كان اسمي في آخر القائمة المعدّة حسب الحروف الهجائية، وهذه ضريبة كنت أدفعها أحيانا وخاصة في الامتحانات الشفهية في الدراسة الابتدائية، وفي أحيان أخرى تكون قارب نجاة لي من إحراجات التسلسل الأول في القائمة، كي استجمع أفكاري واتحفز للخطوة اللاحقة.
كانت الملابس التي جهزنا بها الإيرانيون كما قلت مرارا وتكرارا، صيفية رقيقة جداً ولا تتناسب مع جو الشتاء البارد، لا في إيران ولا في العراق، وكأن ما حصل لنا خلال عشرين سنة من أسرٍ وتغييب وقهر، لم يكن كافيا لإشباع نزعة الانتقام التي كانت تختزنها إيران الشر على العراقيين والعرب، إمعانا في زيادة معاناتنا، وإذا بحافلة الظلال تعاني أيضا من نوافذ زجاجية محطمة، وهي خالية من تدفئةٍ تَقينا هذا البرد القارس، ووابل المطر الذي كان يتسرب إلينا عبر النوافذ المهشمة الزجاج، فتزيدنا قشعريرة، لولا أننا كنا نلوذ ببقايا صبر طويل أو تصبّر عوَدنا أنفسنا عليه في معسكرات الأسر، وأمنية دفء اللقاء بالأهل بعد عشرين عاما، من العيش في قبور الأحياء في إيران، لقلنا إن هذه الحافلة حقيق بها أن تتبع لشركة اسمها الضلال، وليس الظلال بسبب ما ألحقته بنا من إحساس ببرد شديد، ومع ذلك كنا نراها أروع وسيلة نقل أخذناها في حياتنا لأنها نقلتنا من البرزخ إلى الجنة.
أجمل ما في السفرة من جلولاء إلى بغداد أنها الرحلة الأخيرة التي ننتقل فيها من أرض عدونا ونتوجه إلى مدينتنا الحبيبة بغداد، ثم تنتهي علاقتنا مع الجهات الرسمية العراقية التي أشرفت على استقبالنا، ثم يتوجه كل منا بعدها إلى غايته ومحطته الأخيرة، ولهذا كنا نتمنى أن تكون الحافلة أسرع من هذه الحافلات التي أتعبها الزمن والحصار الاقتصادي الجائر، ولكن هذا هو المتاح لنا، ولسنا خيرٌ ممن عانى في الداخل من ويلات الحصار الاقتصادي منذ عام 1990، ومن فقدان لمصادر العيش من غذاء ودواء وأهم المستلزمات التي يديم فيها الإنسان أسباب حياته.
السائق اختار لنا شريط أغنية مؤثرة وذات دلالات جميلة ومغزى معبرٍ عن العودة إلى الأرض بعد غياب طويل، وكان السائق يعيده على مسامعنا كلما انتهى، وهي أغنية من ذكريات الماضي الجميل الذي عشناه في ربوع الوطن ومن ذكريات الصبا والشباب، وكنا نتمنى أن نرى منه شيئا في حاضره، وهي أغنية:
(جينا للضيعة جينا وعدّنا نجدد ماضينا
برمنا الدنيا شرق وغرب مثل الضيعة ما لقينا)
وإن لم تخنّي الذاكرة أو لم ارتكب خطأ في التقدير فالأغنية لنازك، ومع أن الأغنية ليست عراقية فقد عبرت بنا فوق كل الحدود، وحلّقت بنا فوق ربوع الوطن، ربما لم تكن فكرة تشغيل هذا الشريط بالذات، من بنات أفكار السائق نفسه، بل من جهة ما اختارت هذه الأغنية لتقول للعائدين إنهم ألقوا مراسيهم على شواطئ وطنهم، لاسيما وأن الجهة الناقلة وهي شركة الظلال هي شركة مرتبطة بجهة أمنية تديرها عقول جمعت بين العقل الأمني والسياسي والإعلامي، ومع ذلك فإن فكرة هذه الأغنية تصلح لظرف الأسرى العائدين إلى (ضيعتهم)، وقد تُعبّرُ عن مشاعر الأسرى أكثر من أية أغنية أخرى، وربما كانت هذه الأغنية تتكرر مع كل العائدين وليس في حافلتنا فقط، لكنها كانت تبدد وحشة الطريق لمعانيها المعبرة عن معنى العودة إلى القرية والمدينة والوطن من جهة، ولأنها من أغنيات زمن لم نقدّر فيه مثل هذه المعاني إلا بعد أن فقدناها، بعد أن تركنا من الشباب أحلى سنيّه وأكبر همومه واهتماماته تحت تراب معسكرات الأسر الظالمة في إيران، كما أن هذه الأغنية كانت تبعث فينا دفئا لذيذا يبدد برد كانون الثاني في العراق، على الرغم من تدفق هوائه البارد عبر النوافذ المحطمة وانعدام التدفئة في الحافلة، وعلى الرغم أيضا من أننا كنا نرتدي الأسمال التي سمحت لنا الإدارة الإيرانية بارتدائها، وأظن أن هذه الأغنية أجمل هدية قدمت للأسرى خلال رحلة العودة من جلولاء إلى بغداد، فكانت تخاطب فينا تلك المعاني الجميلة للعودة إلى الوطن بعد غربة قسرية طويلة، مع أن أحد مقاطعها يقول (عدنا لك يا ضيعتنا وما طولّنا بغيبتنا)، فأي معنى لكلمة “ما طولنا بغيبتنا” مع أسرى جفاهم الأقربون والأبعدون؟ ثم إن الحافلة كلما دخلت أبواب المدن التي مر بها الموكب بين المقدادية وبغداد، كانت تشغل مزاميرها “الهورن” على هيئة موسيقى صاخبة، وكأنها تقول لمن عنده أسير “ها هي دفعة من أسرى الوطن قد عادت إليه”، لم أتحدث مع الأسير الذي كان يشاركني مقعد الحافلة، ليس رغبة عن الحديث معه ولكنني كنت مثقلا بأحاديث وحوارات داخلية مع نفسي، ولم أرغب أن يخرجني أحد من زنزانته الجميلة، الى أحاديث الأسرى التي سأمتنا ومللناها لعشرين سنة.
قدّرت أننا عندما سندخل العراق فقد يشهد هذا الوقت أحاديث فيها شيئا من الاستعراضية والزيف، وكثيرا من المبالغات التي لا قيمة لها بعد أن صرنا في أرض العراق، ولهذا انطويت على نفسي وكنت أذهب معها بعيدا وأقترب حد ملامسة الهواجس الخبيئة في أعماق الضمير، مرقت الحافلة من شارع مدينة المقدادية الرئيس الرابط بين بغداد وحدود العراق مع إيران، وبعد أقل من ساعة اخترقت شوارع مدينة بعقوبة، ومارست فيها نفس الطقوس الاحتفالية التي أجرتها في المدن والقصبات السابقة، إذن لم يبق من الطريق إلا نحوا من خمسين كيلومترا، ونبضات القلب يتزايد تسارعها، وأخذت الحافلة المثلجة تطوي الطريق من دون معوقات، فالشرطة كانت قد هيأت مستلزمات الانتقال السلس عبر الطرق الخارجية، ثم إن الرحلة كانت ليلية والزحام فيها معدوم تقريبا، فضلا عن أن العراق كان واقعا تحت حصار ظالم، مما لا يسمح لكثير من الناس بترف التنقل في سيارات شخصية من دون حاجة حقيقية لاستخدامها.
لم تعد تهمني أسماء المدن التي نجتازها، فبغداد باتت أقرب من أي حلم أو خيال.
كنت شاردُ الذهن وموزعُ المشاعر ومحّلقا في فضاء مفتوح يستحضر الماضي بكل ألوانه الجميلة طيلة زمن الطريق، الذي كنت أعرف أن بساتين الحمضيات تنتشر على جانبيه، متدلية أغصانُها لفرط شوقها لربيع جديد يزهر فيه قداحُها مرة أخرى، لتحمل خيرا وفيرا يدّر على أهلها رزقا معجونا بعرق الجهد المبذول لرعايتها رعاية الأم لوليدها، ولكنني أحسست بأن الطريق أطول مما عرفته بكثير لفرط شوق الوصول إلى بغداد، وكنت أتأمل الطريق من وراء الظلام الذي يلفه، والجدران التي اختفى وراءها نخيل ديالى ورّمانها وما تجود به بساتينها من حمضيات نادرة النكهة، ومع الشعور بطول الطريق إلا أنني لم أشعر بما صادفته طيلة الساعات التي دارت فيها عجلات الحافلة في الطريق إلى بغداد، لأنني كنت غائبا عن الوعي والادراك، وسأصل بغداد الحبيبة بعد سويعات لن تكون طويلة، وسينكشف الغطاء عن المجهول الذي كنت أغرق في تأمله وأضع له أكثر من صورة، هذه الطرق كنت قد مررت بها بسيارتي عندما كنت أعيش في بيت عمي الدكتور شامل السامرائي رحمه الله في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، أيام الطفولة والصبا والشباب والحرية، عندما كنا نزور أحد أقاربنا في قرية العواشق التي يخترقها نهر خريسان الذي يحبه أبناء المنطقة وبعضهم يسمّي أحد أولاده باسمه، ويمر خريسان في العواشق بطريقة أفعوانية فيسقي بساتينها من دون وسائط ميكانيكية، ويتفرع خريسان من سد الصدور الغاطس المقام على ديالى منذ العهد الملكي، مع عدد من الأنهار الصغيرة الأخرى، وتعد منطقة الصدور أهم منتجع سياحي لأهالي بغداد ويقصدونها بعشرات الآلاف كل أسبوع، وكانت كذلك مقصداً للسفرات المدرسية والجامعية.
ويعتبر سد الصدور من السدود الحيوية على نهر ديالى شمال شرقي بغداد، لرفع منسوب نهر ديالى لعدة أمتار كي يغذي انهاراً متقاربة في كميات المياه التي تغذي أكبر غابة من البساتين في العراق، من بينها نهر خريسان.
هذه المنطقة تعد سلة العراق الغذائية من الفواكه والخضر خاصة، وعندما كنا نسافر في ايام العطلات الاسبوعية أو الرسمية، نعبر بسياراتنا فوق ممر من الأسمنت المسلح أسفل السد ليتدفق الماء تحت سياراتنا على نحو يثير موجة من الصراخ خوفا من الأطفال وفرحا من بعضهم، ولا يعود الهدوء حتى نصل إلى الجانب الآخر من النهر، وفيما بعد تم تطوير السد بإقامة سد بديل أو متمم في عقد الثمانينات ليستوعب كميات أكبر من المياه والتي يُخزن بعضها في الأيام التي لا يحتاج السكان إلا إلى كمية قليلة من المياه، إذ يمكن التحكم بها بواسطة بوابات تغلق وتفتح هيدروليكيا حسب المناسيب والحاجة إلى مياه الري والشرب، ويقع سد الصدور الجديد أسفل سد حمرين الذي أقيم أثناء الحرب الوطنية العراقية والقومية ضد الغزو الإيراني العدواني التوسعي. ويستوعب سد حمرين نحو أربعة مليارات متر مكعب من المياه، وبذلك يكون نهر ديالى قد أقيمت على مجراه ثلاثة سدود لمواجهة فيضاناته من جهة وتلبية احتياجات حوضه إلى المياه، الأول هو دربنديخان في محافظة السليمانية الذي أنشأ ضمن مشاريع مجلس الاعمار، وأقيمت هذه السدود من أجل ضمان الأمن المائي للعراق، لأنه يعيش بين جارين طامعين في كل حبة تراب من أرضه وكل قطرة ماء تجري فوقه أو تحت أرضه وكل ذرة هواء فيه.
تقع قرية العواشق في قضاء المقدادية أو (شهربان) كما يسميها أهلها، كنا نزور منزل السيد عبد البخيت السامرائي رحمه الله، وهو والد الدكتور نوري السامرائي استاذ التاريخ في جامعة البصرة، ويمتلك فيها ثلاثة بساتين اختصاصية في محاصيلها المتنوعة، أحدها مخصص للرمان تقريبا، ويقع على الشاطئ الأيسر لنهر ديالى وإن كان يسقى من نهر خريسان ايضا، كان أبو نوري وأبناؤه وبناته يشتغلون بها من دون استعانة بأحد، ومن طرائف ما يحكى عن الحاج أبي نوري رحمه الله، أنه كان في أحد أيام الصيف يتسلق نخلة برحية (بالتبليّة) وهي آلة مصنوعة من نسيج نبات الجوت تلتف حول مؤخرة متسلق النخلة، وترتبط من جانبيها بضفيرة من أسلاك معدنية قوية كي تحمل الصاعود أيا كان وزنه، ومن طرائف الإذاعة والتلفزيون، أن وزارة الزراعة العراقية قررت اناطة مهمة استزراع نبات الجوت في مزرعة الزعفرانية الحكومية في ضواحي بغداد الجنوبية الشرقية وجلب بذوره من باكستان، وعندما نقلت إذاعة بغداد الخبر قال المذيع، قررت وزارة الزراعة تجربة زراعة نبات الحوت في العراق.
اعود إلى قرية العواشق واقول أثناء وجود أبو نوري في أعلى النخلة لدغته حية سامة من سبابته اليسرى، معروفة في المنطقة بخطورتها ولدغتها المميتة، فما كان من أبي نوري إلا أن يضرب الاصبع المصاب بمدية خاصة بتكريب النخيل وقطع عثوق (عراجين) التمر، هذه العتلة تشبه المنجل ولكن القوس المعدني فيها قصير جداً، ولها ذراع خشبي طويل وهي حادة جدا، فيقطع الجزء المصاب من اصبعه ثم قتل الحية، كان حسابه سريعاً وهو التضحية بجزء من اصبعه بدلا من تعريض حياته لخطر الموت المؤكد، لا سيما وأن اسعافا سريعا لم يكن متاحا له.
على العموم هذه المنطقة التي أعرفها وتعرفني، أنكرتني اليوم، بعد أن اشتعل الرأس شيبا ووهن العظم قليلا.
241