سحبت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية ترخيص عمل وكالة الأنباء الدولية « رويترز»، لمدة ثلاثة أشهر وتغريمها 21 ألف دولار، لأنها نشرت تقريرا في الثاني من نيسان/ أبريل، نقلت فيه عن ثلاثة أطباء من المشاركين، بشكل وثيق في عملية إجراء الاختبارات لرصد الإصابات بفايروس كورونا، وعن مسؤول في وزارة الصحة، تأكديهم أن عدد حالات الإصابة المؤكدة بالفايروس في البلاد، يفوق الرقم المعلن من قبل الوزارة بآلاف، وان المصادر فضلت عدم الإفصاح عن اسمائها لأن السلطات أمرت الطواقم الطبية بعدم الحديث لوسائل الإعلام. أكدت «رويترز»، يوم 14 نيسان/ أبريل، صحة التقرير الذي، حسبما ذكرت، استندت فيه على « مصادر طبية وسياسية مؤهلة ومتعددة وإن رأي وزارة الصحة كان ممثلا فيه بصورة كاملة».
من الذي نصدقه عند قراءة تقرير عن مدى انتشار الإصابات بالفايروس، الناطق الرسمي العراقي أو وكالة الأنباء الأجنبية؟ أليس من الطبيعي أن نصدق التصريحات العراقية باعتبارها الأدرى بأحوال المواطنين؟ فلِم اذن يختار الكثيرون، التشكيك بالتصريحات الرسمية والميل نحو تصديق وكالات الأنباء الأجنبية؟
السبب الرئيسي هو تجذر الإحساس بعدم الثقة تجاه كل ما يقوم به النظام ويُصرح به، في عديد المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وانعكس سلبا على الجانب الصحي والتعليمي. وهو إحساس قديم تنامى بشكل متسارع بعد غزو واحتلال البلد في 2003. اذ ازدادت الهوة ما بين ما هو منجز وما يُصرح به بشكل هائل. وباتت منصات التصريحات الحكومية أماكن لإطلاق الأكاذيب المفضوحة. خاصة بعد ان أصبح الساسة ينطقون بأصوات سيدهم المحتل واختلطت التصريحات « الحكومية» بتصريحات متحدثي قوات الاحتلال. فمن الناحية الإعلامية: تم تسخير صحافيين عراقيين لنشر مقالات تحمل أسماءهم إلا انها مكتوبة من قبل الجهاز الدعائي لقوات الاحتلال.
هدفت المقالات الى تشويه المقاومة وتقديمها باعتبارها «سنية ـ إرهابية» والى تعزيز موقع قوات الاحتلال كطرف إنساني محايد في «الاقتتال» بين العراقيين أنفسهم. 30 دولارا كانت مكافأة الصحافي لقاء المقالة الواحدة، بينما كانت الخسارة جسيمة لا تعوض وهي ثقة المواطن بنزاهة ومصداقية الصحافة وانعكاس عدم التصديق على ما تقدمه من معلومات حتى لو كانت حقيقية ولصالح المواطن فعلا.
من الناحيتين الأمنية والعسكرية، يعيش المواطن، غالبا، على اخبار الوكالات والصحافيين الأجانب ليعرف ماذا يحدث في بلده، بل وعلى الرغم من أكاذيب قوات الاحتلال المنهجية، كُشفت بعض الجرائم المروعة من قبل جنود للاحتلال، أصيبوا بنوبة صحو ضمير، وليس من قبل مسؤولين أو ساسة عراقيين.
ينشغل مسؤولو وزارة الصحة، بمناصبهم الموزعة ضمن المحاصصة الطائفية ـ السياسية، بتوقيع عقود مستشفيات لا تكتمل، واستيراد أدوية ومعدات وهمية
ولنأخذ الأمثلة التي خضّت العالم أخلاقيا. طقوس التعذيب والقتل في أبو غريب، عام 2004، من الذي كشفها؟ استخدام اليورانيوم المنضب والفسفور الأبيض ضد المقاومة في مدينة الفلوجة في 2004، من الذي كشفه؟ مجزرة حديثة في 2005، وحرق الطفلة عبير الجنابي وعائلتها بعد اغتصابها، عام 2006، من الذي كشفهما؟ مجرم الحرب إدوارد غالاغر، ضابط الصفّ في وحدة القوات الخاصة بالبحرية الأمريكية، من الذي كشفه؟ لم يكشف هذه الجرائم، التي تشكل قمة الجبل الجليدي المطمور، ساسة أو مسؤولون عراقيون، ولم يشر أي منهم اليها الا من باب اتهام الضحايا بالإرهاب مما يعني الحكم عليهم انهم بالموت.
تستدعي هذه المراجعة التساؤل عن ماهية المقياس الأخلاقي الذي يستند اليه المتحدثون الرسميون، وكيف التحقق من صحة تصريحاتهم، والوثوق بهم، عند مقارنتها بسجل صمتهم أو تواطئهم المستدام، إزاء جرائم يدينها العالم الإنساني، منذ عام 2003 وحتى اليوم؟ آخذين بنظر الاعتبار ان ما يمر به العراق ليس تاريخا سحيقا ليس بالإمكان التحقق من صحة وقائعه تاركا الناس متأرجحين بين هذه السردية وتلك. بمعنى أنها وقائع معاشة، يعرفها المواطن كل المعرفة. وفي عصر الصورة والفيديو والتواصل الاجتماعي والتوثيق والأرشفة اليومية من الصعب جدا إخفاء حقيقة الأحداث إلا إذا أراد المرء باختياره ولمصلحته الا يرى. ولعل أكاذيب مسؤولي النظام ومتحدثيه الرسميين عن الجرائم التي ارتكبت بحق المنتفضين في ساحات التحرير منذ تشرين/ أكتوبر 2019 وحتى الأيام الأخيرة، أفضل مثال عن الذين يختارون الا يروا، وإذا رأوا فبعين واحدة. ألم يقفوا اليوم بعد الآخر مصرحين بان قتل وجرح واختطاف آلاف المنتفضين، والموثقة بالصور والفيديوهات والفضائيات، مرتكبة من قبل «طرف ثالث» او «مجهولين»؟
ما ساعد على انخفاض الثقة بصدق وأخلاقية المتحدثين الرسميين، أيضا، سياسة تكميم أفواه الصحافيين إذا ما حدث ومس أحدهم عصبا حيا في جسد أحد المسؤولين الحكوميين أو قادة الميليشيات او من يتمتعون بالعصمة الدينية. فكان التخلص من الصحافيين الأجانب، واحدا من الخطوات الاولى لمنع اطلاع العالم الخارجي على ما يجري بالعراق، ثم تم التركيز على الإعلام العراقي المستقل ليحتل البلد، على مدى سنوات، أعلى قائمة الدول الأكثر خطرا للعمل الصحافي. وحين ظهرت صحافة المواطن ومارسها ناشطون، معظمهم من الشباب، امتدت إليهم ايادي ميليشيات الاختطاف والقتل، خاصة منذ انبثاق انتفاضة تشرين التي لاتزال مستمرة، وان بشكل محدود، بناء على قرار اتخذه المنتفضون حفاظا على حياة عموم المواطنين من انتشار وباء كورونا. وهو موقف ناضج يؤكد حرصهم على حياة الجميع، كما هو موقف العاملين في الجهاز الطبي، الذين يقومون بجهود جبارة لرعاية المصابين وعموم المواطنين، ضمن حدود الإمكانيات الفقيرة وظروف الإهمال التي يعيشها الجانب الصحي بانحدار متسارع منذ الاحتلال، والتي يتحمل مسؤوليتها ساسة العقود الوهمية، الى حد باتت فيه مستشفيات واحد من بلدان العالم الغنية، متهالكة تستجدي الأدوية والأجهزة والمعدات من المحسنين، بينما ينشغل مسؤولو وزارة الصحة، بمناصبهم الموزعة ضمن المحاصصة الطائفية ـ السياسية، بتوقيع عقود مستشفيات لا تكتمل، واستيراد أدوية ومعدات وهمية، معلنة بين الحين والآخر، عن انجاز «ضخم» لصالح المواطنين، كما فعلت منذ أيام، حين تباهت بتجهيز مركز للتبرع بالدم بكراسي عدد أربعة، مما دفع احد المواطنين الى ارسال تهنئة الى الوزارة، داعيا الله عز وجل ان تتمكن الوزارة من شراء مناضد شاي لتوضع امام الكراسي.
تفاصيل الفساد المعلب بالتضليل والاكاذيب، هي التي تدفع المواطن الى الشك بما يقدمه « الناطق الرسمي» من اهل بلده، ويفضل هضم وتداول الاخبار المقدمة اليه من خارج البلد. وهو موقف قد يبدو بسيطا الا انه بترجرجه خطر جدا ما لم يكن المواطن نفسه واعيا، وقادرا على الفصل بين العمل الحقيقي الذي تؤديه الهياكل الطبية مثلا والتضليل الإعلامي لنظام فاسد خاصة وان منع وكالة مثل «رويترز» سيؤدي الى تعزيز مصداقيتها وليس العكس.
تعليق واحد