وتحت ظل الاحتلال استطاعت إيران أن تمدّ نفوذها في العراق، تارة بدعم أمريكي وتارة بغض نظر عن ذلك التدخل من الجانب الأمريكي، حتى قالت مصادر سياسية ودبلوماسية أمريكية وأوربية، أن أمريكا سلمت العراق لإيران على طبق من ذهب، وحققت لها النصر المستحيل الذي قاتلت ثمانية أعوام من أجل تحقيقه ولم تنجح، تحقق لها هذا النصر على يد الشيطان الأكبر الذي ظلت تعلن أنه عدوّها الأول، من دون تنزف إيران قطرة دم واحدة أو تنفق دولارا واحدا.
بعد نحو سبع عشرة سنة من الاحتلال الرسمي الأمريكي، والإيراني الفعلي، أحكمت إيران سيطرتها على القرار السياسي للعراق لأن أمريكا جاءت بحثالة من المتشردين والأميين والجهلة ونصبّتهم حكاما عليه وبقدر ما أظهروا إخلاصا للولايات المتحدة أثناء تعاملهم معها، كانوا يستبطنون ولاء مذهبيا سياسيا للولي الفقيه ولهذا تلخص برنامجهم بعد الوصول إلى الحكم إلى مصادرة التاريخ والجغرافيا العراقية والغاء العراق ككيان سياسي وإلحاقه بإيران، لهذا تمكنت إيران عن طريق هذه الطبقة الحاكمة من إطباق يدها على مفاصل الاقتصاد العراقي الأساسية وحتى الثانوية، وحاربت قدراته الزراعية والصناعية كي يبقى أسير البضائع الإيرانية الرديئة التي لا تمتلك قدرة على التنافس في غير سوق العراق.
بعد إخراج العراق من منظومة الأمن القومي العربي والتوازن الإقليمي، وغياب منظومة الدولة داخليا، وفقدان سلطة القرار السياسي الوطني، دخل العراق مرحلة انعدام الوزن الشامل وهذا قطعا ما تريده إسرائيل وتركيا وإيران وسوريا ودول الخليج العربي وخاصة المنتجة للنفط منها وحتى دول عربية بعيدة جغرافيا مثل مصر مبارك وليبيا القذافي، لعوامل اقتصادية وتاريخية في غاية التعقيد في أي محاولة لتفكيك أسبابها ومعرفة دوافعها، تحول الأمن القومي العربي لأكثر الدول تحريضا على غزو العراق وتمزيق أوصاله، في مفترق طرق خطير نتيجة التهديد الإيراني المباشر والمتنامي، وبمقابل الوجود الأمريكي المعلن والذي يلاحظه كثير من المراقبين، فإن الدور الإيراني أصبح حقيقة عصية على الاقتلاع، على الرغم من أنه ما ما كان له أن يصل هذا الحد من الخطورة لو أن الولايات المتحدة لجمته مبكرا ووضعت له حدودا لا يخرج عنها، ولكن الغرب عموما والولايات المتحدة خاصة تريد التلويح بالخطر الإيراني كخطر ماثل من أجل أن تبقى منطقة الخليج العربي تحت حمايتها مع كل ما يوفره ذلك ابتزاز أمريكي ومقايضة الأمن بالبترودولار، فبقاء المنطقة في أقصى درجات القلق الجمعي والتأزم والخشية من انهيار الأمن المفاجئ، نتيجة لأية حماقة إيرانية مباغتة، والتي ارتفع سقف وقاحتها نتيجة لما تحقق لها ميدانيا بجهد وكلائها المحليين مثل بسط سيطرتها على أربع عواصم عربية وهذه حقيقة لا يجادل فيها إلا مكابر، أو ما تسعى إلى تحقيقه وهو هدفها النهائي بالوصول إلى الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة كي تستطيع القول إنها باتت تحكم العالم الإسلامي من مركز انطلاق الرسالة المحمدية.
فماذا يمكن أن نطلق على الوجود الحقيقي لإيران في أربع عواصم عربية؟ هل تصح عليها تسمية قواعد عسكرية أجنبية؟ أم هي معسكرات إنسانية كما وصف خامنئي في خطبة الجمعة يوم 17/1/2020 والتي نفى فيها نفيا قاطعا الدور الإرهابي للحرس الثوري ووصفه بأنه منظمة إنسانية.
فبماذا يفرق وجود هذه القواعد عن غيرها من القواعد الأجنبية سواء كانت أمريكية أو بريطانية أو تركية أو فرنسية أو روسية؟
الاحتلال واحد بصرف النظر عن العلم المرفوع فوق معسكراته، وبصرف النظر عن التي يتحدث بها جنودها.
بنظرة سريعة على واقع الجغرافيا السياسية العسكرية، نجد أن القواعد العسكرية القديمة للدول الكبرى ما تزال في أماكنها، بل أضيفت إليها قواعد أخرى ربما تفوقها عددا وتطورا ومساحة وربما تستضيف دول الخليج العربي أكبر قدر من هذه القواعد كما هو الحال في سلطنة عمان وقطر والكويت والبحرين، واللافت أن تركيا التي تستضيف قواعد أمريكية كبرى، باتت تبحث لنفسها عن أراضٍ وسواحل لتقيم فوقها قواعد عسكرية.
إن دولا إقليمية مثل تركيا وإيران، اللتين كانت كل واحدة منهما ذات يوم إمبراطورية مترامية الأطراف، بدأت تحث الخطى من أجل استعادة مجدها القديم بالانتشار على بعض مما كان تحت سيطرتها من الأراضي، وخاصة إيران التي سيطرت على خزائن العراق وثرواته وسخرتها لخدمة مشروعها القومي الطائفي، بدلا من الانفاق من أموالها الخاصة، فأقامت قواعد عسكرية في العراق وسوريا واليمن ولبنان مع لحاظ أن إيران لم تنفق عليها دولارا ولم ترسل مقاتليها إليها ولا أسلحة من قواتها المسلحة أو أرسلتها كهبات لعملائها بل كانت أسلحة مدفوعة الثمن بالأسعار التي يحددها فيلق القدس، وهذه القواعد من طراز جديد تختلف في الشكل والمضمون عن القواعد الأجنبية التي أقامتها الدول الكبرى خارج أراضيها، وهذا النوع من القواعد هو الأكثر خطرا وتهديدا لسلامة الدول وأمنها القومي وسيادتها الوطنية لأن من يشغلها يحملون جنسية البلدان التي تتواجد فوقها ولكنهم ينفذون أجندة بلدان لا تريد لبلدانهم خيرا.
ما فعلته إيران منذ 1982 في لبنان وفي العراق منذ 2003 وفي سوريا منذ 2011 وفي اليمن منذ 2014، ولم يُواجه بردة فعل عربية موحدة ترتقي إلى مستوى الأخطار أو دولية تماهي المطروح من شعارات العداء لإيران، أغرى تركيا بإيقاظ حلمها العثماني من سبات استغرق قرنا من الزمن، ولكن الفرق بينه وبين المشروع الإيراني، أن إيران تستند على قاعدة شعبية عريضة من الشيعة الذين أخضعتهم دولة الولي الفقيه لأكبر حملة تجهيل وتخدير للوعي الجمعي، فجعلت من قبول الولاء لآل البيت رهن بالولاء لإيران والولي الفقيه، واعتبرت مخالفته كفر بواح يُفضي بصاحبه إلى جهنم، أما في الدنيا فهناك حزمة من العقوبات الدينية تبدأ بالإخراج من الملة وقد لا تنتهي عند تحريم الزوجة على المخالف، فمنطق الولاية هو الذي تسخره إيران عبر آلاف من عناصر المليشيات والمنظمات التي أسستها داخل إيران وأرسلتهم كدعاة ومبّلغين للتحرك في أوساط شعبية تعاني من فقر مدقع وتخلف اجتماعي وسياسي، وتمتلك سلطة الحكم في العراق أو في مجتمعات أخرى، في حين أن تركيا لا تمتلك من مثل الأدوات شيئا، ولهذا نراها تتقلب بين خيارات متصادمة، فتذهب حينا إلى لغة المصالح الاقتصادية، وهذا من حقها بل من واجبها ولكن ليس على حساب الغير، وتارة تذهب إلى موضوع الأمن القومي التركي الذي يواجه تحديات جدية من حركات إرهابية وخاصة حزب العمال الكردستاني التركي وامتداداته في سوريا والعراق.
ولأن خيارات تركيا محدودة فقد عادت إلى أساليب الاستعمار القديم بإرسال الجيوش إلى الساحات التي تشعر أن لها مصالح فيها أو أن تلك المصالح تتعرض لتهديد من طرف آخر، ولكن الظرف الراهن ليس كما كان في زمن التوسعات أو الفتوحات، ويمكن أن ننظر إلى الأمر من زاويتين، الأولى أن حرية البلدان في إرسال جنودها إلى خارج حدودها محفوف بمخاطر قد تؤدي إلى سقوط ضحايا وتكبد البلاد خسائر مادية لا طاقة للمجتمع بتحملها في حال الإعلان عنها في زمن لم يعد ممكنا فيه السيطرة على حركة الأخبار، إذ لم يعد بالإمكان إخفاء الخسائر عن الرأي العام بسبب ثورة الاتصالات التي صارت تنقل الأحداث والكوارث الطبيعية والمعارك من ساحة الحرب لحظة بلحظة، والثانية إن التوجهات السياسية (الديمقراطية) التي يطرحها نظام الحكم، لا تتيح له تجاهل ردود فعل الشارع سواء كانت هناك مكاسب وانجازات أو كانت انتكاسات عسكرية أو اقتصادية، ومن أجل تجاوز الآثار السلبية لمثل هذا التدخل المباشر ذهبت أنقرة إلى تجنيد مرتزقة ممن لجأ إلى أراضيها طلبا للأمن ورغيف الخبز، ومن أجل تغطية التكاليف الباهظة لمثل هذه المغامرات فقد وجدت في الدعم المالي القطري ما يحول دون إرهاق الخزينة التركية بأعباء إضافية لحين الوصول إلى مصادر تمويل أخرى.
تركيا أردوغان تجاهد من أجل استقبال عام 2023 بنظرة تفاؤل وتصميم تتمكن فيها من تخطي آثار اتفاقية لوزان التي عُقدت عام 1923، وتظن تركيا أنها ستنطلق إلى عوالم مفتوحة من الرفاهية والازدهار وبناء الدولة الإقليمية الكبرى عسكريا وسياسيا وصناعيا واقتصاديا، ولكن تفكير تركيا يبقى في نطاق الدولة المدنية التي تريد الوصول إلى أهدافها بالوسائل الديمقراطية وهنا تكمن نقطة الاختلاف الرئيسة بين المشروعين التركي والإيراني على الرغم من أنهما ترفعان شعارا إسلاميا الأول سني لا يرتبط بضوابط التقليد التي يعتمدها التشيع والثاني شيعي جعفري اثني عشري كما يزعم والثاني لا مكان فيه لمثل هذه التبعية.
لقد تغير العالم كثيرا، وتحولت دول صغيرة كانت خاضعة لإرادات الدول الكبرى أو جزءً من منظوماتها وتحالفاتها، إلى دول حالمة بتقليد الكبار وإقامة إمبراطورياتها الجديدة، ودول كانت كبرى من الدرجة الأولى تجاوزها الزمن وتراجعت إلى مراتب متأخرة في مجال الناتج القومي، ويلاحظ أن أبرز دولتين تحثان الخطى على طريق تسلق جدران الأزمات الدولية والإقليمية، هما تركيا وإيران، واللافت أنهما تختلفان في كل شيء بدءُ من المصالح الاستراتيجية النهائية إلى المنهاج الديني، فإيران تطرح نفسها ممثلة شرعية ووحيدة لكل شيعة العالم من خلال نظرية ولاية الفقيه، أما تركيا فهي تعتمد مذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت، وإن كانت لا تطرح ذلك صراحة سياسيا وإعلاميا، غير أن تبني تركيا لخط إسلامي قريب من حركة الإخوان المسلمين، إلى حد أن كثيرا من المراقبين ينظرون إلى تركيا كممثل رسمي لتوجهات الحركة، والملاحظ على علاقات تركيا بإيران أنها تمر في أحسن حالاتها ولم تعكرها تصادمات الساحات المختلفة، وخاصة الساحة السورية والساحة العراقية جزئيا، أو الساحة الليبية التي صمتت إيران عن الحديث عنها.
فهل هي عودة للاستعمار القديم بأثواب جديدة؟ أم هي اتفاقات ما تحت الطاولة بين القديم والجديد مع ضمان مصالح القديم من دون انتقاص شيء منها مع عدم وقوف القديم بوجه الجديد؟ ذلك ما سيكشفه قادم السنين، فلننتظر أو لينتظر من سيبقى إلى ذلك الوقت.
737