الصفويون والصفويون الجدد

قراءة بين التاريخ وأحداث الحاضر

مع أن جولة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي الآسيوية في شباط 2019 والتي قادته إلى كل من باكستان والهند والصين، والتي كانت لأهداف داخلية تتعلق بالعلاقات بين المملكة العربية السعودية وهذه البلدان، ولا صلة لها بالأمن القومي العربي كهدف رئيس، وعلى الرغم من أننا نرى في الأمن الوطني لأي بلد عربي على أنه جزء حيوي من الأمن القومي العربي، لذلك نرى في جولة ولي العهد السعودي أنها بالنتيجة تصب في خطط تجريد إيران من أنطقة حماية اقتصادية ومالية في كتلة اقتصادية آسيوية كبرى، ولهذا ففي الجولة بالنتائج “إن تحققت” أهدافها بعدا عربيا مهما، وهذا هو ما جعل إيران تنظر بقلق شديد إلى هذه الجولة وما يمكن أن تسفر عنه من نتائج لا يستبعد أن تنعكس سلبا على علاقات هذه الكتلة البشرية الهائلة والاقتصادية الدولية الصاعدة مع إيران، لكننا يجب أن نتذكر في كل حين أن المملكة العربية السعودية كانت سباقة لخرق الأمن القومي العربي وخاصة عام 1990 عندما تحالفت مع الولايات المتحدة ودول مسيحية، في العدوان الثلاثيني على العراق ضاربة عرض الحائط نصا قرآنيا يقول “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ والنصارى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” سورة المائدة 51، لهذا نرى أن الجولة المذكورة هي لأهداف سعودية خالصة وهذا من حقها وإن ارتبطت ببعد قومي.
لهذا لاحظ المراقبون أن علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني استبق زيارة الأمير محمد بن سلمان للهند إذ وصل نيو دلهي قبل يوم واحد من وصول ولي العهد السعودي إليها، وهنا يستعيد المراقبون قصصا من تاريخ الدولة الفارسية على مر الدهور، إذ أنها كانت تقيم تحالفات خارجية تستقوي بها على جيرانها، وبعد قيام الدولة الصفوية فقد اكتسبت تلك التحالفات بعدا أكثر خطورة، فقد تحالف الصفويون مع أوربا المسيحية لتطويق الدولة العثمانية من الشرق والغرب، ولتعزيز مساعي الدولة الصفوية في الإجهاز على مقدسات المسلمين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، هذه التحالفات أدت إلى وقف الفتوحات العثمانية في أوربا بعد أن أثار الصفويون الفتن في أقاليم الدولة العثمانية وخاصة في مصر والعراق والشام، فهل كان لاريجاني يبحث عن فرصة لإثارة الفتنة بين باكستان الدولة الإسلامية النووية والهند مستغلا وقوع عمليات ضد الحرس الثوري في إقليم بلوشستان الذي تحتله إيران؟ وكذلك وجود مشاكل مزمنة بين الهند وباكستان؟ أو أن لاريجاني كان يسعى لإفشال زيارة محمد بن سلمان إلى الهند خاصة أنها جاءت بعد زيارته لباكستان والتي تم خلالها توقيع اتفاقيات اقتصادية وتجارية كبيرة جدا؟
تاريخ إيران يؤكد هذه النوايا ويدعم وجهة النظر القائلة إن إيران لم تتبن الإسلام منهاجا وعقيدة حقيقية ولم تقم له وزنا في برامج أمنها القومي، بل اتخذته وسيلة للانتشار والتوسع على مجمل الساحة العربية والإسلامية، وتجنيد العملاء والوكلاء وإقامة المنظمات الإرهابية التي تنتمي إلى الطائفة الشيعية للقتال نيابة عنها عند الضرورة وهذا ما حصل في لبنان والعراق وسوريا واليمن.
عبر تاريخ الفرس حافظوا على أعلى وتيرة من العداء للعرب، ثم تعممت هذه المشاعر إلى كل الأقاليم التي صارت جزءً من بلاد فارس أي إيران الحالية فيما بعد، وفي كل مرحلة كان الشعار المطروح تعبيرا عن مصلحة لا تمت بصلة إلى حقيقة نوايا فارس المبيتة ضد الأمتين العربية والإسلامية، لأن هدف الفرس الرئيس كان ضمان الأمن القومي لإيران مع تأكيد خاصية نادرة في تحقيق هذا الهدف، وهي أنهم لا يخوضون حروبا مباشرة ضد الأخطار التي تهدد ذلك الأمن، بل يعتمدون على قوى أخرى لتقاتل عنهم من دون أن تتحمل بلاد فارس المسؤولية الأخلاقية أو القانونية بل لا تتحمل حتى التكاليف المادية للقتال، وفي كل مرحلة يختارون الشعار الذي يتناسب مع الأجواء العامة التي تحيط بالمنطقة أو بالعالم، ومع أن منشأ الديانة الصفوية كان على يد صوفي آذري هو صفي الدين أردبيلي، إلا أنها تحولت إلى دولة فارسية عرقية اضطهدت مع الأيام حتى أتباع القومية الآذرية وسائر القوميات التي اتبعت التشيّع لاحقا والتي أُخضعت لسلطانها السياسي فصارت جزءً من دولتها هذا في الجانب القومي أما في المعتقدات فإن الصفويين تحولوا إلى تشيّع تكفيري عدواني.
يعرض لنا تاريخ نشوء الدولة الصفوية صورا بشعة من الاضطهاد الذي تعرض له سنّة بلاد فارس، وتقول الروايات المعتمدة إن إسماعيل الصفوي الذي يعد المؤسس الحقيقي للدولة الصفوية، قتل أكثر من مليون سنّي بعد أن خيّرهم بين تغيير ديانتهم أو القتل، ولما جوبه بصدود واسع النطاق فقد ذهب إلى الخيار الثاني الذي كلف فارس (إيران) ثمنا باهضا ما زالت آثاره المدمرة تنشر أطلالها في كل بلاد العرب والعالم الإسلامي.
يشير الدكتور عبد الله النفيسي إلى وثيقة محفوظة في المتحف البريطاني فيقول، منذ أن اعتلى اسماعيل الصفوي العرش في فارس “إيران” عام 1501 وفرض التشيّع بالإرهاب وبالحرق والتقتيل على البلاد الذين كانوا من أهل السنّة والجماعة، منذ ذلك الوقت راسل إسماعيل الصفوي الملك مانويل الثاني ملك البرتغال في ذلك الوقت عندما كانت بلاده دولة ذات طموح لا يحده حد وتمتلك أسطولا حربيا وتتحرك بتوجيه كامل من الفاتيكان الذي كان ينظر إلى الإسلام كخطر يهدد أوربا مستعيدا كل ما تختزنه أوربا من عقد الحروب الصليبية التي بدأت في عام 1096 وانتهت عام 1192 في معركة حطين التي قادها القائد المعروف صلاح الدين الأيوبي، فأراد أن يجهز على الدين الإسلامي في عقر داره، أي في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وقال الصفوي لمانويل “لماذا لا نجهز على مكة والمدينة”، فأجابه مانويل الثاني، (إني أقدّر لك احترامك للمسيحيين في بلادك، وأعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة لاستخدامها ضد قلاع الترك في الهند، وإذا أردت أن تنقّض على بلاد العرب أو أن تهاجم مكة، فستجدني بجانبك في البحر الأحمر أمام جدة أو في عدن أو في البحرين أو في القطيف أو في البصرة، وسيجدني الشاه بجانبه على امتداد الساحل “الفارسي”، وسأنفذ له كل ما يريد).
وهناك مصادر أخرى تقول إن قائد الأسطول الحربي البرتغالي في الخليج العربي وبحر العرب “ألبو كريك” هو الذي بعث بهذه الرسالة، وعلى كل حال يمكن أن يكون ألبو كريك قد نقلها عن ملك اليونان مانويل الثاني وليست رسالته هو، فأمر كهذا من سلطات الملوك وليس القادة العسكريين، وبالفعل اتفقا على خطة متكاملة لتحرك عسكري متكامل، فسار مانويل الثاني بأسطوله إلى جدة، وعبر أسماعيل الصفوي بقواته إلى نجد وعسكرت قواته في منطقة يطلق عليها اسم “السكيرية”، ولكن الأمور لم تَسرْ على هوى الطرفين، فقد تلقّى الملك مانويل رسالة عاجلة من قصره يحثه فيها على العودة إلى بلاد فورا لأن المؤامرات كثرت بحيث باتت تهدد عرشه بخطر السقوط، ولهذا اضطر مانويل لإرسال رسالة إلى إسماعيل الصفوي يبلغه بتأجيل العملية بسبب ظروف بلده ويعده بفرصة أخرى.
فمن هم الصفويون ومن هو إسماعيل الصفوي؟ وهل نضيف جديدا إذا ما كتبنا عن تاريخهم الذي لم يعد منه شيء خفي على المتابع الحريص على سلامة أمته من خططهم ونواياهم الحقيقية؟
قراءة تاريخية…
تنتسب الأسرة الصفوية إلى الشيخ صفي الدين الأردبيلي “أردبيل مدينة في شمال إيران وهي مدينة آذرية”، وصفي الدين هو الجد الخامس لإسماعيل الصفوي، وكان صفي الدين في بداية عهده من مريدي الشيخ تاج الدين الزاهد الكيلاني، وكان واعظاً صوفياً في مدينة (أردبيل)، ثم أسس فرقة صوفية تسمى (الإخوان) وقد كثرت هذه الفرقة في إقليم (أذربيجان)، وهكذا نرى أن التصوف سلك في بعض الأحيان من خلال رموزه التي تعاني من ضعف في الحصانة الدينية والمذهبية وحتى الفكرية، قد تحول إلى منبع رئيس للتشيّع، وهذا ما بدأنا نلاحظه في العراق بعد الاحتلال الأمريكي من خلال بعض حركات التصوف مثل “حركة الإسلام المحمدي” والتي تريد التقرب من السلطة الإيرانية الحاكمة في العراق وتعطي نفسها تفسيرات باطنية في حقيقتها.
نعود إلى التاريخ فنقول إنه بعد وفاة صفي الدين أردبيلي أخذ مشيخة طريقته ابنه صدر الدين ولما توفي صدر الدين تولى ابنه “خواجة علي” ومن أجل تكريس زعامته السياسية فقد عقد لقاءات مع القائد المغولي تيمور لنك، ومن هنا نستطيع أن نؤشر أن خيانة الإسلام ليست حالة طرأت على تفكير هذه البلاد بل تمتد إلى الحفيد الثالث لمؤسسها صفي الدين ثم تتكرر في تواطؤ الصفويين مع البرتغاليين والقوة الأوربية المتنامية للتآمر على الدولة العثمانية، وتولى خواجة علي مشيخة الطريقة مدة 36 سنة، ومات في فلسطين، وقبره معروف في يافا باسم قبر الشيخ “علي العجمي”.
ثم تولى ابنه إبراهيم الذي لقب بـ “شيخ شاه” أي “الشيخ الملك”، وكان تعصبه شديدا للإمامية، وأدخل أتباعه بصراعات مع أهل السنّة في داغستان وإن كان قد فشل عن تحقيق أهدافه هناك، وبعد موته خلفه ابنه الأصغر جنيد والذي كثرت في عهده المظاهر الملكية، وكان جنيد متعصباً في تشيّعه على نحو جعله يخوض حروبا داخلية ضد السنّة، ولكنه قُتل في واحدة منها، ثم جاء من بعده ابنه حيدر الذي وهنا تبدأ مرحلة جديدة في تداخل النوازع الدينية مع بعضها، فقد تزوج من “مارتة” بنت حسن أوزون “الطويل”، وكانت أمها “كاترينا” ابنة “كارلو يوحنا” ملك مملكة طربزون اليونانية المسيحية، وحيدر أول من لقب بلقب “سلطان” من سلالة صفي الدين.
وحاول حيدر الانتقام لمقتل أبيه من الملك شروان، ولكنه قتل بدلا من الثأر لأبيه وخلّف وراءه ثلاثة أولاد هم علي وإبراهيم وإسماعيل من زوجته مارتة، وبعد أن مات شقيقاه علي وإبراهيم ذهب إسماعيل إلى مدينة “كيلان”، وقد رعاه الصوفيون هناك، ومنذ صغره حاول تجميع الصوفية حوله، استعدادا للانتقام لأبيه وجده ممن قتلهما.
ويعد إسماعيل أول ملك للدولة الصفوية إذ تسلم الحكم عام 1501م وأعلن قيام الدولة الصفوية في مدينة “تبريز”، وأول قرار اتخذه إعلان أن مذهب دولته هو مذهب الإمامية الاثني عشرية وأنه سيفرضه على جميع أنحاء فارس بأي ثمن ومهما بلغت التضحيات، كما فرض سبّ الخلفاء الراشدين الثلاثة في المساجد والأماكن العامة وبث عيونه لمراقبة تنفيذ الأمر وإيقاع أقسى العقوبات للرافضين، ومنذ وصوله إلى سدة الملك بدأت الخرافات والأساطير تنتشر على أوسع نطاق لدى أتباعه وكان كل مرجع من مراجع الشيعة يضيف إليها الكثير بعد أن ينسبها إلى واحد من الأئمة الاثني عشر، وانتقلت الإضافات إلى كثير ممن يعتبر نفسه رجل دين ذا خلفية تاريخية أو دينية، وتروي واحدة من تلك الخرافات (أنه بينما كان الشاه إسماعيل مع أتباعه الصوفية في الصيد في “تبريز” مر بنهر فعبره لوحده ودخل كهفاً ثم خرج متقلداً بسيف وأخبر رفاقه أنه شاهد في الكهف محمد بن الحسن العسكري “المهدي المنتظر”، وأنه قال له: “لقد حان وقت الخروج”، وأنه أمسكه من ظهره ورفعه ثلاث مرات ووضعه على الأرض وشدّ حزامه بيده ووضع خنجراً فيه وقال له “اذهب فقد رخصتّك”، واعتبرت تلك البداية لكثير من الأساطير التي ما تزال تضاف إلى رصيد الأئمة الاثني عشر لترفعهم إلى مصاف الآلهة، ووظف إسماعيل الصفوي فكرة الحق الإلهي القديمة لدى ملوك فارس والتي كانت سائدة في دولتهم القديمة خلال حياتها، ولهذا أمر الجنود بالسجود له وصار السجود جزء من الطقوس العبادية في دولته، وصار أتباعه يقدسونه ويعتقدون أنه لا ينكسر ولا يقدر عليه أحد.
بعد أن بات إسماعيل الصفوي يمثل خطرا على الدولة العثمانية داخل أراضيها خاصة بعد احتلال بغداد عام 1508 التي كانت جزءً من ممتلكات الدولة العثمانية في ذلك الوقت، أعلن السلطان سليم الأول عام 1514 الجهاد المقدس ضد الدولة الصفوية، ولكنه قبل أن يشن عليها الحرب أرسل رسائل إلى إسماعيل الصفوي طالبه فيها بالتوقف عن “سياسة الإبادة” التي يرتكبها ضد السنّة داخل حدود فارس ولما لم يجد أذنا صاغية، قرر سليم الأول تسيير جيش إلى بلاد فارس، ولكن إسماعيل ولما أحس بالخطر سعى إلى تأخير الحرب حتى فصل الشتاء الذي تتساقط فيه الثلوج بغزارة، كي يلحق الهزيمة بالجيش العثماني بلا قتال، ولكنه أخفق في مسعاه، فتقدم جيش سليم الأول عبر الحدود المشتركة، فوقعت معركة جالديران التاريخية بين الطرفين، وهرب إسماعيل تاركا أمواله وأفراد عائلته بمن فيهم زوجته التي تم أسرها من قبل جيش سليم الأول.
بعد هزيمته راح الشاه إسماعيل ونتيجة لضعفه يبحث عن صديق ليتعاون معه ضد العثمانيين، وكان للبرتغاليين في ذلك الوقت الدور الأكبر في المنطقة وخاصة في بلاد العرب وكان مما يعزز طموحاتهم أنهم يمتلكون أسطولا بحريا قويا في منطقة الخليج العربي وبحر العرب، فأغرت هذه التطورات الميدانية إسماعيل الصفوي لعقد مباحثات مع البرتغاليين أسفرت عن توقيع اتفاقيات وتحالفات عسكرية معهم، وقد كان تأثير أمه “مارتا” وجدته لأمه “كاترينا” اليونانية تأثيراً واضحاً في الحلف بين الطرفين ومن بين نتائج التحالف بين البرتغاليين، أن الشاه إسماعيل اعترف بحقهم بالاستيلاء على مضيق هرمز مقابل مساعدة الشاه على احتلال البحرين والقطيف في جزيرة العرب تمهيدا للقضاء على عدوهما المشترك أي الدين الإسلامي ورمزه “مكة المكرمة والمدينة المنورة” كما اتفق على مشروع لتقسيم المشرق العربي بين الطرفين، وذلك بأن يحتل الصفويون مصر في حين يسيطر البرتغاليون على فلسطين، وأصبح خيار التحالف مع أوربا المسيحية ضد الدول الإسلامية خيارا ثابتا لدى الصفويين ومن جاء من بعدهم ممن حكم إيران حتى اليوم، وتعززت هذه السياسة لما وصل طهماسب ابن إسماعيل إلى الحكم خلفا لأبيه فقد حرص على التحالف مع أوربا بعزيمة أكبر وكان تحالفه موجها ضد العثمانيين، وأرسل طهماسب السفراء إلى ملك المجر وامبراطور النمسا لتعزيز الحلف الفارسي الأوربي، وكان وصول السلطان العثماني (سليمان القانوني) إلى السلطة هو الدافع لإقامة هذا التحالف خاصة وأن القانوني كان يخطط لتوسيع فتوحاته في أوربا.
ولكن هذا الحلم لم يتحقق لأسباب كثيرة منها ما وقع من تهديد العرش البرتغالي في عقر داره مما اضطر الملك إلى إعادة جيوشه إلى البلاد كما مر ذكره، وكذلك كشف العثمانيين للمراسلات بين الدولة الصفوية والمماليك للتآمر لاحتلال مصر، فسارعت الدولة العثمانية لاحتلال مصر والقضاء على حكم المماليك وكان لهذه التطورات الأثر الكبير في إسقاط خطة غزو مكة المكرمة والمدينة المنورة.
وبعد معركة طرد الفرس من بغداد على يد سليمان القانوني عام 1534، شعر طهماسب بالتعب والملل من استمرار المواجهات العسكرية، لذا طلب الصلح من العثمانيين ووقعت معاهدة “أماسيه” سنة (1555م)، ومع نزعة الغدر التي تسيطر على الصفويين وجنوحهم إلى نكث عهودهم والخروج على ما اتفقوا عليه مع العثمانيين حيثما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، استمات طهماسب من أجل إقامة علاقة ما مع إنكلترا التي كانت تفكر بدخول أرض الصفويين من أجل توسيع نفوذها ورقعة سيطرتها في شتى الأرجاء، فأرسلت الملكة اليزابيث الأولى رسائل إلى الصفويين حملها جاسوس بريطاني بصفة تاجر وكان ذلك التحول عام 1558، ولأن طهماسب كان محبا للهو والعبث والمجون، استغلت أوربا هذه الخصال فيه وراحت تحرضه على العثمانيين.
كل ذلك كان يحصل مع غطاء ديني تمثل باستدعاء طهماسب لرجل دين شيعي من جبل عامل في لبنان هو نور الدين علي بن عبد العالي الكركي، الذي برر لطهماسب كل أفعاله ونزواته وذهب أبعد من ذلك عندما أطلق عليه صفة (نائب الإمام)، فكانت تلك هي البذرة الأولى لنظرية ولاية الفقيه التي أنبتها خميني بعد أكثر من أربعة قرون لتدخل العالم الإسلامي في أخطر دوامة سياسية وأكبر فتنة طائفية عاشها المسلمون منذ بدء الرسالة الإسلامية وحتى اليوم.
فماذا تغير من سلوك إيران الحديثة وهي وريثة الدولة الصفوية وبلاد فارس التي لم تحترم التزاما عقديا وقعته مع أي دولة في العالم؟ وخاصة العراق الذي ورث من الدولة العثمانية كل التزاماتها التعاهدية؟ وهل عاشت أية اتفاقية الزمن المحدد لها؟ إن أولى الاتفاقيات التي وقعها العراق بعد استقلاله عن الدولة العثمانية كانت اتفاقية عام 1937، ومع ذلك فإن إيران لم تحترمها بعد أن اختلقت الأزمات لإلغائها وهذا ما حصل عام 1969، فإذا كانت إيران لا تلتزم مع الدولة العثمانية باتفاقياتها ومعاهداتها الموقعة معها، فكيف لنا أن نتصور احترامها لاتفاقياتها مع الدولة العراقية التي كانت تنظر إليها بحجم سكانها وصغر مساحتها قياسا مع إيران؟ من هنا يمكن أن نتفهم أسباب توقيع أكثر من خمس وعشرين اتفاقية ومعاهدة دولية بين بلاد فارس والدولة العثمانية أو الدولة العراقية كلها بشأن تنظيم الحدود والعلاقات بين العراق وإيران، فهل يوجد مثل هذا العدد من الاتفاقيات بين بلدين في العالم؟ أم أن الاتفاقيات توقع من أجل أن تحترم، لكن بلاد فارس لم تلتزم بأي من تلك الاتفاقيات والمعاهدات لهذا لم تصمد بسبب نوايا الشر والأطماع الإيرانية بالأراضي العراقية وحلم العودة إلى إيوان كسرى في المدائن.
فهل يختلف حكام العراق الحاليون عن الحكام الصفويين وحكام إيران فيما بعد بشيء؟ أم أنهم مجرد أدوات طيعة بأيدي حكام فارس مع تزيين العمالة بالإطار المذهبي والخضوع للولي الفقيه كجزء من تكليف ديني شرعي لا يجوز الخروج عنه بأي حال.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى