الخروج من قصور آيات الله

الجزء الثامن

دخلنا قاعة فرع أبي جعفر المنصور، وأخذ كل منا مقعده باختياره ومزاجه لأول مرة منذ زمن بعيد، كانت القاعة بلا تدفئة أيضا وهذا ما زاد من معاناتنا، فالتدفئة ترف لا مبرر له مع ظروف البلد الاقتصادية الصعبة ومعاناة المواطنين، اعتلى المنصة عدد من الحزبيين الأعلى درجة في المقر من الموجودين في هذا الوقت المتأخر من الليل أو المبكر من الصباح، وكانوا يرتدون الملابس الخاصة بالجيش الشعبي، اعتلوا المنصة وجلسوا على كراسي أمامها مناضد تناثرت فوق كل منصة منها من دون انتظام حزمة أوراق وأقلام الحبر الجاف، وبدأوا ينادون علينا واحدا بعد الآخر من قوائم تقاسموها فيما بينهم، وهو نفس الإجراء الذي سأمناه من كثرة ما تكرر معنا من اليوم الأول لإبلاغنا بالتبادل في معسكر برندك في إيران وإن وجدنا في الجرود التي حصلت معنا في العراق وكأنها استعادة لهوية كادت أن تضيع وسط ركام من الزيف باسم الإسلام، في أكثر بلد في العالم يشوه صورة الإسلام الحقيقي، ثم في الأقل هذه لغتنا الأم التي نعشقها لانتمائنا القومي لها ولها وقع محبب على آذاننا ونفوسنا ولا نحتاج إلى مترجم بيننا وبين المحققين، ولأنها قبل كل شيء وبعد كل شيء، لغة القران الكريم الذي نزل على صدر نبينا الأكرم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لتكمل شرائع الله لعباده عندما صدعت بقول الله سبحانه ( بسم الله الرحمن الرحيم، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، صدق الله العظيم).
لم يكن متاحا لأي منا مغادرة مقر فرع أبي جعفر المنصور من دون تثبيت المعلومات الشخصية، كان هناك مكلفون من المقر بإيصال الأسير إلى محل سكناه في أي مكان ضمن دائرة الفرع الحزبي الذي اختار الذهاب إليه، ثم يؤخذ توقيع من أسرته على تسلّمه، هذه أوامر القيادة السياسية، وإذا ما اشتكى أسير بشأن عدم سلامة هذه الإجراءات، وأخبر الجهات العليا بأن المكلفين بإيصاله إلى بيته لم يلتزموا بهذا الأمر، فقد يتعرض المكلفون بهذه المهمة إلى المساءلة الوظيفية والحزبية، هناك طريقة أخرى وهي أن يأتي أحدُ أفراد أسرة الأسير ويتسلمه إن كان على علم بوصوله، شريطة التوقيع على تسلمه أيضا.
عندما جاء دوري لتثبيت المعلومات التفصيلية عن أوضاعي، جلست على كرسي الاعتراف الذي أشعر بأنه قريب إلى النفس على نحو لم أشعر تجاه مثل هذه الجلسات بالارتياح من عقدين، وبعد عبارات مجاملة أحسست فيها شيئا من التكلف، وإذا بالرفيق الحزبي يبادرني بعد أن دقق في اسمي في قائمة الأسماء المرسلة من معسكر جلولاء ونظر إلى وجهي ملياً… ويقول ألست الرفيق نزار السامرائي؟ قلت نعم أنا هو وكما مدّون عندك في القوائم، قال كم تغيّر شكلك وتبدو أكبر من عمرك بكثير وكأنك تبدو وكأنك تعاني من متاعب صحية؟ ثم أردف من دون أن ينتظر جوابي، أنا…” وذكر لي اسمه” ولم أعد أذكر الاسم الذي ذكره لي لأنني كنت أحلّق في فضاء رحيب وفي عالم آخر بعيد عن هذا السقف وهذه الجدران العتيقة، وواصل حديثه معي فقال “كنتُ في دورة المرشحين التي كنتَ أنت مديرُها والتي انطلقت في تموز عام 1981 وانتهت في 7 نيسان 1982، وتركتنا متطوعاً إلى جبهة القتال وتأسرت في المعركة وانقطعت عنا أخبارك، منهم من قال إنك قُتلت ومنهم من قال إنك اُعتبرت مفقوداً وحسب، ولكن أحدّاً لم يكن يتوقع أنك ستعود بسبب ما سمعناه عن قتل الأسرى العراقيين في الجبهات، على كل حال ألف الحمد لله على سلامتك لقد حزّنا عليك كثيرا، ثم استدرك وقال أنا اليوم عضو قيادة شعبة في تنظيمات فرع أبي جعفر المنصور”، جاملني قليلا عندما قال لقد أعددتنا إعدادا جيدا بحيث ارتقينا درجات السلم الحزبي، أردت أن اتكلم قليلا ولكنه كان يتحدث بلا انقطاع، وعندما صمت برهة قلت له، الحمد لله، لا أعاني من شيء، ولكن هذه ظروف الأسر في بلد عدوٍ لبلدنا فماذا نتوقع منه؟ ثم رددت له الرسالة الخاصة بدرجته الحزبية، فقلت مبارك لكم الترقية وأتمنى لكم التوفيق، لا أدري لماذا لم يكن استقباله لي بكيفية تنم عن الود القديم، الذي قدمه لي كباقةٍ من المجاملة الودية ربما كانت بسبب موقعي الوظيفي ودرجتي الحزبية السابقين، اللذين كنت اشغلهما قبل الأسر؟ أهو الخوف من الآخرين الذين لا تُعرف مشاعرهم تجاه من يوصف بأنه لم يقاتل حتى الموت؟ لم أجد قبولا لهذه الفكرة في داخلي، أم هي مشاعره الخاصة تجاه الأسرى العائدين؟
كنا نظن أن الجميع مضطرون لمجاملتنا بعبارات الترحيب لأنهم معبؤون ضدنا نفسيا بوجهات نظر خاطئة هكذا كنا نفكر، وربما كنا نبالغ كثيرا في تصويرنا لسوداوية وجهة نظر الآخرين بنا، وربما هذا ناجم في جزء من دوافعه إلى عدم رضانا عن وقوعنا في الأسر، لعوامل لم نكن نحن المسؤولين عنها بأي قدر من المقادير، فكيف نتوقع أن تكون نظرة الآخرين لنا؟ هذا الشعور ناجم أيضا من شعور غير مريح في الشارع العراقي تجاه قضية الأسر نفسها من حيث المبدأ، بسبب التعبئة السياسية التي كانت سائدة في المجتمع العراقي عن الأسر كثقافة عامة.
بعد أن انتهيت من تثبيت ما عندي من معلومات غير قابلة للتغيير مثل الاسم والوظيفة والدرجة الحزبية السابقة وعنوان السكن وحتى رقم التلفون “إن كنت أحفظه”، ما عدا العمر فهو متحرك، ولا يوقف عجلته إلا الموت، وأفضل ما يمكن أن يفعله الإنسان في مثل هذه الأحوال أن يذكر تاريخ ميلاده وليس عمره، سافرت بعيدا مع نفسي وقلت إنْ يتغير العمر من تلقاء نفسه فذلك من سنن الطبيعة، ولكن أن يتسارع عُمرُ الإنسان لظروف قاهرة مثل تداعي المصائب، ومنها الأسر أو السجن أو المرض حتى لو مرّ الوقت بطيئاً، فذلك ما يدعو لأسى مقيم وممض، وكم تمنيت أنه هو وحده الذي يتغير ولكن التجربة علمتني أن الأشياء كلها تتغير هي الأخرى بما فيها قناعات الناس وزوايا نظرهم إلى ما يحيط بهم من أحداث.
لم أكن أعرف عما إذا كانت هناك متغيرات وظيفة دخلت على مسيرتي فأنا مقطوع عن العالم لعشرين سنة خلت، وهذه ربما يعرفها السائل أكثر مني (المسؤول) بسبب رحلة أسري المريرة لخُمس قرن من الزمن، فأنا لم أعرف ماذا تغير من وضعي الوظيفي، قال لي أين تسكن؟ قلت بالأصل في حي العدل، ولكنني لا أدري إن كان هناك أحد في منزلي، قال اطمئن يا رفيقي، فإننا ملزمون بموجب أوامر عليا بإيصالك إلى بيتك أينما يكون، ولو ذهبنا بك إلى الموصل وتبين أن بيتك في البصرة فإننا سنعود بك إليها فلا تقلق، هذه أوامر القيادة، عجبت لهذا القول كثيرا، والذي يعكس عناية استثنائية بالأسير العائد، لا تصدر إلا عن أب حنون أو ابن بار، وهي لا تنسجم مع المعاملة الجافة التي عوملنا بها بعد دخولنا العراق، وخاصة في معسكر جلولاء، ومن باب الإنصاف لنفسي ولأجهزة الدولة، أجد لزاماً عليّ أن أقول بأنني شخصيا لم أشعر بوطأة المعاملة السيئة معي وربما بسبب تقدمي في العمر أو لقدمي الحزبي السابق للأسر، أو لوظيفتي السابقة للأسر كمدير عام في وزارة الثقافة والإعلام، ولكن وللإنصاف أيضا لم أصادف ما كنت أتوقعه من حفاوة وتكريم وتقدير، وخاصة من رفاقي في تنظيمات أبي جعفر المنصور أو من مستوياته القيادية، على الرغم مما كنت أحمله من اعتبارات، أهمها أنني كنت متطوعا وبادرت للانخراط في ألوية المهمات الخاصة وهم يعرفون كيف أصررت على ذلك، وليس من واجبي كفرد أن أحارب بسبب العمر الذي تعدى سن الخدمة العسكرية أولا، وأنني لم أكن عسكريا في يوم من الأيام.
بعد أن انتهيت من تقديم كل المعلومات الشخصية القديمة من اسمٍ وعُمرٍ ووظيفةٍ ودرجةٍ حزبيةٍ وعنوان السكن، عدت إلى مقعدي والذي اخترته في وسط القاعة كي لا أكون قريبا من المنصة الأمامية وأنشغل بما يدور فيها، ولا أكون في آخر القاعة مع ما يخترق أبوابها من هواء بارد، كان الوقت يقترب حثيثا من الفجر وصَلاتُه على الأبواب، والمطر مازال يهطل بغزارة ونسمع صوته من وراء النوافذ والأبواب، وكان أفراد الجيش الشعبي يذرعون القاعة جيئة وذهابا من دون أن يُشعرونا بواجب محدد يقومون به، ربما ظننت أنه جزء من ترف استعراض المسؤولية أو استنزاف الوقت من جانب حزبيين يؤدون واجبا يفوق طاقاتهم وفي هذا الوقت المتأخر من الليل أو المبكر من الفجر، وقد اضطروا لترك منازلهم للقيام بهذا الواجب الذي لا يخلو من مشقة معلومة، لا سيما وأن معظمهم خارج عمر الخدمة العسكرية أو شبه العسكرية، وجاءوا التزاما بواجب أملّته عليهم صفاتهم الحزبية بأن يتعاملوا مع ملف الأسرى بتلك الكيفية، أو أنهم حريصون على معرفة من عاد من الأسرى، فقد يكون هناك ممن يعرفون منهم ليسارعوا في إخبار أهله وذويه وأصدقائه بعودته.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى