لم أعرف كيف قطعت حافلتُنا المسافةَ بين جلولاء ثم المقدادية وبعقوبة والغالبية حتى دخلت بغداد؟ ولا أعرف من أي من جسور بغداد عبرت الحافلة من الرصافة إلى الكرخ؟ لأنني لم انتبه للطريق بعد أن دخلت أرض العراق الحبيب، وها أنا في بغداد المدينة التي أحببتها أكثر من أي مدينة أخرى في الجهات الأربع، ومع أنني ظننت أن الطريق كان أطول من الواقع، بيد أن السيارات التي تسير على الطرق ضمن رتل يضم أكثر من مركبة، عليه أن يضع خطة تحركه ومقدار السرعة المحددة وحتى الطرق التي يمر بها هذه قواعد يلتزم بها العسكريون على نحو لا يقبل أي خرق مهما كان صغيرا، المهم أنني عبرت وليس المشهد حلما بل هو حقيقة مؤكدة.
كان الطريق يطوي نفسه، وأوشكت الحافلة أن تصل إلى ساحة النسور قرب حي اليرموك في كرخ بغداد، ومع كل دورة تدورها عجلاتُها أشعر بأن الدنيا توشك أن تأخذ رونقها وتتلون بكل الألوان المحببة إلى النفس، حتى لو جاء ذلك في وقت متأخر من قطار العمر، عندما أتوقف عن التأمل وأعود إلى الواقع، تلسعني نسمةُ هواء باردة فوق طاقة التحمل، بسبب معاناة سِنيْ الأسر وتقدم العمر، وبسبب الملابس الرقيقة التي زودنا بها الإيرانيون في آخر عهد لهم بنا، كي تبقى ذكرى راسخة في الضمير، لآخر مبتكرات إيقاع الأذى بالأسرى العراقيين، فلم تكن هذه الملابس لتتناسب مع هذا الفصل والشهر من زمن بغداد، عندما نزلت الحافلة من الشارع العام بعد ساحة النسور نحو بناية فرع أبي جعفر المنصور، كان الجو ما يزال مظلما ولكن أنوار بناية الفرع، كانت تتراءى عن بعد ولتظهره بألقه المعنوي وما بقي له من وجاهة الدور السياسي والاجتماعي، الذي كان يلعبه فيما مضى، كانت الأفكار تستحثني نحو بناية طالما شهدت نشاطاتي الثقافية مع الجهاز الحزبي، وخاصة المرشحين للعضوية قبل الذهاب في رحلة العذاب، بدأت دقات قلبي تزداد بحيث أكاد أسمعها، مع كل متر تتقدم فيه الحافلة نحو الساحة الأمامية، وإذا بها مكتظة بمئات من المواطنين الذين أتعبوا الصبرَ بطولِ صبرهم وأعجزوه، أولئك الباحثون عن بارقة أمل أو معلومة تعيد لهم شيئا من الطمأنينة عن مفقود انقطعت أخباره منذ أكثر من عشرين سنة، لم يكن الجميع على يقين بأن مفقودهم هو أسير على قيد الحياة أو غادرها، لم يبحث الجميع عن شهادة حياة له، بقدر ما كانوا يبحثون عن خبر يقيني حتى لو كان رحيلا.
عندما دخلت الحافلة مدينة بغداد فجر يوم الأربعاء 23 كانون الثاني من جهة حي الشعب شرقي بغداد، وكأنها تشعر بفرح لما تحمله لبعض الأسر العراقية من بشارة، ضغط السائق على عتلة المنبه (الهورن)، فارتفعت أصوات مزاميرها لتبلغ الأفاق وعلى نحو متصل من دون أن تتسبب بأي إزعاج للناس فيما لو كانت تفعل ذلك في ظروف عادية، ولتبشر كل من لديه أسير من الأبناء أو الأقارب أو الأصدقاء، أن ينهض من فراشه ويخرج من بيته متحديا زخات المطر والبرد الشديد، ويستعد لاستقبال ضيف عزيز طال انتظاره أو انقطعت أسباب الاتصال به زمنا طويلا، وليذهب إلى المراكز المحددة لاستقبالهم وهي مقرات الحزب، كانت بغداد ماتزال تغفو مسرحة جدائلها باسترخاء وخَدَرٍ على وسائد ظلت تشكو فراقا طويلا من أحبة أعزاء، في ذلك الصباح الغزير المطر الذي غسل أشجارها وأرصفتها وأغرق طرقها وأعاد قليلا من أمل اللقاء، ولكنه أخفق في غسل القلوب التي جبلت على الضغينة، لأناس استسهلوا النوم في فراش الغدر بأبناء وطنهم حيثما سنحت لهم الفرصة، ثم بدأنا نقترب من فرع أبي جعفر المنصور لحزب البعث.
ربما لم يكن أهل بغداد يمتلكون أدنى رغبة بمغادرة غرفهم الدافئة إلى فضاء بارد ممطر وشوارع مقفرة، تحاول استعادة بعضٍ من حيويتها وألقها القديم الذي لوثه العدوان الثلاثيني عام 1991، والذي دمر كل الشواهد التي أقامها العراقيون بعقولهم المبدعة وعرقهم ومالهم وأحيانا بدمهم، نعم جاء أوغاد العصر ليدمروا ما بناه العراقيون، ثم ألحقوا عدوانهم بحصار ظالم، امتص نسغ الحياة من كل زاوية من أركان بلد تآمر عليه الأشقاء وأبناء العمومة والأقربون، ولما لم يتمكنوا من نحره بخناجرهم الصدئة، جلبوا له جيوش الأرض بقضها وقضيضها ومن كل لغاتها، واستعانوا على العراق بأعتى جيوش الأرض وقدموا لها أرضهم وقواعدهم الجوية وبحارهم وممراتهم وفتحوا لها خزائنهم، وساهموا معها بقوات تحمل جنسية عربية لضرب العراق، الذي ما تردد يوما في نجدة الأشقاء حتى قبل أن يسمع واعراقاه، وفوق هذا تحمل كثير منهم كل الأعباء المالية التي تكلفتها عملياتهم الحربية العدوانية، وكأن موعدهم كان في مدينة بابل التي التصقت بالوجدان اليهودي بالسبي البابلي الكبير، حتى ليحار المرء كيف اتفق كلُ هؤلاء الأغراب مع بعضهم على إقامة وليمة الشيطان فوق أرض الأنبياء، ومنها انطلقت الدعوة للتوحيد والاستقامة والعدل، ومن فوقها انطلق الحرف الأول ممتطيا العربة البابلية، بعجلات مدورة تجرها الخيول لأول مرة في التاريخ، فكانت أعجوبة ذلك الزمن، تحكي قصة المثل العراقي الدارج (ما گبت “انطلقت” عجاجة إلا من أرض بابل)، تراهم بأية لغة تفاهموا ألم تتبلبل ألسنتهم كما حصل في بابل أول مرة؟ أنى كان لهم أن يتحقق لهم ما أرادوا وبالبساطة التي تم فيها؟ وكأن لصوص الأرض كانوا ينتظرون نصيبهم من الذبيحة، ولكن بغداد العصية على الاحتواء والترويض، ظلت ترفع راية المقاومة ضد من أراد السطو على دجلتها وبساتينها ومآذنها وتاريخها ومكتباتها وعلمائها، وفاجأت الغزاة بأن أسورتها وأقراطها وعقودها غالية وغالية جدا ولا يقدر عليها مرابو العصر.
توقفت الحافلة في محطتها الأخيرة أمام البوابة الرئيسة لفرع أبي جعفر المنصور لحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي طالما أوقفت سيارتي عندها قبل الأسر مشاركة في فعاليات الحزب، ولما فُتحت أبواب الحافلة بدأنا بالنزول منها تباعا، آه كم تمنيت لو أن قطار العمر يرجع إلى أيام الدراسة الابتدائية، كي نبدأ بالتدافع لنرَ من ينزل أولاً ويصل إلى نقطة ما، قد لا تعني شيئا في نتيجتها النهائية، لأنها مجرد محطة توقف قصير وتبدأ خطوة أخرى، ولكن إلى أين؟ ذلك مخبوء وراء أفق بعيد، في الساحة الخارجية لفرع أبي جعفر المنصور حيث مازال المطر يهطل بغزارة والبرد في درجاته المنخفضة والتي تثير قشعريرة في أبدان هدّها طول السنين ووحشية الآسر الإيراني، وكما كان الحال عند نقطة الحدود انهالت علينا الأسئلة من كل حدب وصوب، هل تعرف …؟ هل رأيت أسيرا اسمه….؟ هل صادفك في أحد المعسكرات … العقيد أو المقدم أو الرائد والنقيب والجيش الشعبي، وتتدافع الرتب والأسماء وتتعدد الصيغ ولكن السؤال واحد وصمتنا واحد أيضا.
تمنيت لو أني دخلت القاعة قفزا، ليس لأنني لا أريد اللقاء مع هذه الجموع الملهوفةِ قلوبُها لسماع خبر عن مفقود، ولكن لأنني لم أكن امتلك جوابا عن أسئلة السائلين المتلهفين لسماع أية كلمة تمنحهم أملا بلقاء قريب، مع عزيز غائب أو مجهول المصير، بسبب كوني من مجموعة أسرى لم تختلط مع معسكرات الأسرى الأخرى فقد عشنا طيلة العشرين عاما في معسكرات المعاقبين، فأشعر بمرارة لا حد لها، دخلت قاعة الاجتماعات في فرع أبي جعفر المنصور والتي تتسع لأكثر من 300 كرسي مع منصة أمامية ترتفع عن مستوى الأرض نحو متر واحد، هذه هي القاعة ذاتها التي كنت ألقي فيها محاضرات ثقافية على الجهاز الحزبي قبل الأسر، ولكنها هذه المرة نكرتني بتجاهل مؤلم ومرير، وتعاملت معي بعد عشرين عاما من الغربة بجفاء وبتقاليد ما بعد الحرب والحصار، حيث تغيرت طبائع الناس وأمزجتهم كثيرا فهم ليسوا هم الذين تركتهم، وأصبح الشك لازمةً تتكرر من قبل الجميع ومع الجميع، فكل واحد يظن بالآخر ظنونا صنعتها مرارة العدوان الثلاثيني وصفحة الغدر والخيانة، التي تطوع عراقيو الجنسية لاستكمال ما عجز العدوان عن تحقيقه في الصفحة العسكرية، وبعد كل المآسي التي عاشها العراقيون جاء الحصار الاقتصادي الأمريكي، فتسللت أمراض اجتماعية إلى العراق لم تكن تتجرأ على التقرب من حدوده أو جدرانه الخارجية.
298