التخلف الحضاري في العراق

ا. د. محمد طاقة

مشكلة التخلف الحضاري تظهر، بنحو جلي، في دول العالم الثالث وهي أخطر ما تعاني منه هذه الدول من مشكلات لتأثيرها المباشر وغير المباشر على التنمية الاقتصادية والاجتماعية بصفة خاصة.
والتخلف يعني عدم اللحاق بالتطورات الجديدة وفِي مناحي الحياة كافة، التي من المفترض أن تقود المجتمع إلى وضع أفضل.
ويعني ذلك النقص في الإمكانيات المادية والمعنوية لدى المجتمعات. ومن أهم مظاهر التخلف تلك الموجودة في قيمنا وواقعنا الاجتماعي الحالي، وهي التركيز على الفردية والعشائرية والقبلية والطائفية والإثنية المتأصلة في نفوسنا. وأكدت التعصب والولاء لها، ووجود حالة النفاق الاجتماعي المتركزة في نفوس الكثير من مجتمعنا.
وتلك السلبيات كلها توارثناها عن طريق الحكومات الجائرة والظالمة وكذلك الاستعمار، الذي مارس الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية كلها وأشاع الفقر والجهل والمرض بحيث لم تتمكن مجتمعاتنا من التخلص من تلك السلبيات بسبب استحواذ الحكام على السلطة وعلى مقدرات شعوبنا. وكانت الحياة في ظل تلك الحكومات تتميز بالمهانة والجهالة والحقارة والمذلة مستحوذة على الكثير من الناس، وكانت هذه السلبيات كلها وليدة الذل والظلم الاجتماعي، الذي مارسته حكومات الاحتلال في المنطقة.
وبمرور الزمن تراكم العديد من السلبيات والتصرفات الاجتماعية
وبعض من العادات والتقاليد البالية، التي ترسخت في عقول الناس وتناقلوها أباً عن جد ولا يستطيعون التخلص منها، بل على العكس يقاتلون من أجل ممارستها.
إن التخلف حالة حضارية ثقافية تضرب المجتمع لأسباب كثيرة أهمها الغزو الخارجي، وكل إنسان يتأخر عن الآخرين تطلق عليه صفة المتخلف.
هناك أنواع كثيرة من التخلف، مثل التخلف الاقتصادي والصناعي والزراعي والصحي والتخلف الاجتماعي وهو التزمت للعادات والتقاليد البالية، وهنالك التخلف العقلي والفكري والعلمي والتكنولوجي وغيره.
بعد استعمار الغرب دول الشرق ترك هذا الاستعمار آثاراً كبيرة على المستوى الديني والثقافي والسياسي والاقتصادي والفلسفي والاجتماعي، مما أدى الى تقسيم المجتمعات متشبثين بالتراث والتأريخ والأصول، وراغبين بالتطور والتجديد، أي المحدثون حتى يومنا هذا، وسبب التخلف عند المحدثين راجع إلى اللاعلمية واللاعقلانية عند الأصوليين في تفهم لعملية التطور والتجديد والإبداع والتغيير وصولاً إلى الحداثة.
نحن نعني بتخلف الشعب تأخره عن الآخرين وتجاوز الأمم الأخرى له في مضمار الحضارة.
أن التخلف الحضاري في العراق، شأنه شأن الكثير من الدول المتخلفة، ولكن بعد تأميم النفط العراقي تمكن العراق من خلق تنمية اقتصادية اجتماعية تمكن من خلالها القضاء على الكثير من مظاهر التخلف وفِي المجالات العلمية والتقنية والثقافية والاقتصادية كافة، وقد نهض العراق بالنحو الذي كاد أن يخرج عن إطار الدول المتخلفة.
وبسبب العوامل الخارجية ومجيء قوات الغزو الامريكي الهمجي والفارسي الحاقد والمتخلف تقهقر المجتمع العراقي المدني باتجاه الاعراف والتقاليد المتخلفة المبنية على الحقد والكراهية والقتل والتدمير والسرقة والتضليل والكذب.
أن مشكلة التخلف لم تتم معالجتها، بنحو علمي وشمولي، ولم تتم معالجة الخلل الحاد في التركيبة الحضارية والمتمثلة بالإنسان والمجتمع من حيث الزمان والمكان والعمل والعلم.
إن إشاعة التخلف الحضاري في البلد يشكل خطراً كبيراً جداً ويعمل على أعاقة عملية التنمية، مستهدفاً القيم الحضارية والأخلاقية وموهناً إنتاجية العمل داخل المجتمع، وهو ما يتولد عنه أنواع عديدة من التخلف.
أن تعقد المشكلات الاجتماعية بسبب الغزو الأمريكي الإيراني الصهيوني داخل البيئة العراقية وتفاقمها طوال السنوات الماضية، ومنذ العام ٢٠٠٣، ولحد اليوم، إنما نتج عن الكوارث الاقتصادية، التي خلفتها حكومات الاحتلال، ومنها تبديد الثروات وسوء استغلالها، بل سرقتها وكذلك سوء استغلال قوة العمل العراقية المتوفرة والعاطلة عن العمل وبسبب الاختلالات الهيكلية للاقتصاد العراقي والتبعية المطلقة إلى ايران.
لقد أسهمت هذه المشكلات بصفة أو بأخرى في تردي الوضع المعيشي للمواطنين وانتشار ظاهرة الفقر والبطالة وزيادة عديد السكان مما أثر على مستواهم الفكري والثقافي وأصبح كل همهم الحصول على لقمة العيش وعلى مسكن يأويهم، وانتشرت الأوبئة والأمراض المعدية بينهم.
في العراق، مثلاً، ينشأ الفرد، منذ صغره، على التعصب لمسقط رأسه والبيت، الذي ولد فيه ومكان سكنه ومحلته ومدينته وعشيرته، التي ينتمي إليها وعائلته، وعندما يكبر، يكبر معه التمسك بالعادات والتقاليد، التي ترعرع في كنفها وعندما يتبوأ منصباً كبيراً في الدولة تراه لا يتمكن من التخلص من تأثير تلك القيم الراسخة في أعماقه.
بالتأكيد، ليست القيم والعادات والتقاليد كلها تلعب دوراً سلبياً وعلينا أن نفرز بين العادات والتقاليد الإيجابية، والتي نعتز بها وتدعم التطور الحضاري وتشجعنا على العمل وزيادة الإنتاجية وتشجعنا على الإبداع والابتكار والتجديد والتي نعتز بها لأنها تدعم التطور الحضاري، وبين تلك العادات والتقاليد، التي تلعب دوراً سلبياً وتدعو إلى الكسل والاتكال على الآخرين وتعيق عملية التطور الحضاري، والتي ينبغي علينا أن نجهد من أجل تجاوزها.
من هذه العادات السلبية، على سبيل المثال لا الحصر، الأخذ بالثأر، والفصل العشائري، التي تنقص من هيبة الدولة والقضاء والقانون. وهناك المئات من العادات والتقاليد، التي علينا تجاوزها كونها مقيدة للتطور الحضاري والتجديد والابتكار وصولا إلى الحداثة.
وكنتيجة للفقر والقهر والذل، الذي عاشته أكثرية الشعب العراقي ومنذ العام ٢٠٠٣ بحيث تأثرت الشخصية العراقية وبالأخص في المناطق الأكثر فقراً واتصفت هذه الشخصية بالازدواجية، وتعدد الولاءات ومنها ولاؤها للقومية تارة وإلى المذهب، تارة اخرى، وبهذه الحالة ضاع الولاء للوطن.
كما تعاني هذه الشخصية من الكثير من العقد المركبة، التي تؤثر على السلوك العام داخل المجتمع والمتمثلة بعقدة الجاه وعقدة الجنس وعقدة الشكل والمال والشهادة وغيرها.
فعندما تتجمع هذه العقد جميعها عند الكثير من الأشخاص ستنعكس على سلوكهم عندما يكونون في موقع المسؤولية أو في أي موقع سيعكسون جل عقدهم على الآخرين وسيؤثرون، بنحو مباشر أو غير مباشر، على تعقيد الآخرين وسيؤدي ذلك إلى تعطيل حركة المجتمع، وانخفاض انتاجيته.
هذا فضلاً عن الكثير من السلبيات الاجتماعية، التي أصبحت ملازمة للشخصية العراقية كالنميمة والحسد والنفاق والكذب والسرقة والرشوة وغيرها.
وهذه السلبيات كلها تعمقت بسبب ظروف الاحتلال وحكومات الاحتلال خلال السبعة عشر سنة المنصرمة.
ما ذكرناه موجود في المجتمع العراقي، اليوم، ولكن بنِسَب متفاوتة ويختلف من منطقة الى أخرى ومن محافظة الى أخرى.
لا ننكر أن هذه السلبيات كانت موجودة في المجتمع العراقي، ولكنها لم تكن واضحة أو ملموسة، غير أنها باتت تمثل، بعد الاحتلال في العام ٢٠٠٣، ظاهرة خطيرة شلت حركة المجتمع وجعلته متخلفا الى درجة خطيرة جدا.
كما أن المشكلة العشائرية والتطرف العشائري أصبح سائداً في المجتمع العراقي بسبب غياب دور الدولة وغياب سلطة القانون.
ولا ننسى الموقف المتخلف من المرأة والنظرة الدونية إلبها وسلب حقوقها المشروعة في العيش والعمل، فعلى سبيل المثال ممارسة النهوة العشائرية والزواج المتقابل، المسمى محلياً (كصه بكصه) وغيرها من العادات، التي تقيد المرأة وتفقدها حريتها.
إن على المجتمع، إذا أراد أن يرتقي في مضمار التطور الحضاري، أن يقف بالضد من هذه الممارسات العشائرية المتخلفة، وأن لا يسمح لمثل هؤلاء المتخلفين أن يتبوأوا أي موقع من مواقع المسؤولية في الدولة أو في قيادة الأحزاب السياسية والنشاطات الفكرية الاخرى.
إن هؤلاء المتخلفين يحملون عقداً اجتماعية كثيرة فهم يحسدون ويحاربون الذين يتفوقون عليهم بالعلم والمعرفة والتحضر لكونهم يفتقدون الأساليب العلمية والمنطقية فيحاولون الانتقاص من العلماء والمفكرين والاُدباء والمثقفين، بشتى الوسائل المتخلفة كأن يقولون (هذا شايف نفسه) أو (هذا متكبر) أو (هذا مغرور) وغيرها من الاوصاف، التي تفتقد الى المنطق والتقييم العلمي ويعملون على محاربتهم بالوسائل كلها، في محاولة لتسقيطهم اجتماعياً.
إن هذه العقد من المتفوقين أدت الى أن يترك الكثير من العلماء والمثقفين البلد ويهاجروا، أو في الأقل لم يأخذوا استحقاقهم في المجتمع.
فبعد احتلال قوات الغزو الامريكية العراق في العام ٢٠٠٣ تم تدمير البلد تدميراً شاملاً اجتماعياً واقتصادياً وتقنياً وعلمياً وإعادته إلى عصر ما قبل الصناعة، مما نتج عنه، مثلاً، أن المرضى العراقيين أخذوا يقصدون بلدان العالم للاستطباب فيها من أمراضهم، بعد أن كان المرضى من أنحاء العالم يقصدون العراق للاستطباب فيه من أمراضهم، للسمعة الطيبة التي كانت تتمتع بها المؤسسات الصحية والأطباء العراقيون، بل حتى الأدوية المصنعة في العراق، وقس على ذلك في مجالات التعليم والهندسة والصناعات وغيرها.
وتم استهداف النسيج الاجتماعي والسيكولوجي وتدمير التطور الحضاري للبلد، الذي أنجز، خلال المدة من ١٩٦٨، وحتى العام ٢٠٠٣ بحيث اتسعت الهوة الحضارية بينه وبين الدول المتقدمة فعادت نسبة الأمية لترتفع في البلاد التي أعلنت نظافة العراق منها ابان الحكم الوطني، فقد دمر المحتلون والحكومات التي فرضوها المؤسسات التعليمية وأحرقوا ودمروا الكثير من مكتبات الجامعات والكليات ومختبراتها وكذلك المكتبة المركزية، فضلاً عن تدهور المناهج التعليمية، وتداول الشهادات المزورة ومنح الشهادات، بنحو عشوائي، بعد أن كان مستوى التعليم في العراق ابان الحكم الوطني من أفضل المستويات في المنطقة. وتم تدمير الزراعة والصناعة وقطاع الخدمات ونشر الفساد المالي والاداري والاخلاقي في المجتمع، وقد خلق ذلك كله حالة خطيرة من التخلف الثقافي والعلمي والاجتماعي والسياسي والتقني، بحيث أصبح المجتمع يعاني بنحو خطير من التخلف الحضاري.
وما أسهم في تعميق التخلف وإشاعته ليس قوات الاحتلال الغازية وحكومات الاحتلال المتعاقبة على حكم العراق فقط، وإنما المؤسسات الدينية وأحزاب الاسلام السياسي المتخلفة، التي تعاقبت على حكم العراق منذ العام ٢٠٠٣ وإلى هذا يومنا هذا.
استخدمت هذه الأحزاب والمؤسسات الدينية ورجالاتها الشعائر الدينية الطائفية لنشر التخلف وكان من نتائج ذلك أسلمة التخلف بدلا من القضاء عليه وظهرت عادات وتقاليد جديدة باسم الاسلام والشعائر الإسلامية وهي لا تمت إلى الإسلام بصلة، وصدرت عن رموز دينية فتاوى تبيح سرقة أموال الدولة، ونشر عادات وتقاليد غير مطروقة في المجتمع كالفساد الاخلاقي بأنواعه كلها وفتح مكاتب لزواج المتعة وانتشار ظاهرة المخدرات.
ذلك كله يحدث بعلم وتوجيه من هذه المؤسسات الدينية ورجال الدين الفاسدين والمتخلفين وبتوجيه من ملالي إيران.
إن جميع هذه المؤسسات الدينية والأحزاب الإسلامية مارست التجارة بالدين ومارست الشعوذة والدجل والكذب والموبقات كلها حتى التي لا تخطر على البال.
وفككت هذه الممارسات المجتمع أخلاقيا وعم التخلف بأنواعه كلها في العراق، فأصبح التخلف الحضاري سمة من سمات العراق وشعبه وأصبح العراق ضمن أول ثلاثة دول في العالم في الفساد المالي والاداري والاخلاقي.
إن التخلف الحضاري في العراق يمثل أخطر آفة اجتماعية واقتصادية دمرت البلد وأعادته الى عصر ما قبل الصناعة بفعل هؤلاء المتخلفين، الذين سلطهم الاحتلال على العراق وشعبه.
إن التخلف الحضاري عدو التنمية وعدو التجديد والتطور والإبداع وهو يعمل على زيادة الفجوة الحضارية وعدم تمكين البلد من مواكبة التطور الحضاري، الذي وصل إليه العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى