
لا يمكن ان ننظر الى مشاكل العراق الحالية بمعزل عن التسلسل التاريخي للاحداث التي مر بها على مدى قرن كامل من الزمن، وتحليل بعض المنعطفات التاريخية المهمة التي غير مسارات التفكير في عقل الشخصية العراقية، وربما لا اكون مغاليا اذا ما قلت بأنّ هذه الاحداث تماثل بتطابق عجيب احداثا وقعت في زمن الامويين والعباسيين وعلى امتداد التاريخ الاسلامي!!
وقد لاحظت تشابها كبيرا بين الكثير من الاحداث والمواقف في تاريخ الدول العربية وبين الاحداث التي مرت بالعراق وغيرت الشخصية العربية وحولتها من مستوى التفكير العميق الى الضحالة والتقهقر الفكري للاخلاق والاخلاقي للفكر.
ان واحدة من اهم اسباب التراجع في الشخصية العراقية هو ان المستقبل يتكون منطلقا من خاصية الغاء او اخفاء او تحطيم الماضي كليا وطمس معالمه واحراقه ثم الجلوس للاستمتاع بالدفء الناتج من حرق مرحلة كاملة بدلا من وضعها على مائدة التشريح التاريخي والتحليل لاسبابها ونتائجها وتداعياتها ومن ثم البناء على ماهو يصلح ان يكون اساسا للحاضر والمستقبل، بل وانه من الغريب ان الحاضر في العراق لا يبدأ الّا بعد نسف الماضي بصالحه وطالحه ودفن رموز هذا الماضي في قبور مجهولة العنوان، و ربما كان التمثيل بالجثث واخفاء القبور للزعماء العراقيين منذ اخر الملوك في عام ١٩٥٨ ولغاية اليوم هو تاكيد واضح لهذه النظرية.
ولان انظمة الحكم ومنذ انقلاب عبد الكريم قاسم ولغاية الاحتلال الامريكي قد جاءت بفوهات المسدسات عن طريق الانقلابات او باعدامات و مؤمرات او بايدي اجنبية خارجية ولم تات من ولادة طبيعية لتزاوج الديمقراطية بمصدر التشريع الاول في الدستور وهو الاسلام لذلك فان الوليد الجديد يمتاز دائما بتشوهات فكرية وعقلية تجعله يتعامل مع الشعب والمعارضة بطريقة الفناء والوجود او البقاء والاقصاء او الحياة والموت.
وهنا ستتاكد نظرية التعارض في التطبيق بين الاسلام والديمقراطية (وخصوصا بعد الخلفاء الراشدين) وخصوصا ان هنالك الكثير من الاراء التي تشير باصبع الاتهام الى ما يسمى بالفتوحات الاسلامية ويقدم الدلائل على انها كانت عمليات غزو اكثر مما كانت عمليات نشر للرسالة الاسلامية.
ان كافة قبور الزعماء العراقيين وابتداء من قبر عبد الكريم قاسم ولغاية صدام حسين أخر رئيس قبل الاحتلال الامريكي للعراق قد تعرضت الى الاخفاء او النبش عدا الرئيس عبد الرحمن عارف، الذي توفى خارج العراق و احمد حسن البكر وهذا يمثل الشذوذ الذي يثبت القاعدة.
ان اي رئيس جديد يتصدر المنصب الاول في العراق يحس بان الذي قبله قد يتحول الى رمز وقد يتحول قبرُهُ الى مزار و ربما تعود جذور هذه العقدة الى ما كان يفعله (القادة المتاسلمون الحاكمون بامر الله) بخصومهم مثل ما فعله يزيد بن معاوية بالامام الحسين عليه السلام واصحابه وما فعله الحجاج بن يوسف الثقفي بعبد الله ابن الزبير وبسعيد ابن جبير وما فعله خالد ابن الوليد بمالك ابن نويرة حين جعل راسه بعد ان ضربه بالسيف ثالث حجرين استقر عليهما قدر طعامه وبعد يوم واحد فقط تزوج ارملة مالك.
ومن غرائب هذه الطبيعة الناسفة للماضي والمدمِّرة لاسس المجتمع العراقي والمتوارَثة على امتداد اكثر من الف واربعمائة عام انها انعكست على مجال الصناعة والتجارة في العراق، وقد لاحظت هذه النقطة وانا استقبل في مكتبي في عمّان بالاردن عددا من ممثلي الشركات الاردنية والتي مضى على تاسيسها اكثر من ٣٠ عام مما جعلني اقف حائرا امام هذا التناقض العجيب الذي يجعل بلدا مثل العراق خاليا من اي شركة محترمة ورصينة يزيد عمرها عن ١٨ عاماً وهي الفترة المحصورة بين الاحتلال الامريكي للعراق وبين ساعة كتابة هذا الموضوع ( ٢٠٠٣-٢٠٢١). لان كافة الحكومات التي تعاقبت على العراق كانت حكومات ذات نفس اما عسكري او امني و مخابراتي الى ان وصلنا الى حكومات تتوزع بين العمالة واللصوصية وتجاهر بهذا بولائها الى دول اخرى تدمر العراق تاريخا وحاضرا ومستقبلا وبالتالي فانها لم تستطع ان تقدم نموذجا مشرفا يشار له بالبنان.
ان كافة الحكومات والاحزاب التي تنتمي لها تخشى تكثر ما تخشاه القطاع الخاص لانها لاتمتلك منجزا شخصيا تعتد به فنراها تهرب الى عالم الغيبيات والروزخونيات لكي تبرز عضلاتها امام (النخبة الجاهلة) في المجتمع لينحسر مد (النخبة التنويرية) لانها ستكون المعول الذي تنهار تحته هذه الحكومات واتباعها.
ان كل اصحاب القرار الان يعرفون ان اول بوابة لحل الازمة المالية واهمها على الاطلاق هي بوابة القطاع الخاص ودعمه و تفعيل الاستثمار عبر اليات حقيقية لا تمت بصلة الى ما هو موجود الان لان القطاع الخاص هو الوحيد القادر على سحب زخم التعيينات و سيقل من خلاله شراء الدولار و تهريبه وتسقط ورقة التعيينات التي يلوح بها مرشحوا الانتخابات للشباب ونزداد شعبية رجال الاعمال الحقيقين خارج سلطة الاحزاب مما يجعلهم مؤهلين للدخول الى عالم السياسة من باب المنجز الحقيقي للمجتمع و ستقل سطوة الفاسدين على السيطرات بي المحافظات وبالتالي يتداعى نظام السرقة الذي تدعمه الاحزاب الكبرى في الحكومة .
ان العراق كان البلد العربي الاول الذي ادخل الطائرات والتلفزيون والاذاعة والمولات و المنتجعات السياحية والجامعات والمهرجانات والصناعة و البحث العلمي قد اصبح و منذ تسلط العمامة الاسلامية الفاسدة على قمة هرم السلطة مدعومة باحتلال امريكي سلّمَ العراق على طبق من ذهب الى اعدائه ارضاً للصراعات الدولية و الاقليمية حيث نجح كل اعدائه بنقل المعركة خارج دولهم لتجنب تحطيمها.
لذلك لن تستمر اية شركات صناعية او تجارية في البقاء لعقود طويلة مثلما يحصل في كل العالم حيث يصل عمر عدد كبير من شركات الغرب والولايات المتحدة الى بداية الثورة الصناعية ومن المؤسف ان نرى مراكز تطوير و ابحاث اكبر ستة شركات في العالم قد انشأت الان في دولة اسرائيل التي انفق العرب مالهم وأعمار واولادهم في ادعّاء محاربتها ولكن النتيجة ان العرب يضمحلون واسرائيل تنمو وكأننا كنا نعمل من اجلها ومن اجل فنائنا.