بعد ستة عشر عاما من حكم تحالف حزب الاتحاد المسيحي برئاسة انجيلا ميركل والحزب الاجتماعي المسيحي البافاري فقد اسفرت الانتخابات الأخيرة عن خسارة مهينة للتحالف المسيحي وخسارة ناخبيه لصالح بقية الأحزاب , وقد كانت تلك السنوات الستة عشر من افضل سنوات استقرار السياسة الألمانية ليس بفضل مبادئ و أفكار تحالف الحزبين اليمينيين وانما بسبب شخصية وخبرة المستشارة انجيلا ميركل , فالتحالف المسيحي هو يميني تقليدي ولا يميل الى الانفتاح او التجديد وانما الى التقليد في السياسة الداخلية ومحاباة الشركات الألمانية الكبرى على حساب مصلحة الشعب والتبعية للسياسة الامريكية لضمان الاستمرار في الحكم وقد خرجت ميركل بفلسفة جديدة وأسلوب جديد في الحكم سوف لن يتمكن التحالف المسيحي بعد مرحلة ميركل من انتهاج نفس سياسة الانفتاح ومواكبة التطورات المتلاحقة بعيدا عن البيروقراطية التي عشعشت في إدارة الدولة الالمانية.
الانتخابات الألمانية عادة لا تشهد موجات تغيير كبيرة في توجهات الناخبين وصعود وهبوط الاحزاب بشكل سريع او كبير , ومرحلة ما بعد الوحدة الألمانية قد شهدت نوعا من الاستقرار لكن خلال الفترة الثانية من حكم انجيلا ميركل وما شهدته المانيا والعالم من تغييرات قد انعكس على الناخب الألماني , فألمانيا الشرقية التي كان يحكمها الحزب الشيوعي قد تقلص نفوذ الشيوعيين الى الحد الأدنى في الانتخابات السابقة وهو 5% وهي النسبة التي تؤهله للحصول على مقعد برلماني حسب قانون البرلمان الألماني وهذه السنة قد حصل على 4,9% ولولا نظام انتخابات الذي ينص على ان الحزب الذي يفوز ثلاثة من أعضائه بالاقتراع المباشر للولايات سيحصل على مقعد برلماني فان الشيوعيين لن يحصلوا على مقعد في البرلمان ومن المؤكد انهم لن يصعدوا للبرلمان في الانتخابات القادمة وذلك حسب التراجع المستمر في شعبيته وعدد ناخبيه , اذن اين ذهب جمهور الحزب الشيوعي الألماني الشرقي اذن ؟ لقد تحول الكثير منهم الى حزب البديل من اجل المانيا وهو حزب يميني قريب للنازيين الجدد وهذا التحول من اقصى اليسار الى اقصى اليمين سببه هو ردود الأفعال النفسية الطبيعية للإنسان عندما يتعرض الى الظلم او الى أيديولوجية غريبه عنه وبالإكراه سوف يرتد بعكس ما كان عليه لفترات طويلة وسوف تستقر الحالة النفسية لهؤلاء الناخبين في الانتخابات القادمة ويبدأ الحزب البديل بالاضمحلال حاله حال الشيوعيين ويتفهم الناخبين اين تكمن مصلحتهم. وهذه الحالة مشابهة للحالة في العراق فكل الأحزاب دينية والدولة كلها دينية وممارسة الظلم باسم الدين لذلك فان الشعب العراقي سيكره النظام الديني ويرتد باتجاه عكسي الى دولة تحرم على الدين التدخل في شؤون الحكم.
ان الصعود القوي كان لحزب الخضر الذي تبنى سياسة الحفاظ على البيئة ومواجهة التغييرات المناخية خصوصا بعد كارثة الفيضانات التي اجتاحت ولايات غرب المانيا قبل شهرين والذي ارتفع رصيده في الانتخابات بشكل كبير خلال اخر ثلاث انتخابات من نسبة 6% الى 11% الى 14.9% وقد أصبح حزب الخضر ثالث أكبر الأحزاب الألمانية ومستقبل حزب الخضر سيكون المتصدر الثاني خلال الانتخابات القادمة.
اما الحزب الذي فاز بالانتخابات بأعلى نسبة من الأصوات هو الحزب الديمقراطي الاشتراكي والذي تغلب على تحالف الحزبين المسيحيين بنسبة 25.7% مقابل 24.1% لتحالف الحزبين المسيحيين وهذا يعتبر انتصارا كبيرا ضمن معادلة صعود حزبي الاشتراطي الديمقراطي اليساري وحزب الخضر اليساري.
ماهي سياسة الحزب الديمقراطي الاشتراكي؟ ومن هو مرشحه الذي فاز السيد اولاف شولتز؟
ان سياسة الحزب الديمقراطي الاشتراكي هي سياسة الانفتاح على العالم ومساندة قضايا دول العالم الثالث والاستقلالية في السياسة الخارجية وهذا بالعكس تماما من سياسة حزب ميركل الديمقراطي المسيحي المحافظ , وضمن برنامج الحزب الاشتراكي الذي تم طرحه في الانتخابات الأخيرة هو زيادة الأجور وتسهيل منح الجنسية الى اللاجئين ورفع وتيرة الاقتصاد وفي السياسة الخارجية يطالب الاشتراكيين بوحدة أوروبية قوية وباستقلال القرار السياسي الأوروبي عن القرار السياسي الأمريكي ونشر العدالة في العالم من حيث توزيع الثروات وكبح جماح التدخلات في شؤون العالم الثالث , فالحكومة الألمانية القادمة اذن سيكون لها دور إيجابي في العالم بشكل عام والشرق الأوسط بشكل خاص , اولاف شولتز رئيس الحزب الذي فاز في الانتخابات قد بدأ عمله السياسي في الحزب وعمره سبعة عشر عاما وهو محامي ناجح وقد شغل منصب حاكم ولاية هامبورغ سنوات عديدة اثبت نجاحا باهرا ووضع لمسات مهمة على الولاية بشكل كبير وبعد ذلك عمل في منصب وزير المالية ثم مساعد المستشارة انجيلا ميركل وقد اثبت نجاحا كبيرا في منصبه ذلك , الصحافة اليمينية الألمانية تصفه بانه الرجل الأكثر مللا في عالم السياسة لكن الصحافة الشعبية تصفه بالرجل الديناميكي الجاد والذي تجد عنده افضل الحلول في اسوأ الظروف واولاف شولتز يمثل الوجه الجدي والحازم للسياسيين الألماني في الشارع الألماني وقد انتخبته الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة وهي التي تمثل معظم الراي العام.
في النهاية قد يتصور العالم ان ميركل هي المرأة النموذجية الحديدية الناجحة لكن هذا غير صحيح لان خبرتها العلمية والسياسية وهي التي تحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء النووية وقد تتلمذت على يد المستشار السابق هلموت كول وقوة النظام المؤسسي الألماني , لها نصف سبب النجاح وقوة تطبيق القوانين من قبل الشعب الألماني بما يتمتع به من وعي له النصف الثاني من سبب النجاح , وقد أخطأت ميركل كثيرا خلال مسيرتها واخر تلك الأخطاء هي التمهل في مواجهة جائحة كورونا وفضيحة الكمامات وفضيحة الترويج للشركة المالية الصينية خلال زيارتها للصين وقد تخرج فضائح أخرى مستقبلا من خلال مراجعة الحكومة الجديدة لملفات حكومة ميركل .
المهم للعالم العربي فان المانيا اشتراكية ديمقراطية المتحالفة مع حزب الخضر هي التي ستقود أوروبا وسيكون لها تأثير إيجابي في العلاقات مع الأقطار العربية وسوف تطوى صفحة ميركل التي سمحت باستعمال أوراق ضغط كثيرة على الدول العربية منها استغلال الاخوان المسلمين المقيمين في المانيا من اجل مهاجمة الأقطار العربية ومد قوى التطرف وفوضى ما يسمى الربيع العربي بمختلف أنواع الدعم وسوف ترتدع الصحف الفوضوية اليمينية في تحريض الراي العام الألماني ضد العرب والمسلمين وسوف تتناغم السياسة الألمانية الجديدة مع السياسة الامريكية بقيادة الرئيس بايدن في إعادة التوازن والعقلانية للعلاقات الدولية لفترة الخمس سنوات القادمة على الأقل .
مقابلة اذاعية مع كاتب المقال على ستوديو الحدث وبالتعاون مع موقع DW الالماني حول نفس موضوع المقال
مقال جيد يصف بدقة الوضع نامل ان تكون الحكومة على التعامل بالملف العربي وخاصة الفلسطيني بتوازن
عندما كان جيرارد شنودر مستشار قبل ميركل وهو زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي فاز بالانتخابات الاسبوع الماضي كانت مواقف المانيا عادلة فقد رفض شنودر غزو العراق في ٢٠٠٣ وقال ليس هناك قرار اممي ورفض دفع أي مبالغ لإسرائيل وقال نخن لا ندفع الأموال لإسرائيل لكي يقتلوا الفلسطينيين وهذا سيتكرر الان طبعا مع مستشار الحزب الاشتراكي