العنصر التنظيمي أو السيادة
لا يمكن للدولة أن تقوم من دون وجود هيئة حاكمة تتولى ممارسة السيادة على إقليمها، وهذه الهيئة هي التي تؤكد وحدة الدولة، وتُبرز شخصيتها بمواجهة الدول الأخرى.
ويُقصد بالعنصر التنظيمي، سيادة الدولة على بقعة جغرافية محددة من الأرض، تمارس عليها سلطاتها وتباشر وظائفها المعتادة، مما يؤّمن لشعبها الأمن والاستقرار والرفاهية، على قدر ما تضع من خطط وبرامج اقتصادية.
ويمكن أن تتخذ الهيئات الحاكمة أي شكل من أشكال الحكم، فهناك النظم الملكية وهناك النظم الجمهورية، وكلاً منها تنقسم إلى ديمقراطية أو دكتاتورية، ولكنها يجب أن تُبسط سيطرتها على إقليمها، هذا من الناحية النظرية، غير أن الواقع يقول شيئا آخر تماما، فكثير من النظم التي تَدعي أنها ديمقراطية، هي في واقع الحال ليست كذلك، بل يمكن القول من دون تردد، إن العالم اليوم لا يوجد فيه نظام ديمقراطي مثالي واحد، فما أكثر الممارسات التي تدلل على الخصوصية (سلطة القادة والرؤساء) في أكثر الدول ديمقراطية في العالم، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وغيرها، ويمكن الاستدلال على ذلك بتخطي إرادة الناخب وإرادة البرلمانات، في الذهاب إلى خيارات تقررها الشخصية القيادية في البلد، سواء كان رئيس الجمهورية كما هو الحال في الولايات المتحدة أو رئيس الوزراء كما هو الحال مع بريطانيا، عندما جرا بلديهما إلى خوض الحرب على العراق عام 2003م، على الرغم من الرفض الشعبي لخيار الحرب، ومارسا فيه ضغوطا سياسية مختلفة على السلطة التشريعية حتى استجابت لإرادتهما، والتضليل واسع النطاق الذي نفذته الدوائر الرسمية وأجهزة الإعلام أثناء استحضارات الحرب.
لقد تطور مفهوم السيادة الوطنية للدول على إقليمها، فبعد أن ظل يرمز إلى السلطة المطلقة للملوك والأمراء والتي لا يقيدها إلا الله والقانون الطبيعي، أصبحت ترمز إلى السلطة المطلقة للشعوب “على الأقل من الناحية النظرية”، ولم يكن هذا التطور ممكنا قبل الثورة الفرنسية، التي ألهمت المفكرين للانطلاق في عالم واسع من المفاهيم الجديدة الناتجة عن الشعارات التي رفعتها الثورة الفرنسية خاصة، وهي العدل والمساواة والإخاء.
واختلف الفقهاء المعاصرون بشأن مفهوم السيادة في الوقت الحاضر، فمنهم من يرى أنها المعيار الفاصل الذي يميز الدول عن غيرها من الجماعات السياسية التي لا يمكن النظر إليها كدول، ويراها آخرون على أنها من عناصر الدولة، والتي قام عليها ميثاق الأمم المتحدة.
ويمكن القول إن للسيادة مضمونين: داخلي ويعني حرية الدولة بالتصرف في شؤونها الداخلية، في تنظيم عمل الحكومة ومرافقها العامة، وفي فرض سلطانها على كل ما يوجد فوق إقليمها، من أشخاص وأشياء، من دون أن يحق لدولة أخرى أن تباشر سلطاتها على إقليم هذه الدولة، وتنظر بعض الدول إلى هذا الحق على أنه مقدس لا يجوز لأحد أن ينازعها عليه، غير أن التطور الحاصل في القوانين الدولية والدور المتزايد للمنظمات الدولية، في مراقبة سلوك الدول مع المواطنين سواء ما يتصل بتضييق حق الحكومات بالاعتقال التعسفي أو بتنفيذ أحكام الإعدام، وكذلك الإشراف على الانتخابات التشريعية، أو من خلال القوانين الجماعية المُنظمة لحرية التجارة، واقتصاد السوق، وما تفرضه المؤسسات المصرفية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من تدخلات لرسم سياسة الدول المالية، كل ذلك قلص المسافة بين حقوق السيادة التي كانت ميزة بارزة في حياة الدول في الماضي وبين الزحف البطيء للهيئات والمنظمات والمعاهدات والاتفاقيات الدولية على الدول.
يمكن أن يكون الدور الذي تمارسه المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، وغيرها من المنظمات الإقليمية، سواء منها السياسية أو الاقتصادية، مقبولاً أكثر مما تحاول الدول الكبرى بقوتها الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية، وبصفتها الخاصة فرضه على الدول الصغيرة، ولكن إبقاء مصائر الدول الصغيرة وخاصة تلك التي تمتلك ثروات طبيعية، رهناً بإرادة الدول الكبرى أو المنظمات الدولية والإقليمية، التي فقدت قدرتها على التأثير بسبب النفوذ المتعاظم للدول الكبرى على المنظمات الدولية.
وهناك مضمون خارجي، ويعني حرية الدولة في إدارة علاقاتها الدولية من دون خضوع لأية سلطة عليها، وقد دعم ميثاق الأمم المتحدة مبدأ السيادة الخارجية للدول في المادة الثانية منه، عندما أكد أن المنظمة العالمية تقوم على مبدأ المساواة في السيادة لجميع الدول، كما حرّم الميثاق التدخل في شؤون الدول الداخلية إلا في ظرف معين، هو تطبيق أحكام الفصل السابع، والذي يخص حفظ السلم والأمن الدوليين عند وقوع العدوان أو التهديد به، غير أن هذا المبدأ بدأ يعاني كثيرا من تعسف قرارات الأمم المتحدة نفسها، نتيجة الوصاية التي تمارسها عليها الدول الكبرى، أو عبر تدخل تلك الدول بالشؤون الداخلية للدول الصغيرة بتفويض ميكانيكي، تستطيع الحصول عليه من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تحت لافتة حماية حقوق الإنسان من الانتهاكات التي يتعرض مواطنو هذا البلد أو ذاك، من سلطات بلدانهم التي لا تلتزم بمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
أو التدخل في علاقات الدول مع بعضها، أو تفرض عليها قرارات وإجراءات وتدابير تتعارض مع مبدأ السيادة، كما حصل عندما فرض مجلس الأمن الدولي على العراق خطة ترسيم الحدود مع الكويت، خلافا لاختصاصات المجلس وللوثائق التاريخية ذات الصلة، مما ألحق إجحافاً واضحا بالعراق، وسلب منه مساحات واسعة من الأراضي، والشاطئ البحري المطل على الخليج العربي، وتجاوز على بعض المناطق النفطية والزراعية.
مع ذلك فإن الحكومة الكويتية لم تكتف بهذه السياسات الاستفزازية، بل ذهبت إلى إقامة ميناء بحري ضخم جدا يفوق حاجاتها التجارية ومكانتها الاقتصادية، اسمته ميناء مبارك الكبير على جزيرة بوبيان، مما سيلحق ضررا فادحا بالعراق نتيجة إغلاقه الممر الملاحي العراقي في خور عبد الله، وسيحصر الميناء المذكور الساحل العراقي بأقل من 50 كيلومترا، علما بأن الكويت تمتلك ساحلا طويلا، كان بإمكانها إقامة الميناء على أي جزء منه، وإذا ما استمرت الحكومة الكويتية بمحاولة إيذاء العراق على هذا النحو، فإنها تؤسس لحقبة جديدة ومزمنة من النزاعات المستمرة، والتي قد تتفجر في أي وقت تتغير فيه موازين القوى الدولية أو تحالفاتها.
إن الكويت تستطيع من الناحية النظرية، إقامة ما تشاء من منشآت على أي جزء من سواحلها الطويلة، ولكنها كانت تتعمد في إلحاق الضرر السياسي والجغرافي بالعراق، وتثبيت خط الحدود التعسفي الذي فرضه مجلس الأمن على العراق، حينما تختار جزءا من ساحلها المحاذي للعراق بهدف خنق العراق أو جره إلى مواجهة غير مستعد لها، ولا تستند على قوة ذاتية في كل هذه الخطوات، بل تستند على دعم خارجي من قوى تسعى لإضعاف العراق والمس بسيادته، إلا أن خطوة الكويت لا بد أن تستدعي تساؤلا عن الالتزامات القانونية للولايات المتحدة باعتبارها دولة محتلة للعراق في حماية حقوقه ومنع العدوان عن أراضيه.