أعود إلى منزلي لأتابع الساعات الأولى لعودتي إليه قبل أن أغادر اليوم الأول، خلال أيام ربما امتدت لشهرين، لم يستأذننا أحدٌ لزيارتنا أو حتى يُحدد لنا موعداً للزيارة، كما أننا لم ندعو أحداً لزيارتنا، كانت كل الزيارات وهي كثيرة جدا، تتم من دون إشعارٍ مسبق، وكأن بيتي تحوَل إلى أحد المزارات بلا مواعيد ولا موافقات، لأن الذين يزوروننا يريدون الاطمئنان على قريب بعد غربة طويلة، أو غرباء يريدون البحث عن معلومة تُطفئ لظى قلوب أحرقها الشوق إلى غائبين.
امتدت حشود الزوار بالتقاطر من الضحى وحتى المساء، لأسابيع كثيرة وخاصة من الأقارب والأصدقاء، تذكرت القليلين منهم، ولكنني تعرفت على الآخرين بصعوبة ولم أعرف من جاء إلى الدنيا من بعدي، وهذا أمر طبيعي حتى في غيبة أقصر من الغيبة التي أمضيتها في إيران، لاسيما وأنني وبعد ان قَطَعَنا الايرانيون عن العالم عشرين سنة، لم أكن أعرف بتفاصيل حياة أخوتي ولا بالتطورات المفرحة ولا الحزينة التي مرت عليهم.
نهض بعض أقاربي بتكاليف الضيافة من وجبات طعام الفطور والغداء والعشاء، كثيرٌ من أقربائي كانوا يبيتون عندنا في البيت، وهذا شيء طبيعي جدا في بلد له هذا الموروث الغني من التقاليد العربية العريقة والجميلة، ويبدو أن تَطوعَ الذين كانوا يجلبون وجبات الطعام من مطاعم بغداد الفاخرة، كانوا يعرفون أن تَحملَ عائدٍ من الأسر، لمثل هذه الفعاليات يعني إرهاقَ ميزانيته المتعبة أصلا، ولكنهم قطعاً لم يخططوا للقيام بهذا الواجب لزمن طويل، خاصة في بلد يعاني أبناؤه من الضائقة المعاشية التي عانى منها وطنهم بسبب الحصار الاقتصادي، وكان طبيعياً أن تكون لكل شيء نهاية، وهكذا توقفت مآدب الأقارب والأصدقاء، مما أدى أن انهض بهذه المسؤولية وأخصص جزءً من ميزانيتي لغرض تهيئة الموائد للضيوف، وقد تعاون أخوتي معي على تغطية جانب مهم من تكاليفها، بعد ترقيق كمياتها وعلى قدر عدد الضيوف مع قليل من الاحتياط.
كان هناك نوع آخر من الزوار وهم من عائلات بعض الأسرى المجهولي المصير، كان بعضهم بل كثير منهم ما زالوا في معسكرات الأسر الإيرانية بما فيهم أسرى معسكر قمصر كاشان “خرابة ناصر شاه” والذين تم نقلهم معنا يوم 25 آب 2001 إلى معسكر برندك الذي كان محطتنا الأخيرة قبل العودة إلى العراق، ولكنّ أسماءهم لم تُدرج في قائمة التبادل معنا بل عادوا إلى العراق ليلة بدء عدوان 2003، هؤلاء لم يُثبّتوا لدى اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي كما كان حالي ايضاً، مع أن كثيراً منهم أمضى في الأسر أكثر من عشرين سنة، نتيجة تخاذل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وانحيازها الفاضح إلى جانب إيران، التي كانت تتفنن في إخفاء الأسرى بوضع برامج طارئة لنقلهم المستمر من معسكر مخفي إلى آخر أكثر مجهولية كما حصل مع مجموعتنا، ولم تتوفر لدينا معلومات عن معسكرات أخرى بنفس المواصفات.
كثيرٌ من المفقودين تُركتْ جثامينُهم في جبهات القتال الدامية، والتي كانت لا تستقر على حال بين المقاتلين من كلا الجانبين، وكانت القوات تتبادل مواضعَها تبعاً لتطورات المواقف القتالية، مما يترك القتلى والجرحى في أرض المعركة أو في الأرض الحرام، ولا يوجد من يمتلك الوقت الكافي والأمن اللازم أو الوسائل المتاحة لدفنها أو لإخلاء الجرحى، الذين رأيت بنفسي القوات الإيرانية رأيَ العين، كيف تُجهز على الأسرى العراقيين الجرحى بإطلاق الرصاص على رؤوسهم، تحت ذريعة الشفقة عليهم كي لا تستمر عذاباتهم، كان الجنود الإيرانيون يقولون، إن فرق الإنقاذ ليست مخصصة لجرحى الأسرى العراقيين، حتى أن القوات الإيرانية لا تُكلف نفسها لإنقاذ الجرحى الإيرانيين أنفسهم، عندما تكون في حالة هجوم بحجة أن الانشغال بمثل هذه الواجبات يُعيق سرعة تقدمها وهذه أوامر عليا.
على العموم زارني أبناءٌ شبّوا عن الطوق وصاروا رجالا، يسألون عن آبائهم الذين لم يَروهم أبدا، ولكنهم سمعوا من أمهاتهم حكايات جميلة عنهم في الليالي الموحشة، أو حينما كانوا يعودون من المدرسة ويسمعون من زملائهم القصص عن آبائهم الذين يوصلونهم كل صباح إلى مدرستهم، فيعصر ألم الحرمان اليتامى وما هم بيتامى، فيتحسر كل واحد منهم على أبٍ لم يحظَ منه بما يحصل كل الأبناء من آبائهم، ولا ينامون إلا بقبلة المساء التي توصلهم بأمان إلى شاطئ الصباح.
أو جاءت أمّ تسأل عن ابنٍ انقطعت أخباره نهائيا، من يوم فَقدهِ فقُطع عنها شريانُ الحياة وأملُ غدِها، الذي كانت تدخره لكبرها أو للأيام التي قد تمر عليها من حالكات الليالي، كانت تنتظر عودته من جبهات الحرب في إجازته الدورية، ولكنه حينما تأخر بضعة أيام ثم صارت أسابيع قالت في نفسها “ليست هي المرة الأولى التي يحصل مثل هذا التأخر، على الرغم من أنه يقطع أوتار قلبي”، ولكن حينما طال الانتظار أخذت تستذكر أحلاما وكوابيس مفزعة مرت عليها وسدت نفسها عن الطعام وأرقت لياليها، ولم تجرؤ أن تتحدث لأحد من أفراد الأسرة عن كوابيسها، كي لا يقول لها أحدهم إن الحلم يحمل طعم الفجيعة، ثم صار فقدانه حديثا على ألسنة أبناء الحي، وتطوع بعضهم لسرد قصص عن سماعه في إذاعة إيران، ومثل هذه الممارسات، تحولت إلى وظيفة سوداء أسهمت في إثارة أسباب القلق الشعبي لدى ذوي المقاتلين في جبهات الحرب.
كانت الأم تريد أن تراه قبل أن تغادر الدنيا بحسرة عليه فليس في العمر متسع لانتظارٍ أكثر مما انتظرت، أما الأب فربما منعه من الحضور إحساس بأنه لن يتمكن من احتباس دمعة على ابنه أمام أسير لا تربطه به صلة معرفة سابقة، ولكن فرصته أنه عاد فقط، ولهذا فضل إرسال زوجته لتأدية هذه المهمة الشاقة التي قد تحمل البشارة أو قد تحمل ماسأة، أو جاءت زوجة تسأل عن رفيق حياتها الذي ودعها من دون أن يكتمل شهر العسل، على أمل العودة من الإجازة الدورية ليحمل لها شوقا وحبا ووعودا عن مشاريعهم المشتركة للمستقبل، ولكنه لم يعد، فترك في بطنها جنينا وعندما وُلدَ طفلا وكان يكبر مع السنين يلح بالسؤال عن أبيه.
كنت مع كل زيارة أتخيل ما عاناه أبي وأمي وزوجتي واخوتي واخواتي، في تتبع أخباري أيام كنت مفقودا، قالت زوجتي إنها كانت تذهب لكل أسير تسمع أنه عاد وهي تحمل صورتي لتسأل عني ولم تقطع الأمل.
أو زارني ذووهم وهم ما زالوا يعلقون آمالاً على أن الأسير العائد، يمكن أن يحمل لهم بشارة عن مفقودهم، جاءوا بلهفة عالية يسألون عن ابن أو أخ انقطعت أخباره منذ أعوام طويلة، ويريدون كلمة تردّ لهم شيئا من الأمل، كانوا معلقين بين الأرض والسماء، بين الأمل والرجاء، ولكن أحدا لن يقطع الأمل حتى لو وصله خبر عن رحيل مؤكد لمن جاء يسأل عنه من أحد الأسرى العائدين، كان كثيرون يتصرفون من رجاء غامض سيطر عليهم، للتعلق بحلم يعرفون أنه لن يتحول إلى حقيقة، يعرفون أنّ ابنهم ربما ابتلعته الأرض الحرام بين قوات البلدين المتحاربين بلا هوادة، فيما لو قيض له الله رجلا شريفا يحفر له حفرة الأبدية، كان ذلك أمل الأهل ويُعدّونه استجابة أخلاقية أو دينية لما يجب أن يتم مع الميت، أو احترق مع مركبته العسكرية أو افترسته الجوارح بعد أن هدأت البنادق، كانت هذه الأفكار إذا مرت على الخاطر فإنها تمزق الأكباد وتحطم الأضلاع، كان عليّ أن أرحب بهم ترحيبا عاليا، يُعطيهم شيئاً من طمأنينة النفس حتى لو فقدوا الرجاء بالحصول على معلومة مؤكدة، كنت أقرأ في عيون الجميع صراعاً بين الرضا بالتضحية بالابن من أجل الوطن، وبين السخط على مصير مفقودهم، وإن تباينت المشاعر الحقيقية بينهم، ولكن الجميع ساخطون أنّ ما عانوه من إهمال لم يكن من الوطن نفسه، بل من أجهزة كانت تنظر إلى نفسها بمرآة مكبرة، فترى الآخرين أصغر منها شأنا، ربما لو شعروا بالاطمئنان لصبّوا بعضَ غضبهم على السياسة التي ساقت إلى الحرب، ولكنهم استعاضوا عن ذلك بالأجهزة الحكومية وخاصة الاستخبارات العسكرية العراقية وعلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
كنت حزينا لأنني لم أتمكن من مساعدة أحد من ضيوف الاستفسارات مما أفسد عليّ فرحة العودة إلى بيتي، بعد عشرين سنة من التنقل بين معسكرات معاقبة ومعزولة عن العالم، وعن سائر الأسرى في المعسكرات الأخرى، لم أتمكن من معرفة الأسماء التي قدمها ذووهم إليّ لأنني لم ألتق أحدا منهم، حتى أن زوجتي وأشقائي وأقاربي عندما كانوا عندما يلاحظوا أن جوابي كان واحدا مع الجميع، قالوا عندما كنا نذهب لزيارة أي أسير عائد لنسأله عنك، كان جواب الجميع متطابقا مع هذا الجواب.
لا يستطيع أحد من الأسرى العائدين أن يقص على زواره من ذوي المفقودين شيئا مما كان يسمعه أو رآه عن مصائر مجهولة لكثير من العسكريين العراقيين، فالأرض الحرام الفاصلة بين قوات البلدين على ما كان يُقال، ابتلعت معظم المفقودين الذين قُتلوا ولم تُدَون أسماؤهم وكان عددهم كبيرا، وهناك مَنْ لم يُسجل لدى الصليب الأحمر نتيجة القيود التي وضعتها إيران على حركة الصليب الأحمر وحددت أنشطة فرقها، التي زعمت أنها بذلت جهودا جادة بهدف الوصول إلى المعسكرات المخفيّة في قاطع خراسان خاصة، وتبين أن كثيرا ممن قطع الأهل أملهم بوجودهم على قيد الحياة، كانوا أحياء فعلا وهم كُثر، وإذا امتلك الأهل رأس خيط يوصلهم إلى هذه المعلومة، فسيكون ذلك حدثا كبيرا في حياة الأهل وسيكون يوم اللقاء به يوم عيد حقيقي، ومع الوقت بدأ الزوار يقل عددهم، وتدريجيا بدأت اندمج في حياتي الحرة مرة ثانية، وأخذت أقلب سجلات ما عليّ أن أقوم به.

419