بعد أن أرتقت سيارتنا إلى الشارع العام ثم أخذت ساحة النسور، استدارت إلى اليسار ومضت لا تلوي على شيء، ثم دلفت إلى شارع الربيع من شارع المأمون الممتد من ساحة النسور إلى أبي غريب، بين حيي المأمون على اليمين واليرموك على اليسار، ولم أشعر بلذة المرور في شوارع بغداد كما كنت أتمنى، لأنني رأيت شوارع بغداد مقفرة وكئيبة كما لم يحصل معها منذ زمن بعيد، إذ كانت تعج بالحركة والحياة على مدار ساعات اليوم حتى يتصور المرء بأنها المدينة التي لا تنام، ما أراه ناجم عن العدوان الثلاثيني الذي قادته الولايات المتحدة وشارك فيه القريب والبعيد فدّمر كل شواهد العمران في العراق، بل وحاول قتل إنسانية الإنسان العراقي، ثم جاء من بعده الحصار الاقتصادي الظالم الذي حرم تلاميذ المدارس الابتدائية حتى من قلم الرصاص، ومنع عن الأطفال الحليب اللازم لاستمرار حياتهم، ومنع الأدوية عن المرضى فسقط مئات الآلاف من أطفال العراق والشيوخ والأمهات ضحايا الظلم والحقد اللذين ميّزت سياسة الولايات المتحدة والغرب عموما، كما أن وحشة الطريق بدت لي بسبب البرد الشديد الذي كان يطوقني من كل جانب ويلسع أضلعي، ولأن المطر كان ما يزال يهطل وإن كان بدرجة أقل، ولأن سيارتي قديمة فإن ماسحات الزجاجة الأمامية لم تكن تعمل بكفاءة فأضاعت عليّ الإحساس بلذة رؤية الطريق.
قالت لي زوجتي إنها قطعت على نفسها عهدا إن عاد نزار من الأسر، أن ترمي صلية كاملة من بندقية الكلاشنكوف التي تركتها في المنزل، وهي من مقتنياتي من يوم ثورة 17 تموز 1968، مع مسدس برونيك بلجيكي الصنع، سألتها وهل مثل هذا التصرف مستساغ والذي سيتسبب بإزعاج جيراننا ولن يخلو من إثارة الرعب لدى كثيرين؟ وماذا سيتوقعون، باشرت دوري القيادي لأول مرة منذ عشرين سنة، فقلت لا أقبل بهذا ولا أسمح به، قالت وماذا عن النذر والله سبحانه وتعالى يقول “يوفون بالنذر”، قلت لها أنا أدفع كفارة التراجع عن هذا النذر، ولما رأت إصراري على موقفي أذعنت أمام الأمر الواقع، ولكنها بمجرد دخولنا إلى الشارع الفرعي الرئيسي الذي يبعد عن الشارع الفرعي الثانوي الذي يقع فيه منزلي بحدود 90 متراً، أطلقت لجهاز التنبيه (الهورن) في السيارة العنان، وأيقظت الجيران جميعاً ولكن بدون إثارة الرعب في نفوس أتعبتها ظروف الحصار الاقتصادي والبرد والمطر، وبمجرد دخولنا البيت أخرجت المسدس وأطلقت منه عشر إطلاقات، وكأنه كفارة عن عدم الإيفاء بنذرها، ذهب الجيران في تفسير ما جرى مذاهب شتى، منهم من ظن أن مولودا ذكرا جديدا قد حل في أحد البيوت بعد طول انتظار، ومنهم من ظن أن عروسين قد عادا فجأة من شهر العسل، أو أن مسافرا قد عاد من دراسة في الخارج، ولكن أحدا لم يفكر لحظة أن نزار السامرائي المقطوعة أخباره قد بُعث من بين القبور.
بعد دخولنا باب المنزل الخارجي وعند استقرار السيارة في الكراج نزلت منها ، فالبرد جمد أضلاعي وأوقف الدورة الدموية في عروقي، واستنفد كل ما كنت قد اختزنته من مقاومة بدنية لمقاومة الظروف المناخية وهي ذخيرة بالية، نظرت إلى حديقته الجميلة عندما رأتني زوجتي اتطلع باهتمام للحديقة التي كنت أحبها وأوليها عناية فائقة، قالت لي بأن الفلاح إبراهيم استمر بالعمل فيها وفاءً منه لصداقتك، ثم أقامت لي زوجتي أول وجبة افطار منزلية منذ أكثر من عشرين سنة يا له من إحساس غامر بالسعادة أن يبدأ الرجل يومه بفطور في بيته، لم أتناول مثله منذ دخولي معسكر التدريب في مثل هذا الشهر من عام 1982، ومع ذلك لم اتمكن من اكمال فطوري الأول بعد وصول اول ضيف، كنت جالسا في المطبخ الذي حولته سهام إلى غرفة طعام مع أثاث لم يكن معروفا في عالم الأثاث من قِبلي على الأقل واسمه الديوان، ثم بدأ تقاطر الأهل والأقارب المقيمين في بغداد.
بدأ الجيران القريبون بالتوافد علينا من دون استئذان للتعرف على جلية الأمر، بعد أن عرفوا أن جارهم المفقود منذ عشرين عاما قد عاد من الأسر في إيران، لمشاركة أهل الدار فرحتهم وفقا للتقاليد البغدادية التي لن تزيلها كل مظاهر التطور اللاحق، وقدموا التهنئة بسلامة خروج العائد من مقبرة الأحياء.
في تلك اللحظات بدا لي وكأن الدنيا تسفر عن وجهها الجميل بالتدريج، وكأنها فاتنة حيية ترتدي حجابا وخمارا لا تسمح لغير حليلها أن يراه، دخلت البيت وأنا اتلفت يمنة ويسرة بدهشة المكتشف لشيء جديد وكأنني أراه أول مرة،
حاولت أن أهرب من معاناة الوصول ومن لم أجده في انتظاري، فغادرت المشهد كله، وكم تمنيت أن أسمع من زوجتي صدمتهم في أول يوم سمعوا بأسري، فقد عادت بي عقارب الساعة إلى الوراء عشرين عاما خلت، وحاولت أن استذكر مع زوجتي أحداث الأيام الأولى لأسري، كان لواؤنا اللواء 11 مهمات خاصة الذي انتسب إليه قد تحرك يوم 16 آذار 1982، من معسكر الورار قرب مدينة الرمادي، وفي طريقنا من بغداد نحو جبهة القتال في قاطع العمارة مررت على سهام في مدرسة العدل الابتدائية المختلطة التي تشتغل معلمة فيها، لتوديعها لاسيما وأنني لم أودع أحدا من أهلي ولم أكتب وصيتي قبل الذهاب إلى معركة يشكل الموت أبرز احتمالاتها، فلم أضع في حساباتي حالة الأسر التي كنت معبئا نفسيا ضدها كما هو شأن معظم العراقيين، قالت لي وهي تداري دمعة حزينة لم أشأ النظر إليها، إذن أصبح رحيلك حقيقة؟ قلت لها وأنا أبذل ما في طاقتي من عزم، أن أدافع عن بيتي على سياجه الخارجي خير من أدافع عنه على أبواب غرفه الداخلية بوجه عدو غادر لا تتوقف أطماعه عند حد، كنت مقتنعا بهذا الموقف الأخلاقي الوطني، قلت لها ولكنني سأتركك لوحدك في البيت وسأبقى قلقا عليك، قالت وهي تشدّ من عزمي، توكل على الله واذهب لما اخترته والله يحرسك وهو معي أيضا، ثم إن (عمتي) ستأتي إلي.
كنت قد تزوجت في ليلة الثامن من شباط ذكرى ثورة رمضان المباركة، وكان ذلك في عام 1971، ولكنني وزوجتي لم نرزق بأولاد والحمد لله على كل حال، على هذا فإن ذهابي للجبهة قد يبدو تخلياً عن التزام عائلي كبير، تركتها في عناية الله مع أني أجهدت نفسي في تدبير جانب من وضعها الجديد، إذ عملت على نقل شقيقتي إقبال من معهد المعلمات في الموصل إلى معهد المعلمات في بغداد، ومن أجل ذلك قابلت وزير التربية في ذلك الوقت السيد عبد القادر عز الدين الذي وعدني خيرا، وهذا ما خفف من معاناة ظننت أنها لن تكون طويلة في جبهة الحرب فواجبنا مؤقت، ومع ذلك ظل هذا الشعور ملازماً لي من يوم توجهت إلى الجبهة ثم أُسرت بعد ذلك، مع أنني جربتها في الملمات وكنت على ثقة من قدرتها على مواجهة كل الظروف مهما كانت صعبة، وطمأنتني على نفسها، وقالت لي كلها أيام معدودات وتعود إلي إن شاء الله سالماً.
يوم 24 آذار 1982 وهو اليوم الذي أُسرت فيه في قاطع العمليات في الشوش، كانت والدتي رحمها الله في منزلي ببغداد بحي العدل، بعد أن تركت أبي وبيتها في سامراء، تقول سهام كنت وعمتي وتقصد (والدتي) في المنزل، وبعد صلاة العصر زارتنا في البيت أم مروان زوجة السفير العراقي السابق في المغرب (الشهيد العقيد الركن عدنان شريف شهاب رحمه الله والذي استشهد خلال رحلة استطلاع بطائرة هليكوبتر في قاطع عمليات الفرقة الثانية في منطقة بدرة في الأيام الأولى للعدوان الإيراني)، وكنت على صداقة متينة معه نسجت خيوطها الثقة المتبادلة والتفاني في العمل، أثناء عملي في السفارة العراقية كمستشار صحفي أثناء وجوده في المغرب سفيرا للعراق، جاءت أم مروان إلى منزلي من غير ترتيب سابق، وهذا ما أثار تساؤلات ملحّة عن أسباب الزيارة المفاجئة، تقول زوجتي (على الرغم من أننا من كان يجب أن يزورها وليس العكس كون زوجها المرحوم عدنان شريف شهاب كان قد استشهد في الحرب إلا أنها هي التي بادرت لزيارتنا، نقلت هذه الأفكار لعمتي “لأمي رحمها الله” من غير أن تعلق عليها)، ولكنها لم تبد شيئا مما كانت تعلمه علم اليقين، من السيد رعد حماد شهاب، وهذا أثار تساؤلات أكثر مما أعطى تطمينات وغادرتنا بعد أن ودعتنا بكلمات مبهمة.
بصورة مفاجئة دخل مأمون إلى البيت وكان وجهه مصفرا من انفعال حاد وغامض، وكان يرتجف ولا يستطيع السيطرة على مشاعره، وكانت الكلمات تخرج من فمه بارتعاشة واضحة، فلم يفهم أحد، هل كان يتكلم مع نفسه أم معنا أم أنه كان يفعل شيئا آخر، اشرأب رأس الحاجة أم نزار نحو مأمون بقلق لم تتمكن من إخفائه، سألت ما بك ماذا حصل؟ عادت بها الذكرى إلى يوم غرق علي أصغر أبنائها في أيلول عام 1980، عندما تأخر عن العودة إلى البيت وسألت إخوته عنه ولم يُحرْ أحد منهم جواباً، ومع المغيب وعندما بدأت صوت المؤذن يأتي من مكبرة الصوت في المسجد الجامع في سامراء، وعلى الرغم من أن الوقت لم يكن وقت سباحة في النهر، غصت من دون لقمة وصرخت بصوت محبوس لقد غرق أخوكم، في تلك اللحظة عادت إليها أطياف الحزن نفسها، فأردفت كلامها لمأمون بكلمات يائسة ونبرة حزينة تطفح بالمرارة…. قل ماذا حصل لنزار؟
لم يتمكن مأمون من تنظيم أفكاره وترتيب كلماته كي لا يفقد أمه ونزار معاً، لاسيما أنه يتذكر أنها دخلت في غيبوبة قبل سنة ونصف، عندما تأكد لها بالحدس أن عليْ سوف لن يعود إلى البيت ماشيا على قدميه، فخشي عليها من أن تلحق بنزار وكل أفراد الأسرة بحاجة إلى وجودها وخاصة الوالد.
بعد أن استرد مأمون شيئا من رباطة جأشه وتماسكه قال “نزار مفقود أو أسير”، لم يسمع أحد بعدها كلمة مفهومة واحدة، فقد تعالى الصراخ من فم الأم وفم الزوجة في وقت واحد، حاول تهدئة المشاعر ولكنه عاد بلا نتيجة، حاول أن يستدرجهما إلى دفعة من الأمل المزعوم، فقال أعطونا فرصة للبحث والتأكد فالأمر ما زال في ظهر الغيب ولا أحد يدري ما الذي حصل في جبهة فيها عشرات الآلاف من المقاتلين من جنود في الجيش وألوية مهمات خاصة وجيش شعبي، وإن كان حصل له شيء فليس هو وحده من فُقد هناك معه الآلاف، وماذا يمكن أن يهدئ حديث مثل هذا من مشاعر أمّ أو زوجة؟ ربما لم تتمكنا من التعبير صراحة عما يختلج في دواخلهما، ولكن الأم “أي أم” تريد أبناءها الناجين من كل كرب ونازلة مهما تعدد الضحايا، وكذلك الزوجة تريد زوجا ناجيا، يمكن أن تتعاطفا مع أحزان الأخريات، ولكن حزنهما على من تفقدان لا يعادله شيء أبداً، وتقول سهام بادرنا للذهاب إلى منزل أم رعد وهي زوجة الفريق حماد شهاب وزير الدفاع رحمه الله الذي استشهد في مؤامرة ناظم كزار عام 1973، لسؤالها عن مصيرك، “كان رعد حماد شهاب معاون السرية الأولى لواء 11 مهمات خاصة التي كنت آمرها، ولم نحصل منها على معلومات مؤكدة.
ولكننا مع مرور الأيام والأسابيع والشهور والسنوات، تأكدنا أن نزار فُقد في معركة خاسرة في الشوش في قاطع العمارة “أي قاطع الفيلق الرابع للجيش العراقي، فقرر مأمون الذهاب إلى العمارة لاستطلاع الموقف، فتطوع معه كل من الصديقين العزيزين السيد صلاح الحافظ مهدي والسيد محمود عبد الرزاق العزاوي للسفر إلى العمارة بسيارة السيد صلاح الحافظ مهدي، ومن مفارقات المشهد المأساوي أن الملازم قوات خاصة عدنان عبد الرزاق العزاوي وابن شقيقته الملازم ق. خ عمار عبد القادر العزاوي، وقعا في الأسر بعد أسري بشهرين في عمليات المحمرة 1982، وقد استشهد الملازم عدنان رحمه الله في معسكر قمصر كاشان نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي، بسبب مرض السكر الذي نخر جسمه وإهمال الجانب الإيراني المتعمد لمرضى معسكرنا الخاص بالمعاقبين وكبار الضباط، نعم، وحشية السجان الإيراني لم تلتفت إلى آلاف الحالات المرضية التي يجب أن تخضع للعناية الطبية المستمرة أو يتم تبادل أصحابها، ولكن إنسانية الإسلام الإيراني المزعوم توقفت عند أبواب الإنسانية ولم تجتزه، كانت سياط الجلاد الإيراني المحترف منهم والهاوي، تنتهك ظهور الأسرى بقوة تفوق كل انتهاكاتها لكل ما ترفعه دولة الولي الفقيه من شعارات للاستهلاك السياسي عربيا ودوليا، أمام مسمع الصليب الأحمر الدولي الذي لم نعرف لونه أو علمه أو ما يرفعه من شعارات إنسانية، لا تختلف كثيرا عما كان يُرفع في إيران، وأخيرا رأينا الصليب بعد عودتنا إلى العراق، على الرغم من أنه كان يعي ويسمع بوجود معسكرنا المخفي في “خرابة ناصر شاه” قُمْصر كاشان منذ 1991 وحتى 2001، وقبل ذلك في قلعة سنك بست.
عمي الدكتور شامل السامرائي رحمه الله، قصّ عليّ كيف أن جميع الأهل والأقارب قد صعقهم نبأ أسرك، ولا يمكنك أن تتصور كيف عاش أبوك وأمك المحنة وكيف واجهها؟ أما اخوتك وأخواتك فالجميع في عزاء من دون جنازة، ويلتجؤون إلى كل من يدخل عليهم ويستنجدون به ويستفسرون منه عن أخبارك، وكأنه يمتلك حلا سحريا أو جوابا يُطمئن قلوبهم الموجوعة، كما أن جدتك عانت من أحزان مريرة على خبر فقدانك، وكذلك أم أندلس والبنات وعمك عبد الرحمن وعماتك من دون استثناء، وكنا نسمع أنينا حيناً وصراخا في معظم الأحيان، لهذا قررت أن نذهب أنا ومأمون لمقابلة وزير الإعلام السيد لطيف الدليمي، الذي استقبلنا في مكتبه بترحاب، ولكنه أخبرنا بأنه أراد أن يثنيك عن الذهاب إلى الجبهة لأنك كان ينبغي أن تسافر رئيسا للوفد العراقي لمؤتمر اليونسكو المقرر عقده في المكسيك، ومن بعدها تسافر إلى موريتانيا لتلتحق بالوفد العراقي إلى اجتماعات اللجنة العراقية الموريتانية المشتركة، وقال عمي شامل، أخبرنا الوزير بأنك صممت على الذهاب إلى الجبهة ضاربا عرض الحائط كل محاولاته.
381