يبدو ان الكتل والأحزاب والمليشيات المسلحة الحاكمة، قد بدأت من الآن التحضير للفوز في الانتخابات القادمة. فهي بحاجة، على ما يبدو، الى مزيد من الوقت لتزين وجوهها القبيحة، وتبرئة نفسها من الجرائم التي ارتكبتها، وأموال الحرام التي جنتها، والبلاد التي دمرتها. فبالاضافة الى استحضار كافة الوسائل، سواء المتعلقة بالترهيب او الترغيب أو شراء الذمم وتوزيع الرشاوى على الصحفيين والاقلام الماجورة، فاننا لا نستبعد لجوء هؤلاء الاشرار الى توظيف الدم العراقي للفوز في هذه الانتخابات.
فمقعد واحد في البرلمان يجعل من الفقير المعدم مليونيرا، أو مليارديرا بغمضة عين. ودعكم من الأكاذيب التي يروجون لها، حول الإصلاح ومحاربة الفساد والسرقات وحصر السلاح بيد الدولة واستعادة هيبتها، فهذه بمجموعها قد سقطت، او لم تعد مجدية لخداع الناس. على الرغم من تعلقهم بقشة للخلاص من المحنة الخانقة. في حين تتميز الانتخابات في النظم الديمقراطية، بالتنافس السلمي والحضاري، وعرض كل مرشح برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتحقيق مزيد من التقدم والحرية والرخاء لبلدانهم وشعوبهم.
الجديد في هذه الانتخابات، هو تمرد مقتدى على حلفاء الأمس من الاحزاب الطائفية، وسعيه للفوز بالانتخابات باغلبية تمكنه من تشكيل حكومة صدرية، يحقق من خلالها أوهامه المريضة بقيادة “البيت الشيعي” وقيادة العراق دفعة واحدة. وهذا ما يفسر نشاطه المحموم وتغريداته المؤيدة للانتخابات المبكرة، ومطالبة الناس الاشتراك فيها بقوة. متناسيا قسمه القاطع بعدم الدخول في أية انتخابات أو سلطة حكومية، على عكس الأحزاب والكتل الاخرى التي تحاول تأجيلها بكل الطرق والوسائل. بل ذهب ابعد من ذلك، حيث خاطب ثوار تشرين، الذي قتلهم بالأمس القريب، بلغة ودية اعترف فيها بمشروعية ثورتهم ضد الفساد ومطالبتهم بالوقوف الى جانبه!!!.
ومما يعزز ثقة مقتدى بنفسه، حصوله على دعم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الذي يامل بتمثيل مقتدى في رئاسة الحكومة الجديدة، وحصوله أيضا على دعم دول خليجية، وعلى رأسها السعودية، ظنا منها بان التيار الصدري، تيار عروبي ومعتدل، لا يكن لهم ولا “للمكون السني” العداء، الذي تكنه الاحزاب الطائفية الولائية.
لكن مقتدى، تجاهل حقيقة موقعه الراهن في الساحة العراقية. ومحدودية قدرته على الفوز في اغلبية ساحقة. فهو قد فقد، وخاصة في الاونة الاخيرة، تاييد فئات واسعة من المخدوعين والفقراء المعدمين، الذين يشكلون عماد تياره السيء الصيت والسمعة، جراء إصراره على دعم العملية السياسية وحمايتها من كل مكروه.
اضافة الى تقلباته ونزقه ورعونته وتناقض تصريحاته. اما ثورة تشرين الذي تطوع مقتدى لانهائها بقوة السلاح، فان ابنائها لن يخدعوا به، او بغيره ممن شارك في العملية السياسية. خاصة وان الانتخابات المبكرة التي طالبوا بها، لم تستوف الشروط التي تمكن الناخب من إيصال الشخص المناسب الى البرلمان، وليس الشخص الذي يختاره الحزب او الكتلة المتنفذه.
ومن هذه الشروط، وجود حكومة وطنية مستقلة، وليست حكومة محاصصة طائفية كحكومة الكاظمي، وقانون جديد للانتخابات، وليس إجراء تعديلات شكلية عليه، وقانون للاحزاب يجرم كل حزب طائفي او عنصري او موالي للاجنبي، او شارك في العملية السياسية منذ 2003. بل ان ثوار تشرين اعتبروا، ان مقاطعة الانتخابات تسهل مهمتهم لطرد هؤلاء الحرامية والفاسدين، واسقاط العملية السياسية. او على الاقل نزع شرعية وجودهم في سدة الحكم.
اما الذين يعتقدون بان مقتدى جاد هذه المرة فيما يقول، ويطالبون بمنحه فرصة جديدة، نذكرهم بسجله الأسود في هذا الخصوص بالذات. فهو قد تخلى عن كل وعوده الانتخابية بالإصلاح ومحاربة الفساد والمحاصصة الطائفية.
ولكي لا نغوص في هذا السجل الاسود، نكتفي بكذبته بعد تشكيل تحالفه الانتخابي عام 2018، المسمى سائرون، وتعهده بتنفيذ برنامجه الذي يجعل من العراق جنة عدن. فبمجرد فوزه في الانتخابات تخلى عن هذا البرنامج جملة وتفصيلا، وراح يعقد التحالفات مع حيتان الفساد والمحاصصة الطائفية مثل، هادي العامري وعمار الحكيم وقيس الخزعلي، لينتهي الى موافقته على تسليم السلطة الى عادل عبد المهدي، الرجل الذي اتفق عليه الايراني قاسم سليماني والسفير الامريكي في بغداد، مقابل منحه حصة كبيرة في الحكومة والمناصب المهمة والدرجات الخاصة. بل سعى مقتدى في تلك الفترة الى محاربة كل جهة وقفت ضد الحكومة، او حاولت المساس بالعملية السياسية، وخير دليل على ذلك تطوعه بإنهاء ثورة تشرين بقوة سلاح عصاباته المجرمة، لأنها طالبت بالإصلاح.
دعونا نغير الاتجاه قليلا، ونفترض بان مقتدى فاز بالاغلبية وشكل حكومة صدرية، ترى هل سيسمح له الاخرون التفرد بقيادة البيت الشيعي والسلطة معا وبالتالي نيله حصة الأسد ورمي الفضلات لهم؟ ام انهم سيجبروه على العودة إلى بيت الطاعة والاكتفاء بحصته من مغانم عملية الاحتلال السياسية؟
لسنا في عجلة من امرنا إذا قلنا بأن ما ذهب اليه مقتدى، يدخل في خانة الاوهام المريضة، وانه سيفيق منها حتما. فزعامة البيت الشيعي وقيادة العراق دفعة واحدة، يتطلب منه الدخول في حرب ضد المليشيات المسلحة وضد إيران، التي يخشاها مقتدى وترتعد فرائصه منها ومن ولي فقيها علي خامنئي .
واذا تجاهل مقتدى هذه الصعوبات او حاول نسيانها، فإنه ليس بمقدوره نسيان صولة الفرسان، الذي قام بها نوري المالكي لوحده وولى هاربا امامها، ولازال الالوف من أتباعه يقبعون في السجون والمعتقلات. خاصة وان المليشيات المسلحة في الوقت الحالي، قد فاقت قوتها جيش المالكي حينها. من حيث العدة والعتاد، و امتلاكها لأسلحة حديثة ومتطورة ومدفعية ثقيلة وصواريخ أرض أرض وطائرات مسيرة.
أما حلفائه الجدد، مصطفى الكاظمي ودول الخليج العربي، وعلى رأسها السعودية، فإنهم سيقفون متفرجين بانتظار انجلاء غبار المعركة. فتورط الاحزاب الحاكمه ومليشياتها المسلحة بحرب فيما بينها، يعد عز الطلب بالنسبة للحلفاء الجدد لأسباب معروفة.
بالمقابل، فان العراق ما يزال يرزح تحت الاحتلال الامريكي ووصيفه الايراني، وكلاهما لن يسمح لمقتدى او غيره المساس بنظام المحاصصة الطائفية والتفرد بالسلطة. بل ان امريكا وايران لن تسمحا بتهميش دور الأطراف الاخرى في العملية السياسية، وخاصة تلك المدعومة بالمليشيات المسلحة.
فوجود هذه الاحزاب والمليشيات، هي الضمانة الوحيدة لمواصلة سياسة الفوضى الخلاقة، التي اعتمدتها أمريكا، كأساس لتنفيذ مخطط تدمير العراق الذي لم يكتمل بعد. يضاف الى ذلك، فان جوهر المشكلة التي يعاني منها العراق وشعبه، لا تكمن ابدا في تغيير حكومة باخرى، ولا بفوز هذه القائمة او تلك، او تكمن في حكومة اغلبية او حكومة توافقية. وإنما تكمن أساسا، في النظام السياسي المبني على قواعد المحاصصة الطائفية والعرقية والمليشيات المسلحة والعصابات الارهابية والفساد والرشوة والسرقة والقتل والتهجير.
وهذه المساوئ جميعا محمية بدستور دائم لا يمكن تعديل مادة واحدة فيه. الأمر الذي يضع القادم الجديد، أمام خيارين، إما القبول بالامر الواقع، او مواجهة مصيره الاسود.
بمعنى آخر لو جاءت حكومة من صفوة القوم، ومن خيرة علمائها، وتتمتع بكل صفات الوطنية والنزاهة، لن تتمكن من إصلاح العملية السياسية من داخلها، في ظل المواصفات التي تحدثنا عنها قبل قليل، وإنما ستنحني امامها، او تقدم استقالتها لتجنب نتائج لا تحمد عقباها.
لكي لا نطيل اكثر، فان مقتدى الصدر كذبة كبرى بامتياز، وكل ما يشغله ان يكون القائد الاوحد للعراق يتحكم بشؤونه كما يشاء. أما شعاراته حول الإصلاح ومحاربة الطائفية، والفساد والمفسدين، او الوقوف ضد تدخلات ايران السافرة في العراق، فهذه، ليست سوى شعارات يدغدغ فيها عواطف الناس لتحقيق اوهامه المريضة، او “عدة الشغل” كما يقول العراقيون.
في حين أن حديثه عن اهمية الانتخابات القادمة، وضرورة الاشتراك فيها كطريق لخلاص العراقيين من محنتهم الخانقة، فان مقتدى يعلم اكثر من غيره، بانها لن تكون سوى نسخة طبق الأصل من الانتخابات التي سبقت، وبالتالي، وهنا بيت القصيد ومربط الفرس، فان الحل الوحيد للاصلاح وتخليص العراق من محنته، يتمثل في اسقاط العملية السياسية برمتها، على يد ثورة تشرين العظيمة. الامر الذي يحتم علينا، الوقوف ضد هذه الانتخابات ودعوة الناس لمقاطعتها، وتشجيعهم بالمقابل على الاشتراك بثورة تشرين، لتمكينها من تحقيق أهدافها كاملة غير منقوصة، وفي مقدمتها اسقاط العملية السياسية برمتها، وتشكيل حكومة وطنية مستقلة، تاخذ على عاتقها بناء العراق الجديد فعلا.
وبعكس ذلك، فان الاشتراك في الانتخابات او المراهنة عليها، ستمنح الشرعية لهؤلاء الاشرار الذين سيفوزون حتما في الانتخابات، لما يمتلكونه من سلطة ومال وسلاح، اضافة الى دعم المرجعيات الدينية، وبالذات من المرجع الاعلى محمد علي السيستاني.