السابق محمد البدر وإشغال مصر عسكريا في حرب طاحنة أرهقتها اقتصاديا وعسكريا، مهّد لهزيمة الخامس من حزيران 1967 والتي هزت الوجدان العربي وأجبرتها على إعادة حساباتها من جديد على كثير من الشعارات المرفوعة على مستوى الشارع العربي والبحث عن طريق سالكة للموائمة بين امكانات الأمة وشعاراتها المرفوعة، ومما أثر سلبا على المسيرة القومية رحيل الرئيس جمال عبد الناصر في ذكرى الانفصال التاسعة أي يوم 28 أيلول/سبتمبر 1970.
على العموم تركزت شعارات تلك المرحلة على سلة منتقاة من أهداف الأمة التي طالب بها الشعب في فعاليات مختلفة مثل التظاهرات والتجمعات والاضرابات، لا سيما الجلاء عن الأراضي العربية وتصفية القواعد العسكرية الأجنبية والخروج من الأحلاف العسكرية وتأميم الثروات الوطنية خاصة النفط.
وشهدت المنطقة العربية تطورات سياسية كبيرة وتقلبات دراماتيكية سواء في تحالفاتها الدولية أو الإقليمية أو في توجهاتها السياسية، ولعل الإعصار الذي ضرب الشرق الأوسط والعالم هو وصول خميني إلى الحكم في إيران في 11 شباط/فبراير 1979، ونظرت معه الأمة العربية بنظرات متباينة حد التصادم، وما زال هذا الانقسام في التعاطي مع الظاهرة الخمينية قائما حتى الآن، لأن مستوى الوعي العربي لم يرتق حتى اليوم إلى فهم حجم التحدي الذي يمثله، فبعد أن كان الشاه يريد من الغرب أن ينصًبه شرطيا على منطقة الخليج العربي فقط أو يغض النظر عن طموحاته، أي أنه أراد أن يكون وصيا على قرارها السياسي وممثلا لها في المحافل الدولية، جاء خميني بطموح أكبر من ذلك بكثير وليفرض نفسه بقرار منه لتفويضه شرطيا دوليا تتجاوز طموحاته منطقة الخليج العربي، عبر شعار تصدير الثورة الذي لم يرتق مستوى فهمه لدى كثير من الأوساط العربية إلى ما يستحق من الاحساس بالخطر.
ولم تمض إلا سنة ونيف على ذلك الحدث، إلا وبدأت إيران تتنفس خارج حدودها لتطبق الصفحة الأولى من شعار تصدير الثورة، وذلك بشنّها العدوان على العراق الذي لم يجد بدّاً من الدفاع عن نفسه آخذا بنظر الاعتبار فارق السكان والمساحة الذي يميل لصالح إيران بنسبة 3 إلى 1، وبعد حرب ضروس استمرت ثماني سنوات أجبر العراقيون الإيرانيين على تجرّع كأس السّم عندما وافق خميني على قرار مجلس الأمن الدولي 598، وبذلك حقق العراق ثالث انتصار له على الفرس بعد ذي قار والقادسية الأولى.
بعد الحرب خرج العراق مثقلا بديون كانت هبات في بداية تقديمها للعراق من جانب بعض دول الخليج العربي، ولكن الدوائر الاستعمارية وإسرائيل رأتا في صعود العراق اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا مدعوما بقوة عسكرية مع انتصار ناجز، وإرادة وقدرة ومشروع حضاري متداخل مع عناد عراقي إيجابي على تحدي الصعاب مع وجود قيادة تاريخية تسعى إلى بناء تجربة عربية خالصة، كل ذلك لم يرق للقوى الدولية، فطفقت في وضع الخطط للتخلص من العراق وقيادته، مستندين إلى مشروع سبق لأول رئيس لوزراء إسرائيل (دافيد بن غوريون) الذي وضع بنوده عام 1952، والذي يقضي بتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية في الشمال وسنيّة في الوسط وشيعية في الجنوب، واعتبار ذلك المدخل الجوهري لحماية إسرائيل من الخطر العربي، وبدأت خيوط اللعبة الدولية تلتقي عند نقطة التخلص من النظام الثوري في العراق، وأنيطت مهمة التطويق الأولى بحصار اقتصادي عربي غير معلن عن طريق زيادة انتاج النفط من قبل دولة الإمارات العربية والكويت وإغراق الأسواق العالمية بفائض أدى إلى تدني أسعاره مما أثر بشكل حاد على مداخيل العراق، في الوقت الذي راحت الكويت تلحّ على العراق بتسديد المنح السابقة بعد أن اعتبرتها ديونا واجبة السداد الفوري، ولم تتوقف عند هذا الحد بل ذهبت إلى حد أنها بدأت بالسطو على حقوله النفطية عن طريق السحب الأفقي، حاول العراق بكل ما يمتلك من صبر استراتيجي حل المشكلة مع الكويت ولكن أميرها السابق وبعد ساعات طويلة من الحديث المباشر مع الرئيس الشهيد صدام حسين في جولة حرة بينهما منفردين بالسيارة في شوارع بغداد أثناء مؤتمر القمة العربي الذي عُقد في بغداد عام 1990، لحل مشكلة الحدود المفتعلة، لكن الأمير الذي كان يستبطن شرا للعراق سد أذنيه أمام كل العروض السخية التي قدمها العراق.
وبعد أن لم يبق أمام العراق إلا أضيق الخيارات أضطر لدخول الكويت عسكريا في محاولة لوضع الحل النهائي لأزمة طويلة في منطقة الخليج العربي ظلت تتجدد منذ بداية نشوء الدولة العراقية الوطنية عام 1921 ولم تنته مع انتقام مشيخة الكويت من العراق في الوقت الحاضر.
فجيّشت الولايات المتحدة بضغط من اللوبي الصهيوني في دول الغرب، أكثر من ثلاثين جيشا بأحدث ما أنتجته أمريكا من أسلحة الدمار تحت لافتة إخراج القوات العراقية من الكويت، والتقت مصالح دول الخليج العربي وإيران عند هذه النقطة المركزية، وهي عدم السماح بقيام حكم عربي يستند على قاعدة شعبية عابرة لحدود سايكس بيكو، لأنها ترى في أي نظام يحمل هذا الوصف خطرا أكبر من الخطر الصهيوني أو الخطر الإيراني المندفع بقوة تحت شعار تصدير الثورة، فكما فعلت مع الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله فقد وجدت في مشروع العراق الذي يقوده الشهيد صدام حسين صورة حداثية تستند على قوة اقتصادية ذاتية وقوة عسكرية خرجت لتوها من أعظم امتحان لإرادة قيادتها الصلبة في المطاولة حتى انتزاع النصر من عيون زعماء إيران الدينيين والسياسيين والعسكريين، وبدأ العدوان منتصف عام 1991، وتم ضرب القدرات العسكرية للعراق وامكاناته الاقتصادية وبناه التحتية، ومع ذلك فإن المعتدين لم يكتفوا بذلك بل فرضوا حصارا اقتصاديا جائرا عبر سلة ميكانيكية من قرارات مجلس الأمن الذي كان قد تحول بعد خروج الاتحاد السوفيتي من معادلة التوازن الدولي فاختل لصالح الولايات المتحدة التي باتت مركز الاستقطاب الأحادي الجانب حتى شمل الحصار أقلام الرصاص وحليب الأطفال والمعدات الطبية، ومع ذلك لم تشبع نزعة الانتقام لدى أعداء العراق والأمة العربية، فراحوا يخططون لغزوه بذريعة ضلوعه بالإرهاب الدولي وامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وهذا ما تم في 9 نيسان/ أبريل 2003، ومن مفارقات العبث السياسي بمقدرات الدول المستقلة، أن يوم 9/ 4 /1972 هو يوم التوقيع على معاهدة الصداقة والتعاون بين العراق والاتحاد السوفيتي الراحل، مما يعزز اليقين من أن البلد المذكور لم يف بالتزاماته التعاهدية، وأهم من هذا أن الاعتماد على قوى خارجية لتوفير الحماية، هو خيار عبثي وفاشل جدا، وأن البديل الوحيد لحماية سيادة الدول واستقلالها، هو بناء القوة الذاتية وليس تسولها من الخارج أيا كان هذا الخارج.
يتبع
707
تعليق واحد