التمدد الإيراني والتراجع العربي

تسعى أطراف عربية شتى منها ما هو مرتبط بالمشروع الإيراني سياسيا ومذهبيا ومصلحيا ومنها من تعاني من طفولة سياسية، بمناسبة ومن دونها، لتلميع صورة إيران وإضفاء أوصافٍ لا وجود لها إلا في أذهانٍ مصابة بداء العشق السياسي الأعمى الذي لا يريد مراجعة النفس مهما توفرت لديه من معطيات وأدلة مضادة بأن إيران مجرد مقاول سياسي نجاحه الوحيد، أنه استطاع تشغيل آلاف من العمال في مشروعه مقابل أجور مغرية في زمان الأزمات المالية التي باتت سمة الاقتصاد العالمي، فإيران إن تراجعت خطوة إلى الوراء قالوا عبقرية سياسية ومرونة دبلوماسية يفتقدها الآخرون وخاصة العرب، وإن أعطاها المجتمع الدولي قطعة حلوى لإغرائها بخطوات أكبر حجما وشأنا، طبّل لتلك الخطوة إعلام التابعين، وراح يصفق وينظم الشعر للانتصار الإيراني على العالم كله، ويصور ذلك على أنه ناجم عن تفوق الزعامة الإيرانية على ما سواها من زعامات أخرى إقليمية أو دولية وقدرتها على الإمساك بخيوط اللعبة، وتذهب بعض التحليلات السياسية التي تصدر من شاشات عشرات الفضائيات الموالية لإيران أو من على فضائيات تنفق عليها دول يفترض أنها معادية لإيران وتمكنت إيران زراعة عشرات العناصر المرتبطة بحزب الله اللبناني أو بالمليشيات الشيعية العراقية فراحت تبث سمومها من تلك القنوات، قلنا تذهب إلى أن إيران تحولت إلى مركز استقطاب يكافئ دور الاتحاد السوفيتي السابق في زمن الحرب الباردة التي طويت صفحتها بانهيار المنظومة الشيوعية، واليوم عن الصين في قدرتها الاقتصادية الهائلة التي جعلت منها ثاني اقتصاد عالمي في مواجهة الولايات المتحدة.
لكن حقيقة الأمر أن العالم اختار إيران على العرب لعوامل مختلفة منها….
1 – أن إيران هي الكيان التوسعي الثاني بعد إسرائيل في المنطقة، وتشكل معها خط المواجهة الأول ضد العرب لضمان المصالح الغربية، وإشغال العرب بحروب لا نهاية لها واستنزاف مواردهم ومنعهم من مجرد التفكير بالتنمية، ومنعهم من تفعيل منظومة الأمن القومي العربي.
2 – أن في إيران صوتا واحدا يمسك بزمام الأمور سياسيا وأمنيا واقتصاديا، في حساب يستند على حقائق تاريخ بلاد فارس أن هذا البلد بطبيعته يعيش حالة خضوع للزعيم ومن النادر أن يخرج عليه وأن تجربة 1979 فلتة لن تتكرر مرة أخرى، في حين أن العرب يعانون من انقسامات سياسية وتضارب بالمصالح، وفيهم 22 صوتا كل منهم يتحدث بلغة سياسية غريبة عمن يجاوره وأن العرب وفقا لحسابات التاريخ، أمة غير قابلة للتدجين.
3 – أن إيران على مر التاريخ كانت حليفا مؤتمنا للغرب وأنها ومهما رفعت من شعارات متطرفة، فإنها قابلة للحوار مع الغرب والجلوس معه على مائدة تفاوض مهما كانت طويلة الامد، وليس القطيعة النهائية معه، بل وإنها على استعداد لقبول أشكال سرية من التعاون مع إسرائيل كما حصل في الصفقة العسكرية بين الطرفين أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وهذا المنطق من الصعوبة على العرب القيام به والتمسك به لوقت طويل.
4 – أن إيران الدولة التي ينص دستورها على أن دينها الرسمي هو الإسلام الشيعي، هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تحمل هذه الصفة، ولهذا فإن مد اليد لها يعد إضعافا لأكبر كتلة بشرية وجغرافية واقتصادية في المنطقة.
5 – إيران دولة براغماتية تطبق مقولة (الغاية تبرر الوسيلة) بأبشع صورها ولا تجد في نفسها رادعا عن الإقدام على أية خطوة تخدم مصالحها، فلا مبادئ في العلاقات الدولية على الإطلاق.
إن أسوأ ما يمكن أن يعيشه قائد أو نظام سياسي أن يبقى أسير شعاراته التي أطلقها بنفسه.
لكن الصورة من داخل إيران تعكس حالة أخرى، فالاقتصاد الإيراني في واقعه ريعي أي أنه يعتمد على ما تصدره من نفط لإدارة الفعاليات المرتبطة به، وفي غضون فترة وجيزة، انهار سعر العملة الإيرانية وألغي الريال بعد حذف أربعة أصفار منه ولتحل محله العملة الافتراضية أي التومان (كلمة فارسية معناها عشرة آلاف)، وبدأت السوق المحلية تعاني من شحة في البضائع والسلع الأساسية، وخاصة بعد أن تغوّل الحرس الثوري ليمسك بكل الفعاليات التسويقية والانتاجية وعانى المجتمع الإيراني من تدهور في ظروفه الاقتصادية، ودفع المواطن ثمنها الباهظ لوحده عما يعانيه بلده، وحكوماته تتفرج على تلك المعاناة مقابل استمرار سلطة الولي الفقيه، وتضخمت ثروة تجار الصدفة الذين يجيدون استغلال الظروف الطارئة، وبدلا من تشغيل العقل في مثل هذه الظروف كما كان يدعو أصحاب دعوات المرونة والعقل في السياسة الدولية، أخذ خامنئي الحاكم المطلق لإيران بموجب أكذوبة الولي الفقيه المقتبسة من نظرية التفويض الإلهي التي سادت أوربا في القرون الوسطى، أخذ يصعّد من حدّة خطابة السياسي ومتيحاً في نفس الوقت الفرصة لحسن روحاني وجواد ظريف لطرح مواقف معتدلة في ثنائية خطاب سياسي لإيران على الصعيد الدولي اشتهرت بها إيران في تعدد المنابر السياسية، وهذه فرضية ساذجة إلى حدود بعيدة، فالعالم تحكمه قواعد اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية والاقتصادية، من جانب حكومات لها مؤسساتها المتدرجة تبدأ من مراكز الدراسات والجامعات ثم الأجهزة الأمنية والسلطات التشريعية وآخرها الحكومات، وبالتالي فإن ظنت إيران الداخلة على لعبة العلاقات الدولية حديثا أن الثنائية المفترضة في المواقف المعلنة لها يمكن أن تنطلي على الأسرة الدولية، فلا تعدو عن كونها فرضية تعكس سذاجة المؤسسة الحاكمة في إيران، ومع ذلك فإن العالم يحاول أن يتغابى وينزل إلى مستوى ما تفكر به إيران، ويحاول إيهامها أنه مصدّق وجود مراكز سياسية متصارعة في إيران، ليس عن قناعة وإنما تختبئ وراء ذلك أهداف بعيدة لنفخ بالون حجم رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية على الأقل أمام الشعب الإيراني على حساب الولي الفقيه.
إيران على مرّ تاريخها سواء كانت بلاد فارس أو بعد أن صارت إيران في 1935، لم تلتزم بالمواثيق والاتفاقيات التي توقّعها مع الدول، وبالتالي هي أكثر تحللا عما تعطيه من تعهدات أمام الملأ ما لم تشعر بقوة الطرف الآخر، وعندما تشعر أن الطرف المقابل ضعيف أو أنه لا يريد الحرب خاصة لأسباب مالية واقتصادية، فإن الزعامة الإيرانية تذهب بعيدا في خطابها السياسي مصورة نفسها كقوة قادرة على التحدي ومواجهة أقوى دول العالم، في محاولة منها لإدخال الطمأنينة الكاذبة في قلوب التابعين والأنصار، ولنا في تجربة الحرب العراقية الإيرانية التي كانت خاتمتها تجرع خميني كأس السم، ثم التطورات الحاصلة هذه الأيام بشأن العلاقات مع الغرب عموما ومع الولايات المتحدة خصوصا ما يؤكد هذه القراءة.
لكن سؤالاً مهماً يمكن أن يطرح نفسه بإلحاح، وهو إذا كان من المفهوم أن تسيطر سطوة النظام القمعي في إيران على الداخل، فكيف يمتلك هذا النظام القدرة على استقطاب هذا الدعم الإقليمي بحيث بات نظام الولي الفقيه مستلقيا على جنبه من الناحية الأمنية وتاركا القتال نيابة عنه لتأمين أهدافه بل وحدوده إلى قوى محلية ومليشيات مسلحة تابعة له بالولاء الايديولوجي خاصة في الوطن العربي، مثل حزب الله والمليشيات في العراق والحوثيين في اليمن.
هناك عاملان مركزيان في هذا الخرق الذي حققته إيران في المجتمع العربي.
الأول، إيران ومنذ الأيام الأولى لوصول خميني إلى السلطة في إيران في شباط 1979 رفعت شعارات عالية عن تحرير فلسطين والقدس خاصة وصل فيها الكذب حتى تم تخصيص الجمعة الأخيرة من شهر رمضان من كل سنة كيوم للقدس، ووجدت هذه الشعارات قبولا لافتا لدى أطراف فقدت ثقتها بالنظام الرسمي العربي وتحالفاته أو بقدرته على أن يفعل شيئا على طريق تحرير فلسطين، لكن العقل العربي وهو في نشوة الانجاز بإضافة رصيد جديد إلى القوة المدافعة عن الحق العربي في فلسطين، أغفل شعار التوسع الإيراني المختبئ وراء شعار فلسطين والقدس وهو شعار تصدير الثورة، مع أن شعار تصدير الثورة في واقع الحال هو شعار استراتيجي بعيد ويريد تكريس احتلالات سابقة له، ويخفي نوايا خطط التوسع في ضم بلدان عربية أخرى إلى ممتلكات الامبراطورية الفارسية الجديدة، وخاصة العراق ضما جغرافيا سياسيا، أو لبلدان أخرى ضما بالولاء السياسي الأيديولوجي وخاصة داخل الأقليات الشيعية في البلدان العربية، وتحويلها إلى مليشيات مسلحة ودعمها ماليا وتحويلها بعد تجهيزها عسكريا لتصبح قوة ردع تكافئ في قوتها القوات الأمنية، مما يجعل التصدي لها ضربا من المجازفة غير المدروسة لا سيما وأن تلك المليشيات كانت تتعمد استعراض بطشها بالمدنيين في أفلام تبثها بين آونة وأخرى لخلق حالة رعب جمعي يمنع التفكير بمعارضتها، لهذا نرى أطرافا ذات أعصاب زجاجية تسارع لإعلان الولاء والدعم غير المشروط للمشروع الإيراني وأذرع إيران المنتشرة في أكثر من بلد عربي، وهنا تكمن خطورة برنامج نشر التشيّع الذي بدأه إسماعيل الصفوي بعد وصوله إلى الحكم مطلع القرن السادس عشر، واعتبرت إيران أن استكمال مشروعها بالتغيير المذهبي الذي حددت له نصف قرن لاستكمال كل فقراته، دعما مباشرا أو بالصمت من القوى الشرقية والغربية التي لا ترى في التشيّع خطرا على مصالحها، لأن العالم عاش حالة تعايش معه عندما عقد تحالفات ميدانية مع الصفويين لوقف الفتوحات العثمانية في أوربا في القرن السادس عشر وما تلاه، وذلك عن طريق فتح جبهات ساخنة ضد الدولة العثمانية على حدودها الجنوبية الشرقية لم تنته حتى مع النصر الذي حققه العثمانيون في معركة جالديران عام 1516 بقيادة السلطان سليم الأول على الصفويين.
والثاني أن إيران ظلت حريصة على أن تطرح نفسها كقوة مدافعة عن الإسلام وبذلت جهدها لاحتكار تمثيله وسلب العرب الحق في ذلك، بل طرحت علنا أن العرب حكموا باسم الاسلام عدة قرون ثم جاء الاتراك العثمانيون ليحكموا عدة قرون أخرى، وها هو الوقت قد حان للفرس أن يحكموا العالم الإسلامي وفقا لمبدأ العدل، بقواعد وخلفيات المعتقدات التي سار عليها التشيّع منذ أن وضع الكليني أسسه الأولى في كتابه (الكافي) والذي حفل بكل ما هو غريب وشاذ وخارج عن سياق العقل السوي، على الرغم من أن التشيّع يضع العقل واحدا من شروط الاجتهاد، ويلاحظ الدارس أن التشيّع أباح للمسؤولين في إدارة دفة الحكم أو لمراجعه أو أي رجل دين فيه بصرف النظر عن رتبته ودرجته التي اقتبسها التشيّع عن المسيحية، الكذب على الكافة من أجل مصلحة المذهب، واستثنى من ذلك الكذب على المعصوم فاعتبره من المحرمات، ولهذا نرى اليوم المعممين في العراق وإيران ولبنان يمارسون أسوأ أشكال الكذب والافتراء ولا يشعرون بالخجل منه، فيراهم الراصد يتراجعون عن أقوالهم على مدار الساعة.
أكدت تجارب العقود الأخيرة أن البناء التربوي الذي تحرص عليه المرجعيات الشيعية في العراق أو في البلدان التي تتواجد فيها أقليات شيعية وخاصة في الوطن العربي، هذه المرجعيات التي تنحدر في معظمها إلا ما ندر من أصول فارسية، أو حيثما وجدت لها قاعدة اجتماعية أو مادية، كان يركز على الولاء لإيران بصرف النظر عمن يحكم فيها وطراز الحكم أو توجهاته داخليا وخارجيا، ومن اجل تركيز هذا الولاء نرى أن المرجعيات بقدر حرصها على تخريج آلاف المعممين لغرض نشر دعوتها كما تريد، كانت تحرص على بقاء المجتمع في أعلى درجات الجهل، ولهذا تفشت الأمية تحت حكم المعممين في العراق بعد عام 2003 على أوسع نطاق، وانتشرت الخرافات والأساطير والحكايات المضحكة عن القدرات الخارقة التي توفرت للأئمة والمراجع الكبار، وإضفاء الزهد عليهم والتقشف في معيشتهم على الرغم من أنهم يعيشون حياة غارقة في الملذات وطيب العيش، فهم يتحكمون بأكبر الموارد المالية التي حازوا عليها عن طريق السيطرة على العقود الحكومية والصفقات التي توقعها مختلف الوزارات، وأضفت عليهم هالات من القدسية والوجاهة التي كانت تضفى على الشاه أيام مجد عرش الطاووس، واعتبرت تلك الممارسات جزء من العقيدة التي يعني عدم الالتزام بها خروجا على العقيدة الدينية، ومما يلاحظ على التشيّع أنه يركز على البكائيات أكثر من تركيزه على مناسبات الفرح، لأنه يعي جيدا أن الحزن يحشد الكراهية خاصة إذا كانت الأحزان ترتبط بقصص وخرافات عن أدوار لرموز يحسبها الشيعة على السنة في التاريخ، بأنهم فتكوا بالأئمة الاثني عشر، ومن قبل ذلك حرموا علي بن أبي طالب من حقه في الخلافة التي يدّعون أنها منصوص عليها في خطبة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في غدير خم، واتخذوا من هذه المناسبة أهم عيد لهم، وكان الإيرانيون يجاهرون بأن لإيران عيدين ديني وهو عيد الغدير ووطني وهو عيد نوروز، كما أن روايات الشيعة اختلقت اكذوبة كسر ضلع فاطمة الزهراء رضي الله عنها من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى من دون أن ينبس زوجها علي بكلمة احجاج واحدة على هذا الفعل الشنيع فيما لو كان قد حصل فعلا، وهكذا نسجت الروايات وحيكت القصص عن مظلومية الشيعة على مر التاريخ، فكرسوا روح الحزن والانتقام من السنة ونسبوا إلى المهدي أنه بمجرد ظهوره سيقتل السنة بل ويخرجهم من قبورهم ويحيهم ثم يقتلهم شر قتلة ويسبي نساءهم ويحولهن إلى إمّاء ويوزعهن على أتباعه.
ومع أن المرجعيات تلتقي فيما بينها على هدف واحد وهو إحكام السيطرة على الثروة وتحريك الأفراد والجماعات على وفق سياق واحد، إلا أنها في واقع الحال تعيش صراعات حادة فيما بينها على كل شيء، النفوذ والمال والدور السياسي، ومما عزز من هذه الصراعات ظهور مدارس داخل التشيع ذات توجهات تختلف في تفاصيلها وفي أدوات وصولها إلى أهدافها، ولعل ظهور ما يسمى (بالحجتية) على يد محمود تولائي المعروف بالشيخ الحلبي في مشهد بعد فشل انقلاب محمد مصدق عام 1953، ما عزز من الانقسام في الرؤى بين المراجع الكبار في إيران يضاف إلى ذلك التنافس التاريخي بين قم والنجف على زعامة التشيّع في العالم، ويُعد محمود تولائي “الشيخ حلبي” من اتباع ميرزا مهدي أصفهاني، مؤسس مذهب التفكيك (خراسان) في الحوزة العلمية التي كانت أعادت شيوخ خراسان للتنافس مع حوزات قُم والنجف، وقد كان لها أوسع قبول في أوساط التجار والشباب، وهذا له تفسيره، فالشباب يبحثون عن أي فتوى دينية تحميهم من تبعات الانحراف الخلقي والتحلل القيمي، والتجار وجدوا فيها فرصتهم في مزيد من الثراء ولو على حساب المستهلك، لأن ذلك لا يعد عملا مشروعا فقط وإنما يعتبر عملا عباديا يثاب المرء عليه لأنه يقرب يوم ظهور الحجة ابن الحسن “المهدي المنتظر”، ولهذا رأى خميني بعد وصوله إلى السلطة في الحجتية خطرا داهما يهدد رصيده من الشباب الذين أراد احتكار تمثيلهم ومن طبقة التجار وهم الممولون الرئيسيون لحركته وفي حال خسارتهم فإنهم سيذهبون بالاتجاه المضاد، وقد كان من أبرز وجوه الحجتية في إيران محمود أحمدي نجاد رئيس الجمهورية.
فالحجتية ترى أن ظهور المهدي المنتظر لن يتم ما لم يصل المجتمع إلى أعلى درجات الفساد والتحلل وانعدام القيم.
أحاط مراجع الشيعة الكبار أنفسهم بمجموعة من المبلّغين المرتبطين بهم لإيصال فتاويهم وجباية ما تسمى بالأموال الشرعية، والتركيز في البناء الفكري على أهمية أن يكون الحكم بيد أتباع أهل البيت وعلى سماع عبارة “أشهد أن عليا ولي الله” في الأذان، وعلى امتلاك حرية اللطم في المناسبات الحزينة والبكاء على الحسين في محرم وذكرى الأربعين وحرية السير مشيا على الأقدام إلى كربلاء، وصيغت حول ذلك حكايات وأساطير لا يقبلها عقل عاقل، مثل القول إن الله سبحانه وتعالى يشيح بوجهه عن الحجيج الواقفين في صعيد عرفة، ويتوجه إلى كربلاء وينظر إلى زائري الحسين ويعطيهم أجرا عن ذلك، بعضهم قال إن ثواب تلك الزيارة تعادل ألف حجة ولم يتوقف العداد عن رفع الرقم حتى وصل إلى مليون بل ومليوني حجة، وسط هياج السذّج والجهلة ممن يستمعون إلى خطيب المنبر للإعلان عن تلك الأرقام وسط ارتفاع شعاراتهم الطائفية المغرقة بالجهل والخرافة، ولم يكلف أحدهم نفسه ليسألها، إذا كان الأمر كذلك فلماذا نذهب إلى الحج ونتحمل مشقته وتكاليفه المادية؟ بل لماذا يذهب المعممون أنفسهم لأداء مناسك الحج ولا يفضلون مليوني حجة؟.
نلاحظ أن مبدأ الخلاف راسخ في الذهنية المسيّرة للفرد الشيعي، إذ تحاول تسفيه المناسبات الإسلامية التي أجمع عليها المسلمون من بداية بزوغ فجر الرسالة الإسلامية وحتى الآن ويحاول التشيّع إيجاد بدائل مصنّعة في أقبية المراجع الشيعة لتحرف أنظار المسلمين عن تقديس المقدس والتحول عنه نحو ممارسات طارئة زائفة.
لقد عقد مؤسسو التشيع الأوائل اتفاقا غير مكتوب ولكنه مقدس مع أتباعه، عندما قايضهم بالمغفرة كما ولدته أمه ودخول الجنة بمقابل التحلل من أي التزام ديني سليم، فللشيعي أن يزني أو يسرق ويرتكب كل كبيرة ولو كانت بحجم الجبال، لأنها ستغفر له جميعا مقابل دمعة واحدة يذرفها على الحسين، أو مقابل الإيمان بولاية علي بن أبي طالب، ومما ينشر هذه الأيام على مواقع التواصل الاجتماعي ما يثير الدهشة والاستهجان بسبب جرأته على الله ورسوله، وعندما قامت الدولة الصفوية في بلاد فارس عام 1500 أخذ التشيع قوة دفع كبيرة، وخاصة عندما فرض الملوك الصفويون التشيع على كل الأقاليم التي تتشكل منها دولة إيران الحالية، على الرغم من المقاومة التي أبداها سكان تلك الأقاليم.
موضوعان كانا محركين لكل العوامل المؤثرة في حركة التاريخ في مسار التشيّع، وهما المال والجنس لكنهما ليس لوحدهما من محركات الشريعة في المذهب، وإنما هناك عوامل أخرى رأى فيها التشيّع أنها تؤثر تأثيرا فاعلا في ما عاشته وتعيشه المجتمعات الإسلامية والإنسانية على مر العصور كالأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تواجه المسلم والإنسان يوميا.
المذاهب الأربعة تعاملت مع الأمرين من دون أية مرونة فقهية بأي قدر من المقادير، مما أثار تساؤلات جدية عن جمود الشريعة الإسلامية وعدم قابليتها على التكيف مع التطورات السياسية والاجتماعية الحاصلة في المجتمعات الإسلامية التي تعيش ظروفا مختلفة في تقاليدها الموغلة في القدم، فتداخلت العادات الاجتماعية مع المفاهيم الشرعية وربما تفوقت عليها في رسم سلوك المسلمين في تلك المجتمعات، وإذا ما حاولنا معالجة كل منهما على حدة فعلينا أن نعود إلى بدايات نشوء التشيّع، هناك جملة أوهام صارت نتيجة التكرار وكأنها حقائق تاريخية ودينية راسخة، ولعل في مقدمتها القول إن التشيّع نشأ عربيا وعلى أيدي الأئمة من نسل علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما، وهذه فرية تاريخية كبرى، فالأساس في التشيع أنه بدأ كأفكار دونها الكليني في (كتابه الكافي) الذي يعتبر انجيل الشيعة بلا منازع، وحتى اسم الكتاب طرح الكليني فكرة أن محمد بن الحسن العسكري وهو الإمام الثاني عشر المفترض عن الشيعة والذي غاب في سامراء على ما يقولون، هو الذي أملاه عليه واعتبره كافيا لأتباعه ومن هنا جاء اسم الكتاب، وكان كتاب الكليني شارة البدء في مسيرة التشيّع في بداياته الدعوية، ولكن الدفعة الرئيسة التي حصل عليها التشيّع كانت بوصول اسماعيل الصفوي إلى الحكم في فارس وذلك من خلال تجنيد امكانات دولة بكاملها لصالح المذهب ومحاربة المذاهب الأخرى بل وتذويبها بالقوة إن تطلبت الحاجة، فتم قتل مليون مسلم سني ممن لم يتحولوا نحو التشيّع، وأخذت المسموحات والممنوعات تتسلل إلى الإسلام، ولتوسع من شقة الخلاف بين التشيّع والمذاهب الإسلامية الأخرى، حتى بدا وكأن التشيّع صار دينا مستقلا في عقائده ومعتقداته وممارساته.
لقد تحرك التشيّع على مسارين لتحقيق أهدافه:
الجنس:
وضع الإسلام كما هو معروف قيودا صارمة على طرق تفريغ هذه الغريزة وقيدّها في حدود العلاقات الشرعية وعاقب على الخروج عن تلك القوالب بحدود معروفة، وعلينا أن نتعامل مع الواقع الذي عاشته المجتمعات الإسلامية في الوقت الراهن كما هو وليس كما نريده، لأن ذلك من اختصاص الدعاة وعلماء الدين، أما نحن فنكتب دراسة نبذل جهدنا أن تكون علمية لتحاول الخروج بنتائج تسلط الضوء على ما يحصل بتجرد من دون مشاعر عاطفية.
لقد تعامل التشيّع بمرونة عالية وصلت حد التفريط حتى بالقيم الخلقية، فأعطى للغريزة الإنسانية تفسيرا مطاطا إلى حدود بعيدة ثم ألبسه رداءً إسلاميا فأوجد “زواج المتعة” فأتاح للشباب تفريغ شحناتهم في قوالب “شرعية” هي أقرب للبدعة منها إلى التشريع الإسلامي، بل تطور مفهوم المتعة مع الزمن من إباحة الاضطرار إلى حث عليه من جانب رجال الدين، وخاصة بعد تطور وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت متاحة لكل من وضع على رأسه عمامة ليدخل عالم الفتيا لتتلقفها أذهان متعطشة لكلمة تبيح المحظورات وواقع الحال أن الجميع صار يحمل فقيهه ومفتيه في جيبه على مدار ساعات اليوم يعود إليه ويستفتيه كلما أراد الحصول على المخلص الذي يقدم له قارب النجاة، فصار زواج المتعة عبادة لها ثوابها المضاعف وسببا في الحصول على المزيد من الأجر والقربة إلى الله، وتمادى المُفتون الجدد فحثوا على زواج المتعة حتى للمتزوجة والتي ما زالت في عصمة زوجها.
ولو كان هناك إجماع إسلامي على جواز زواج المتعة لقلنا من دون شعور بالحرج إنه دعارة إسلامية، ولكنه كان سلوكا داخل التشيّع فقط ولا يقرّه مذهب آخر من المذاهب الإسلامية، واللافت أن أي معمم لا يجيز لابنته ممارسة هذه الدعارة الشرعية، وربما يثور بوجه من يطلب ابنته لتلك الممارسة، وأكثر شيء محيّر في العراق خاصة أن أبناء العشائر العربية الأصيلة الذين غُرست في ضميرهم أعلى مشاعر الإحساس بالغيرة والمروءة، بات بعضهم على قلتهم، يوافقون على مثل هذا الانحراف عن القيم التي تشبعوا بها ودافعوا عنها بكل ما يملكون من قوة، فإيران تعي جيدا أنها لا تستطيع السيطرة على المجتمعات المتماسكة، إلا إذا دمرت منظومة قيمّها الخلقية، وربطتها بخرافات وأساطير وبكائيات، يعرف الجميع أنها من صناعة إيران احتاجت لمئات السنين حتى تمكنت من غرسها في النفوس بشكل تدريجي.
أما في المجتمعات السنية، فإن الدين وحده لم يلغ الغريزة الجنسية بل وضعت ضوابط وأحكاما لذلك، وإلا لو كان الدين يفعل ذلك لوحده من دون الارتقاء بمستوى الإيمان إلى أعلى درجاته التي تحول دون الانحراف لتحول المجتمع إلى بيئة تسود فيها الغرائز المنفلتة عن حدود السيطرة، ولما وضعت الحدود التي تفرض على المخالفين وكما قال عثمان بن عفّان رضي الله عنه (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقران).
لقد عاشت المجتمعات السنيّة ثنائية وتصادما حادين بين العقائد والممارسات نلاحظها اليوم في الانفتاح على العالم من قبل الدول التي توصف بأنها سنيّة بسبب تعاظم الثروات المتأتية عن صناعة النفط، من جهة، والثورة الحاصلة في عالم الاتصالات، فالأحكام الصارمة باقية، في حين نرى المجتمعات السنية مشرّعة الأبواب على التحولات الاجتماعية السائدة في العالم خاصة في ظل مدنية الدولة وصرامة التشريع الإسلامي، وهذه الثنائية أدخلت المجتمع في حالة انعدام وزن لن يتمكن من تلمس أي الطريقين يختار.
إن الانفتاح الواسع على العالم والتطورات في وسائل النقل أتاح لكل متمكن، السفر إلى دول في شتى أرجاء العالم وملاحظة ما يجري فيها من ممارسات غير التي نشأوا عليها في بلدانهم، ومنظومة التقاليد الجديدة، قادرة على استقطاب الشباب إلى تقاليدها وعاداتها وإدخالهم في صراعات وجدانية عميقة تكاد أن تقتلع كثيرا منهم من جذورهم، أما ثورة الاتصالات فقد دخلت كل بيت وصارت رفيقا لكل فرد من خلال أجهزة الهاتف الذكية التي يحملها الشباب ذكورا وإناثا في جيوبهم في كل مكان، هنا بدأ الإنسان يعيش صراعا داخليا حادا فهو من جهة يعلن تمسكه بأهداب الدين وعقائد الآباء والأجداد، ولكنه يتمرد عليها سلوكيا ليل نهار، وبدلا من توفير مستلزمات الاستقرار النفسي للشباب، فقد تركوا فريسة سهلة لصراعات بين نزواتهم ومعتقداتهم، وغالب الظن أن المرونة التي يطرحها التشيّع في موضوع الجنس، بات أهم الأخطار التي تهدد شباب السنة في بقائهم في بيئتهم الأصلية، طالما وجدوا الحل (الشرعي) الذي يقدم لهم أسهل الطرق للوصول إلى غاياتهم، لذلك، فإن ما يحصل هو جرس إنذار بأن التشيّع بات يقضم من الجرف السني بقوة المصلحة لا بقوة اليقين، ومراهنة القائمين عليه هي على الأجيال اللاحقة وليس الجيل المتحول الأول.
ومما فاقم من تلك الأزمة وطرح أسئلة جادة عن الرأي الصائب خاصة من أولئك الذين يفتقدون إلى المعرفة الدينية اللازمة لتحصين النفس من المنزلقات، أن المئات من رجال الدين الشيعة صاروا ضيوفا مداومين على الفضائيات الشيعية المنتشرة على كل الذبذبات على مدار ساعات اليوم وتبث سمومها بمنهجية وتعطي تلك الآراء دعما بادعاء قول الأئمة الاثني عشر به، وهؤلاء يروجون للفاحشة والانحدار القيمي والتحلل الخلقي، وسط صمت مقصود حينا من المرجعيات الشيعية العليا، لكن الفتاوى التي أطلقها مراجع الشيعة الكبار مثل خميني على سبيل المثال والتي أجاز فيها “تفخيذ الرضيعة” فتح الباب واسعا أما أسوأ ما عرفت البشرية من نوازع حيوانية بهيمية.
المال: توسع التشيّع في تسهيل وسائل الحصول على المال وطرق توظيفه ولم يخضعها لضوابط دينية أو أخلاقية كما جاء في القران الكريم أو السنة النبوية الشريفة، ولم يأخذ بنظر الاعتبار أن المال ومهما كانت طرق الحصول عليه يجب أن تكون نظيفة ومتطابقة مع مقاصد الشريعة، وإلا فإنه يصل مرتبة التحريم..
التشيّع وضع شرطا واحدا لتحليل المال حتى كان الحصول عليه قد تم عن طريق السرقة أو الربا أو الرشى أو التلاعب بالمال العام أو الاتّجار بالمخدرات أو الإشراف المباشر على النوادي الليلية وبيوت الدعارة ومراكز القمار والروليت أو العمليات الارهابية كالاختطاف وإيداع المختطفين وهم بالآلاف في سجون سرية تحت سيطرة مليشيات يقودها معممون شيعة، وأخذ الفدية من ذوي المختطفين بشرط دفع الخمس إلى المرجع الذي يقلده المكلف، وقد ظهرت هذه الممارسات جلية في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي ثم السيطرة الإيرانية المحكمة على مقاليد الأمور والإمساك التام بالمؤسسات المالية والدوائر السياسية لصالح إيران وتحول الشطر الأعظم من مكاسب تلك الأموال إلى إيران وخاصة بعد تعرض إيران إلى العقوبات الاقتصادية الأمريكية.
لقد انتقلت الصفقات المالية السوداء في العراق من الخفاء والأقبية المظلمة إلى الهواء الطلق ولتتم بصورة علنية وبإشراف أو سكوت مما يسمى بالمرجعية الشيعية في النجف أو في طهران، وانزلق معممون سنة إلى هاوية الانحراف السياسي والمالي استنادا إلى مفهوم (مفيش حد أحسن من حد) كما يقول المثل الشعبي المصري، وصارت مليارات الدولارات تتدفق على البنوك في الوطن العربي وأوربا من دون أدنى رقيب، فتضخمت أرصدة سراق المال العام، وبات بيع المناصب العليا ومقاعد البرلمان والحقائب الوزارية والمحافظين وغير ذلك من المناصب، يتم في مزادات شبه علنية، وخلال ستة عشر عاما دخلت موارد للعراق تزيد على ترليون دولار وهي كافية لبناء بلد من العدم مساحته كمساحة العراق وسكانه أكثر من سكان العراق على أكمل وجه.
لقد حرصت سلطة الاحتلال على إفساد النظام القضائي، كي تتمكن من العبث بمقدرات المواطن، فاتسعت عمليات التزوير وبيع العقارات ونزع أخرى من مالكيها الأصليين وتسجيلها بأسماء أخرى مقابل عمولات ضخمة، وهنا تتجلى بوضوح أدوار المعممين الجدد الذين استحوذوا على أوسع مساحة من العقارات في بغداد والنجف وكربلاء وغيرها.
أما النظام التعليمي فقد وصل إلى أسوأ مستوى عرفه العراق في تاريخه الحديث، ولم يكن ذلك عن غفلة أو من دون قصد، بل كانت خطة مدروسة لإشاعة الجهل وتسهيل تمرير الخرافات والخزعبلات والأساطير التي تتيح للمعممين السيطرة التامة على سلوك الأفراد والجماعات، فالتشيّع المتخم بالخرافة لا يستطيع العيش في بيئة متعلمة وواعية تمتلك الغربال الذي تستطيع فيه اسقاط كل خارج عن المنطق والعقل، خاصة بعد أن صارت ثقافة مجالس التعازي المذهبية على الهواتف المحمولة وتنشر كل ما في الذهن من خزعبلات، هي البديل المفروض بالقوة على المواطن عن المدرسة والجامعة.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى