ظهرت القروض العامة مع ظهور الدولة ، وقيامها بواجباتها التي تتطلب الإنفاق العام. ان الإنفاق العام يهدف الى إشباع الحاجات العامة ، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، فعندما تعجز الدولة عن توفير الأموال اللازمة لإشباع هذه الحاجات من مواردها المتعددة ، ( كالضرائب ، والرسوم ، وغيرها ) ، تلجأ الدولة الى الاقتراض العام.
واختلف الاقتصاديون فيما بينهم ، وظهرت أفكار وآراء تؤيد لجوء الدولة الى القروض العامة وأخرى تعارضها ، فالاقتصاديون التقليديون يعارضون القروض العامة ، أما الاقتصاديون الكنزيون يؤيدون اللجوء الى القروض العامة ، كونها تؤثر إيجابيا في العرض والطلب الكليين في الاقتصاد الوطني.
أرتبط ظهور القروض العامة ، بالعجز المالي التي تعاني منه الدولة ، وبالحاجة المالية المتزايدة ، وذلك لسد النقص المالي الذي تعاني منه الدولة لتمويل برامجها الاقتصادية.
وعلى هذا الأساس يعتبر القرض العام من مصادر الإيرادات العامة للدولة ، وتلجأ الدولة الى هذه الوسيلة ، عندما تصل الضرائب الى حد الاستنفاذ ، بحيث لا تتمكن الدولة الى فرض المزيد منها.
لذا تعتبر القروض العامة أداة رئيسة من أدوات السياسة المالية ، لما تنطوي عليه من تأثير على توزيع العبء المالي العام بين مختلف الفئات ومختلف الأجيال، على مستوى الدخل القومي ونمط توزيعه فضلا عن إسهامها في تمويل الإنفاق العام.
وتعتبر اداة هامة لتحقيق التنسيق بين السياستين المالية والنقدية ، لآثارها الواضحة على كمية النقود المطروحة في التداول.إن آثار القروض العامة تعتمد على عديد من العوامل ، نذكر منها ، مصدر الأموال المقترضة هل هي داخلية أم خارجية ؟ ، بالنسبة للقروض الداخلية يكون مصدر القرض من مدخرات الأفراد أو الشركات أو من الجهاز المصرفي والمؤسسات المالية الاخرى ، مما يؤدي الى خلق قوة شرائية جديدة. أما القرض الخارجي فيكون القرض على شكل مبلغ نقدي يدفع الى الحكومة مباشرة أو قد يكون على شكل مبلغ عيني عن طريق تزويد الدولة المقترضة بقيمة القرض على شكل آلات ومعدات استثمارية. وبذلك فإن آثار القروض العامة تختلف بإختلاف مصدره ، أما العامل الثاني هو كيفية أستخدام القروض ، قد تنفق حصيلة القرض في شراء سلع استهلاكية أو للخدمات العامة أو توجه الى نفقات أستثمارية أو لتمويل الحروب أو لتسديد أعباء قروض سابقة.
والعامل الثالث يتمثل بماهية الشروط المالية للقرض ، هل هذه الشروط سهلة أم شروط صعبة.
والعامل الرابع يتمثل بالحالة الاقتصادية للبلد عند عقد القرض
واستخدام حصيلته فيما لو كان الاقتصاد القومي في حالة عمالة كاملة أو دونها، أو البلد يعاني من الانكماش الاقتصادي ووجود موجات تضخمية.
إن الآثار الاقتصادية تختلف من بلد الى بلد آخر وكذلك تختلف أذا كان القرض داخلي أم خارجي وتعتمد على على العوامل التي تم ذكرها. أما بالنسبة للآثار الاقتصادية للقروض الداخلية ، علينا ان نميز بين الاقتراض من الأفراد والشركات أو من الجهاز المصرفي والمؤسسات المالية الاخرى. في حالة الاقتراض من الأفراد والشركات ، سيؤدي ذلك الى تمويل جزء من مدخراتهم أو أستثماراتهم الى القطاع العام ، بمعنى قيام القطاع العام بمنافسة القطاع الخاص في الحصول على الأموال مما سيؤدي الى رفع سعرالفائدة ثم التأثير على معدل نمو الناتج القومي. وإن آثار هذه القروض تعتمد على طريقة استخدامها سواء كان في تمويل الإنفاق الاستهلاكي أم في تمويل الإنفاق الاستثماري.
وتختلف الآثار الاقتصادية لكل من هذه الاستخدامات ، ففي حالة استخدام القرض العام لتمويل انفاق استهلاكي في مجتمع لم يصل الى مستوى الاستخدام الى وجهازه الانتاجي يتصف بعدم المرونة سيؤدي الى زيادة الطلب الفعّال ولن يقابله زيادة مماثلة في حجم المعروض من السلع والخدمات مما سيؤدي الى ارتفاع مستوى الأسعار والى حدوث التضخم.
أما في حالة أستخدام القروض لتمويل مشروعات تنموية أي انفاق استثماري في مجتمع لم يصل الى مستوى العمالة التامة ويتمتع جهازه الانتاجي بالمرونة يؤدي الى زيادة في تكوين رؤوس الأموال وسيؤدي الى زيادة في الانتاج وبالتالي في الدخل القومي
ومعدل التنمية بالبلد.
أما في حالة الاقتراض من وحدات الجهاز المصرفي والمؤسسات المالية الاخرى ، معنى ذلك خلق قوة شرائية جديدة لم تكن موجودة من قبل. وبالرغم من هذه الزيادة بكمية النقود ستؤدي الى زيادة احتياطيات المصارف التجارية وبالتالي تبدأ المصارف بمجموعة مضاعفات لهذه الزيادة حسب قواعدالنظام المصرفي السائد. لذلك يعارض الاقتصاديون
أن تلجأ الدول النامية الى الاقتراض من الجهاز المصرفي حتى لا تؤدي عدم مرونة الجهاز المصرفي في تلك الدول الى التضخم وما ينتج عن ذلك من آثار سيئة على الاقتصاد، لان التضخم يؤدي الى اعادة توزيع الدخل بما لا يتفق مع العدالة الاجتماعية.
أما بالنسبة للآثار الاقتصادية للقروض الخارجية ، فهي الاخرى تختلف تبعا لطريقة استخدامها ، ففي حالة قيام الدولة باستخدام مبلغ القرض الخارجي لاستيراد سلع استهلاكية ، دون ان ينتج عن ذلك أي زيادة في الطاقة النتاجية
للدولة المقترضة ، هنا ستظهر الآثار السلبة والسيئة على اقتصاد تلك الدول ، والمتمثلة في تحمله عبء تسديد أقساط وفوائد الدين بالنقد الأجنبي.
ولو أنفق القرض العام الخارجي على إقامة مشاريع تنموية عديمة الجدوى الاقتصادية ( كما يحدث الان في العراق ) فبهذه الحالة ستتعرض هذه المشاريع الى خسارة مما يحمل اقتصاد الدولة المقترضة عبء تسديد الاقساط وفوائد القرض اضافة الى عبء تسديد خسارة هذه المشاريع.
أما اذا قامت الدولة في استيراد السلع الرأسمالية اللازمة لمشاريع تنموية اجريت لها دراسات جدوى اقتصادية جيدة من مبلغ القرض ، سيؤدي ذلك الى تكوين رؤوس الأموال وزيادة الطاقة الإنتاجية ، مما يؤدي الى رفع مستوى الدخل القومي ، كما يشجع على انتاج سلع كانت تستورد سابقا ، أو يمكن أن توجه جزء أو كل انتاج هذه المشاريع للتصدير ، مما يوفر عملة اجنبية وبالنتيجة يؤدي الى تحسين ميزان المدفوعات.
أما سلبيات القروض الخارجية فتتمثل ، بأن القروض الخارجية تشكل عبئا حقيقيا بالنسبة لاقتصاد الدولة المقترضة ، أذ يتوجب عليها دفع فوائد وأقساط الدين بالعملة الأجنبية ، مما يتطلب اقتطاع جزء من ثروة البلد ، وهذا سيؤدي الى احداث خلل في ميزان المدفوعات، وخصوصا للدول النامية التي تعاني من شحة العملات الأجنبية.
وكذلك تؤثر هذه القروض الخارجية على سعر صرف عملة الدولة المقترضة عند حلول موعد تسديدها. إن القرض الخارجي يتيح فرصة لتدخل الدولة المقرضة في الشؤون الاقتصادية والسياسية للدولة المقترضة ، واستخدام القرض كوسيلة قوية على الدول المقترضة كي تنتهج نهجا سياسيا معين.
بعد ان اطلعنا على الآثار الاقتصادية للقروض العامة الداخلية والخارجية ، وكيفية انفاق هذه القروض ، هل تنفق بالتجاه الاستهلاكي ام بالاتجاه الاستثماري ، وبينا خطورة صرف مبلغ القروض العامة في الجوانب الاستهلاكية على الاقتصاد الوطني،
وبينا منافع توجيه القروض العامة على تمويل الإنفاق الانتاجي ( الاستثماري ) وأثرها على التنمية الاقتصادية للبلدان.وعند متابعتنا للوضع الاقتصادي في العراق ومنذ سنة ٢٠٠٣ ولحد الان ، وبالأخص بعد الاطلاع على الموازنة العامة للحكومة العراقية لسنة ٢٠٢٠ تبين لدينا ، ان اجمالي العجز المخطط في الموازنة بلغ بنحو ٨١ ترليون دينار عراقي ، أي ما قيمته ٦١ مليار دولار ، وهو يمثل ٥٤ بالمئة من اجمالي الموازنة ، أي اكثر من النصف ، وهي نسبة غير مسبوقة بالدولة العراقية منذ تأسيسها ، بان يكون العجز اكبر من التمويل ، ولهذا العجز أسباب كثيرة ومتراكمة ، أهمها الفساد المالي والاداري ، الذي لا مثيل له ، والذي أدى الى تبديد ثروات العراق وتبديد اكثر من٧٠٠ مليار دولار ، علما ان الواردات المتأتية من بيع النفط الخام في سنوات حكم المالكي كانت بنحو واحد ترليون دولار ، وبقية المبلغ المتبقي ( ٣٠٠ مليار دولار ) تم صرفه على النفقات التشغيلية ، اجور ورواتب وغيرها ، ولم توجه هذه الإيرادات الى الإنفاق الاستثماري ، ومن الأسباب ايضا يعود الى التضخم الحاصل في عدد موظفي الدولة حيث شهد الإنفاق على الرواتب نموا بنحو ٦٠ بالمئة بين عامي ٢٠١٤-٢٠٢٠ ومثلت مدفوعات الرواتب للموظفين والمتقاعدين حوالي ١٢٢ بالمئة من عائدات النفط المتوقعة في عام ٢٠٢٠. وكذلك التضخم في صرف أجور خيالية للمسؤلين في الدولة وأعضاء البرلمان العراقي ، فضلا عن رواتب ( رفحا ) الضخمة والتي كبدت الخزينة مبالغ كبيرة ، اضافة الى المبالغ التي تصرف الى موظفين فضائيين ( اسماء وهمية ) الذين يستنزفون مبالغ ضخمة ، ومن جهة اخرى تم تشكيل منظومة اقتصادية متشعبة بعد عام ٢٠١٤ وهذه المنظومة هي التي ساعدت ايران على التغلغل في معظم مفاصل الدولة ، وتمكنت ايران ومليشياتها من بناء قوة عقارية كبيرة جدا وتمكن حزب الله في لبنان من الحصول على عقود وهمية لتمويل نفسه ، وكذلك أوغلت ايران ومليشياتها في سرقة النفط وتهريب العملات الصعبة ، والاستحواذ على مزاد بيع العملة للبنك المركزي العراقي والذي يعرض يوميا ما بين ١٥٠-٢٠٠ مليون دولار وترسل هذه المبالغ عن طريق بنوك إيرانية الى ايران.
اضافة الى اختراق نظام ال ( كي كارت ) المخصص لدفع الرواتب الحكومية ، عبر زج اسماء موظفين وهميين في النظام الالكتروني للحصول على أموال تبلغ عشرات الملايين شهريا.
وهنالك الكثير من السرقات المعروفة وغير المعروفة ،فضلا عن الاهمال المتعمد للقطاع الصناعي والزراعي وقطاع الخدمات ، مما جعل البلد بلدا مستهلكا فقط ، ويعتمد على استيراداته من ايران حيث بلغ الميزان التجاري بين البلدين خلال هذا العام بنحو ٢٠ مليار دولار لصالح ايران. فالعراق يستورد بنحو ٨٥ بالمئة من احتياجاته من ايران. ذلك كله سبب في زيادة الفجوة الكبيرة بين النفقات الضرورية والإيرادات المتوقعة والتي أدت الى وجود عجز هائل في الموازنة. مما يتطلب الى اتخاذ تدابير جدية لتقليص هذه الفجوة وتوفير التمويل لها.
وكان امام الحكومة العراقية أن تختار بين تنويع مصادر الإيرادات وهي متوفرة ان وجدت الإرادة والاعتماد عليها ، كالظرائب والرسوم وأرباح الوزارات والمؤسسات الحكومية ، والسيطرة على النافذ الحدودية، وتعزز الموارد من تلك المصادر أم تذهب الى الاقتراض.فذهبت السلطة التنفيذية الى خيار القروض ، فبلغ عدد القروض الداخلية والخارجية خمس وثلاثون قرضا. ومن القروض الداخلية ، حوالات الخزينة من البنك المركزي العراقي ، قرض المصرف العراقي للتجارة والتمويل ، قروض المصارف الحكومية ( الرشيد والرافدين والمصرف العراقي للتجارة ) ، ومن اهم القروض الخارجية ، قرض البنك الدولي لتمويل العجز ،قرض صندوق النقد الدولي لتمويل العجز ، والقرض الصيني ، والاقتراض من بنوك اجنبية ، وغيرها.
ويلاحظ من ذلك ، ان الحكومة في العراق سائرة بإتجاه أغراق البلاد بالقروض ، وبالأخص الخارجية منها ، وما لها من آثار اقتصادية سلبية على الاقتصاد العراقي ، وبالأخص اذا تم استخدام القروض الخارجية لاستيراد سلع استهلاكية من دون ان ينتج عن ذلك زيادة في الطاقة الإنتاجية للبلد.
والذي يقلقنا فعلا ان مبالغ هذه القروض قد تسرق هي الاخرى وتحول الى ايران واذرعها في المنطقة دون استخدامها ، لا في المجال الاستهلاكي ولا الانتاجي ،ولا يستغرب من ذلك بسبب تفشي الفساد المالي والاداري الخطير في العراق ، وهيمنة المليشيات الإيرانية على القرار الاقتصادي.
وفِي إطار هذه السياسات المالية والنقدية في البلد والتي تتميز بغياب الرؤية والتخطيط المالي والاقتصادي ، وعدم إمكانية الحكومة لمعالجة العجز المالي الذي تعاني منه ، والاصرار على استخدام سياسة الاقتراض وعدم الاكتراث الى مخاطرها على الامد المتوسط والطويل ، وكما ذكرناه سابقا ، فإن الوضع المالي في العراق سيكون خطير جدا مع استمرار تدهور أسعار النفط ، واستمرار جائحة كورونا ، ستعجز الحكومة من دفع مستحقات الشعب ، من رواتب واجور وتوفير مستلزمات الحياة الطبيعية ، وستعجز الحكومة من دفع اقساط القروض وفوائدها ، مما يجعلنا نتوقع انهيار اقتصادي مخيف يدمر كل شيء.