لأول مرة يتحكم العالم في نتائج الانتخابات الرئاسية الامريكية ، ويقوم بتحديد وتثبيت من هو الفائز فيها ، قبل ان تصادق عليها المؤسسات الدستورية الامريكية ، في استباق لعدم تغير النتائج في الاتجاه غير المرغوب فيه .
ترامب الذي كان قد فاز في انتخابات 2016 ، خارج حسابات الدولة العميقة في الولايات المتحدة ، عُدّ ظاهرة مؤقتة وعابرة ، ولذا فقد وقفت هذه الدولة ضد سياساته ، وحاولت تشويه صورته والتقليل من شأنه ، بأنتظار إزاحته في انتخابات 2020 .
وفي هذه الانتخابات نزلت الدولة العميقة بكل ثقلها لمحاربة ترامب ، وجندت ، منذ البداية ، كل وسائل الاعلام الامريكية ( صحافة ، تلفزيون وغيرها ..) ضده . بما في ذلك وسائل إعلام محسوبة على الحزب الجمهوري . ترامب كان يقاتل وحده ، ومن صوّت له ، كان على قناعة بشعاراته شخصياً ، وليس بسياسات الحزب الجمهوري .
ومنذ اكثر من عقدين من الزمن كانت الولايات المتحدة تخدم مصالح دولية عديدة في اطار العولمة ، وفي بعض الاحيان على حساب مصالحها . واوشكت في فترة ولايتي اوباما ان تفقد مركز القوة العظمى سياسياً ( وليس عسكرياً ) لصالح قوى دولية اخرى مثل الصين وروسيا وحتى ايران وغيرها . ومن هنا كان رد الفعل الامريكي بأنتخاب ترامب 2016 الذي أعاد للمصالح الامريكية الأولوية على كل شيء . وبالطبع لم يكن ذلك محل رضا من قبل المصالح الدولية الاخرى ، ولاسيما المصالح الاوروبية والصينية والايرانية والاسلام السياسي وغيرها ..
لقد كان ترامب يمثل اليمين الصاعد في الولايات المتحدة ، بكل انعكاساته المهددة على الصعيدين الاوروبي والدولي ، وما يسمى بتيار العولمة . وهذا من شأنه ان يعود بالولايات المتحدة الى مفهوم الدولة الوطنية التي تضع مصالحها المباشرة فوق اي اعتبار ، ولا تعود تقدم خدمات مجانية لدول اخرى ليس بأمكانها تقديم منافع بديلة للولايات المتحدة .
ولم يكن اختيار القوى الدولية لبايدن رئيساً للولايات المتحدة ، والدفع به ليكون مرشحاً عن الحزب الديمقراطي الامريكي ، الاّ لصفات سلبية في شخصه ، فهو العجوز والضعيف الذي يعاني من عدم التركيز ، والمرتبط طول حياته بالدولة العميقة . وهذا ما سيعيد الولايات المتحدة الى خدمة مصالح دولية على حساب مصالحها الوطنية ، ولكي تستأنف من جديد مسيرة التراجع التي كان قد بدأها اوباما ، ذلك لأن مصالح الدولة العميقة تتجاوز الولايات المتحدة وترتبط بمصالح دولية عديدة ، والاولوية لديها لمصالحها وليس للمصالح الامريكية .
إن المصالح التي تقف وراء بايدن ، عدّت الانتخابات الرئاسية الامريكية الحالية معركة حياة او موت ، لابد من كسبها بأي ثمن ، وحتى بالتزوير ! . فليس هناك من خيار غير الفوز بها . ولهذا عملت على اسكات اي صوت مناصر لترامب ، او محتج على التزوير ، وخلقت رأياً عاماً دولياً بنزاهة الانتخابات ، وضرورة القبول بنتائجها لصالح بايدن . ووصل الامر بإدارات تويتر والفيس بوك ، الخاضعة لهيمنة الدولة العميقة ، أن تغلق حسابات شخصية مؤيدة لترامب أو محتجة على التزوير .
وعلى الرغم من مما قدمه ترامب ليهود امريكا وإسرائيل من مكاسب ضخمة ، فإن ثلاثة ارباع اصواتهم ذهبت لصالح بايدن ، ذلك لأن مصالح اليهود ترتبط تاريخياً بالدولة العميقة ، والمصالح عند اليهود تغلب على العواطف . والمفارقة هي ان مسلمي الولاات المتحدة صوتوا بنسبة اكبر من اليهود لصالح ترامب الذي لديه مواقف معادية للاسلام السياسي .
لقد صوّت اكثر من 70 مليون امريكي لصالح ترامب ، واظهروا حماسة شديدة لسياساته وشعاراته ، في الوقت الذي ذهب فيه شطر من الجمهوريين للتصويت ضده ومع بايدن ! . ولم يظهر الحزب الجمهوري كداعم قوي له . وكان خلال فترة ولايته الماضية يلاقي الصعوبات من الجمهوريين ، ومن البنتاغون وال CIA ، ذلك لأن الدولة العميقة تفرض ظلها في كل مكان متجاوزة الاطر الحزبية .
الولايات المتحدة ، مع بايدن ، ستدشن فترة أوبامية ثانية ، وسنقرأ من جديد تلك التنظيرات التي ترى قرب أفول العصر الامريكي ، وسط دعوات الولي الفقيه وتهليل ميليشياته التي كانت سخية في دعم حملة بايدن الانتخابية ، مع ملاحظة مشاعر الراحة النفسية في اوروبا والصين.
وإذا كانت الانتخابات الامريكية قد كشفت عن انقسام حاد وعميق في المجتمع الامريكي ، رُفعت من خلاله شعارات خاصة بجمهور ترامب ، تلك الشعارات التي توحي في مضامينها الى رفض الامريكيين لتراجع بلادهم الى دولة تابعة لمصالح دولية بدل ان تكون قائدة للمجتمع الدولي ، وهو ما كنت عليه خلال قرن مضى .
إن انقسام المجتمع السياسي الامريكي الى جمهوري وديموقراطي لم يعد يعبر عن حقيقة التناقضات السياسية القائمة او تضارب المصالح فيه ، مما ينبئ عن تغييرات محتملة في الخارطة السياسية الامريكية ، يكون من ابرز معالمها تجسد الظاهرة الترامبية في اطار سياسي جديد .