الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين

الجزء الخامس عشر

الحدود في العهد العثماني
الاتفاقيات والمعاهدات الموقعة بين بلاد فارس والدولة العثمانية (2).

التوقيع على معاهدات واتفاقيات وبروتكولات كثيرة، بين أي بلدين في العالم، يؤكد
النوايا المعلنة والمبيتة بينهما تجاه بعضهما، والدولة العثمانية التي كانت تحتل العراق، كانت تواجه تحديات قوية بشأن هذا الإقليم ما لم تواجهه حتى في أوربا.
ومرد ذلك، أن العراق كان محطة أغراء وجذب قوية، لكثير من الطامحين والطامعين بالسيطرة على كثير من شعوب المنطقة، فيما لو تمت لهم السيطرة على العراق، وخاصة بلاد فارس، الأكثر إصرارا على التوسع والهيمنة على حساب حدودها الغربية، بدءً بلاد ما بين النهرين، وقد تأكدت هذه النوايا الشريرة، بسيطرة إيران على مقدرات العراق، بعد الاحتلال الأمريكي البريطاني سنة 2003.
بلاد فارس التي لم تشأ التسليم بما تفرضه عليها الاتفاقيات التي توقعها مع أي طرف آخر وخاصة إذا تعلقت الاتفاقية بالشأن العراقي، لأطماعها التاريخية العميقة بأرض السواد، وما تختزنه من ثروات كثيرة، وكانت تُلبسُ أطماعَها تلك بأردية دينية، تحت لافتة تسهيل زيارة المراقد التي تنظر إليها بلاد فارس، ومنذ استيلاء إسماعيل الصفوي على الحكم هناك، على أنها مناطق يجب أن تخضع لسلطانها، ولهذا لم يستقر إقليم العراق وتحول إلى ساحة لاستعراض قوة الطرفين، الدولة العثمانية التي تحتل العراق، وبلاد فارس الطامحة لاحتلاله، ولكن موازين القوى بين الطرفين، كانت تتغير تبعا لظروف الصراعات الداخلية أو الحروب الخارجية لكل منهما.
لهذا يَطرح المراقبون تساؤلا مشروعا، هل هناك بَلَدان في العالم، وقعّا خلال أربعة قرون فقط، أكثر من 27 اتفاقية ومعاهدة وبروتوكولا؟ وهل يدل هذا على تطور في الوعي القانوني لأي منهما؟ أم أن ذلك يؤكد أن خللاً جوهريا في العلاقة القائمة بينهما، هو المسيطر على عقول السلاطين والشاهات؟ وأن إيران عندما توَقع أية اتفاقية، مضطرةً لضعفٍ في قوتها أو لصراعات داخلية، فإنما تضمر في نفس اللحظة التي توَقع على الاتفاقية، نسفَها عندما تزول ظروفُ اضطرارِها على ذلك التصرف.
أواصل في هذا البحث عرض الاتفاقيات العثمانية مع بلاد فارس والتي سجلت أرقاما قياسية في عددها قياسا لأي بلدين متجاورين.

معاهدة 1727م

بعد وفاة مير محمود، جاء من بعده مير أشرف، الذي لم يكتف بما حصل عليه أبوه من الأرض والسلطان، بل أرسل مبعوثا إلى الدولة العثمانية، يطلب منها الانسحاب من بلاد فارس، لأنه يعتبر نفسه الوريث الشرعي للدولة الصفوية.
ولكن الدولة العثمانية رفضت الطلب، وهنا يدفع العراقيون ثمناً جديدا، من طلب مير أشرف ورفض السلطة العثمانية، لأن العراق تَحوَل إلى بيضة القبان، التي يمكنها ترجيح كفة الطرف الذي يسيطر عليه.
إن الدولتين المحيطتين بالعراق العثمانية من الشمال، والفارسية الصفوية من الشرق، نجحتا في تحويل العراق إلى مادة للمساومة، وبضاعة يتم تبادلها بالبيع تارة وبالاحتلال تارة أخرى، وبالإهداء تارة ثالثة.
فقد شن مير أشرف هجوما على قوات أحمد باشا، والي بغداد العثماني سنة 1726م، والتي كانت قد احتلت في وقت سابق كلا من كرمنشاه وهمدان، وأوقع الهجوم بتلك القوات، خسائر كبيرة بسبب خيانة من داخل الجيش، على الرغم من أن قوة أحمد باشا كانت تتألف من ستين ألف رجل، في حين أن القوة التي هاجمتهم كانت تتألف من سبعة عشر ألف رجل، وفي هذه الإثناء، حاول طهماسب الثاني “الذي اعترف له الروس بالمُلك” تدارك الأمور، قبل أن تسوء أكثر مما وصلت إليه، فحاول جمع ما لديه من مناصرين، وباشر بإعادة بناء جيشه والدفاع عن مملكة أجداده، ووجد عونا من (نادر قلي)، لمواجهة جيش مير أشرف كخطوة أولى، والذي بات على أشرف ان يواجه عدوين في وقت واحد، فما كان من مير أشرف إلا أن يتراجع عن مواقفه السابقة تجاه الدولة العثمانية، والتي طالبها فيها بالانسحاب من بلاد فارس، باعتباره وريث عرشها الشرعي، فبعث موفدا إلى الإستانة، ولكن هذه المرة لعقد صلح مع الدولة العثمانية، على الرغم من أن الأخيرة حاولت إلحاق الهزيمة العسكرية به، ولكنها لم تتمكن من تحقيق هذا الهدف، وتم الصلح فعلا سنة 1727م، إلا أن هذه المعاهدة لم تُلزم الحكومة الفارسية الصفوية بشيء، لأنها تنظر إليها على أنها وُقعت من سلطة احتلال، مع دولة تسعى لتقاسم النفوذ على حساب بلاد فارس، فأشرف لم يتمكن من ادامة الاتصال بقواعده في أفغانستان، التي يستمد منها قوة الرجال، ولهذا فقد اقتربت النهاية بعد عشر سنوات من سيطرته على الحكم على يد فاتح آسيوي جديد.

معاهدة أحمد باشا 1732م

وبعد أن شعر الشاه طهماسب الثاني بالثقة بقدرته على مواجهة الدولة العثمانية، لِما تلّقاه من دعم من نادر قلي، توجه إلى خوض معركة مع العثمانيين عام 1731م، ولكن نتيجة المعركة كانت هزيمة قواته، فاضطر لعقد معاهدة جديدة مع العثمانيين وهي معاهدة أحمد باشا، وأهم ما جاء في المعاهدة الجديدة، تخلي الدولة العثمانية عن كرمنشاه وهمدان والحويزة ولورستان وأرديلان للدولة الفارسية، وهذه المناطق القريبة من الحدود العراقية الحالية، أعطت إيران مزايا استراتيجية على حساب العراق، و عند عرض هذه المعاهدة على الباب العالي، أدخل عليها تعديلات كثيرة، قبلتها الدولة الفارسية على مضض، ووقعها سفير بلاد فارس في الإستانة.
ولأن الهزائم تتسبب عادة في أزمات داخل مؤسسة الحكم التي تعرضت للهزيمة، فقد بدأت المواجهة بين نادر شاه والشاه طهماسب الثاني، لأنه وافق على معاهدة الصلح المشار إليها, والتي بموجبها تنازل طهماسب الثاني، عن العديد من الولايات الفارسية، “غير أن نادر لم يُبقي الأمر على ما هو عليه، بل ارسل إلى طهماسب الثاني رسولا يوبخه لفعلته تلك، وأكد له أنه على استعداد لمجابهة العثمانيين، واستعادة ما تنازل عنه طهماسب الثاني لهم”, وكانت الخطوة الأولى لوصول نادر شاه لحكم فارس، “الذي انتقل من قاطع طرق إلى قائد عسكري، ثم إلى عرش فارس”، هي خلع طهماسب الثاني، وتعيين ولده الصغير عباس ميرزا بدلا عنه بتاريخ 4 أيلول عام 1732م، وأعلن نادر شاه نفسه وصيا على العرش، وأثناء ذلك اجتمع جمع غفير من مختلف الطبقات في بلاد فارس في صحراء مغان وأقروا ارتقاء نادر خان العرش وتسميته بالشاه.
ومن أجل عودة الأمور إلى ما قبل توقيع معاهدة أحمد باشا، قاد نادر شاه جيشا من ثمانين ألف جندي في حملة جديدة على العراق، ولكن جيشه واجه جيشا عثمانيا كبيرا بقيادة توبال عثمان، فوقعت معركة قرب سامراء، وكانت هزيمة الفرس فيها هزيمة نكراء يوم 18 تموز/ يوليو 1733م.
وبعد فشل نادر شاه في احتلال بغداد عام 1733م، بحدود عشر سنوات عقد العزم على احتلال الموصل عنوة، وقاد حملته الواسعة قاصدا الموصل، عن‏ طريق بغداد- كركوك – أربيل، وكانت قوة حملته بحدود 300 الف مقاتل، وقد تمّكن من الاستيلاء على كركوك، ثم عبر نهر الزاب الصغير واحتل‏ أربيل، وفتك باهلها ودمّر قراها، وظن أن الأمور أصبحت مهيأة له للسير إلى هدفه‏ الرئيس أي مدينة الموصل، غير أن السلطة الحاكمة في الموصل، لم تكن غافلة عن خطة نادر شاه لاحتلال الموصل، فأخذت تستعد لمواجهة الغزو، إذ ضرب الوالي حسين باشا الجليلي خيامه حول المدينة، وأمر الوالي بترميم سور المدينة وسد ثغراته.

معاهدة 1736م

في تلك الأثناء حصلت ثورة في جنوب غربي فارس، جعلت نادر شاه يعود أدراجه إليها، وحنث الفرس بمعاهدة أحمد باشا لعام 1732م كما هي طبائعهم، مما أدى إلى توقيع صلح جديد في سنة 1736م، وكان الأمل بدوامه قويا، وفعلا أعيدت الحدود إلى خطوطها القديمة، ولكن الحرب التي لم يكن استمرارها في صالح الطرفين لم تنته، وكان السبب في نشوبها يعود إلى إصرار الشاه على شروط كان من المستحيل على الدولة العثمانية القبول بها، فقد بعث الشاه إلى السلطان برسالة من قندهار في 1738م، يطلب فيها الحصول على ديار بكر وأرمينيا، وطلب أيضا تخلي السلطان العثماني عن حلفه مع المغول في الهند، وأن يأمر بتهديم ما تم ترميمه من سور بغداد، فلم يجبه السلطان على رسالته تلك، وفي تموز عام 1741م عبرت جيوش الدولة الفارسية حدود العراق من مندلي وشهرزور، وهددت بغداد بخطر الاجتياح، فبذل واليها أحمد باشا كل ما في طاقته من أجل تموين المدينة، وترميم سورها وحصونها وسد الثغرات، وفي ربيع عام 1743م وصلت رسل الشاه إلى بغداد تؤكد احترامه وتقديره لأحمد باشا، في محاولة لاستمالته بدلا من تهديده مباشرة، ولكن المعارك الكبرى لم تقع في بغداد، ولا في وسط العراق وإنما في شماله، فقد تقاطرت القوات الفارسية على مدينة كركوك، وحاصرت حصونها وفر كبار ضباط الحامية إلى الموصل، وجاءت الشائعات لتقول إن جيش الفرس يتألف من 300 ألف من المقاتلين الذين تتبعهم القوات النظامية.
مر جيش الشاه في القرى والأرياف فعاث فيها فسادا، في حين أن الموصل كانت مستعدة لمواجهة الجيش الفارسي، الذي كان يقوده نادر شاه وعسكر لمدة خمسة أيام، في منطقة يارمجة، وكان ذلك في أيلول عام 1843م، وبعد ذلك أمر بشن الهجوم على الموصل، التي صمدت صمودا لا نظير له، على الرغم من أهوال المعركة والخسائر التي تكبدتها المدينة، وبعد جولات من المعارك، ونتيجة عدم قدرة نادر شاه على تحقيق أهدافه في العراق، فقد تم توقيع معاهدة سنة 1746م بين الدولتين وهي معاهدة (نادر شاه)، مؤكدة ما جاء في معاهدة 1639م من وصف للحدود المشتركة دون تغيير.
يقول الدكتور علي الوردي في كتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث في وصف ما وقع، “في فجر يوم 4 تشرين الأول 1743 أمر نادر شاه بالهجوم العام على المدينة فاخذ الألوف من جنوده يتسلقون الأسوار بواسطة السلالم، كما بدأ العدو بتفجير الألغام تحت الأسوار، وحاولت المدفعية إحداث ثغرات في السور عند البرج الرئيس (باشطابية) إلا أن جيش نادر شاه قد فشل في محاولة الاقتحام بعد أن تصدى الموصليون لجيشه اضطر بعدها نادر شاه لطلب الصلح مع أهل الموصل فأرسل والي الموصل إليه وفدا لمفاوضته مؤلفا من ثلاثة رجال هم قاضي الموصل وعلى افندي الغلامي مفتي الشافعية بالمدينة وقره مصطفى بك”.
على أثر مقتل نادر شاه عام 1747م، نشب صراع بين بعض الطامحين في خلافته، فقد أعلن عادل شاه حكمه للبلاد، وجاء من بعده إبراهيم وأخيرا (شاه رخ) ولم يدم حكمه طويلا، فقد استمر التنافس على الحكم حتى تمكن كريم خان الزند، من السيطرة وبسط نفوذه على بلاد فارس، وجعل من نفسه وكيلا للشاه إسماعيل، واتخذ من شيراز عاصمة له، ومن هناك بدأ صفحة جديدة من النزاعات مع الدولة العثمانية، فأرسل قوة بقيادة أخيه صادق لفرض الحصار على البصرة سنة 1775م، ولكن الدولة العثمانية لم تسكت على تصرفات الشاه الجديد إذ تهيأت لمواجهته، ولكن محاولتها لم تُجدِ نفعا، فقد استطاع صادق من احتلال البصرة، وترك عليها ابن أخيه علي محمد خان، وتوجه نحو المنتفك فتصدت له القوات العثمانية والعشائر العربية، بقيادة شيخ المنتفك الشيخ ثامر، فأوقعوا بجيش كريم خان هزيمة أجهزت على معظم الجيش الفارسي، وعلى أثرها مات كريم خان كمدا سنة 1779م، وبعده اضطربت أوضاع بلاد فارس، وكان كريم خان الزند قد استخلف وراءه ابنه (أبي الفتح خان) ولكن عمه صادق قتله، وتناوب على الحكم كثيرون، حتى تمكن أحمد خان رئيس عشيرة قاجار التركية، من السيطرة على الحكم ونصب نفسه شاها وذلك عام 1790م واتخذ من طهران عاصة لملكه.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى