العالم الجديد

كثيرا من التوقعات المحايدة والمنحازة قد نشرت حول العالم ما بعد انتهاء وباء كورونا وأحب ان اضيف تحليلا نابعا من قراءة الواقع الحالي في ضوء ردود أفعال الأنظمة السياسية المختلفة في العالم خلال فترة الوباء وتحليل ذلك لإعطاء صورة قريبة من الواقع الذي سيكون عليه عالم ما بعد كورونا والذي سيكون عالما جديدا.

دول عظمى اقتصاديا او عسكريا عجزت عن مواجهة الوباء ودول صغيرة او فقيرة نجحت في الانتصار على الوباء والانتصار على الوباء  بشكل عام كان بغض النظر عن مستوى الغنى والفقر والمساحة الجغرافية والإمكانات الاقتصادية وعدد السكان , من جانب اخر هناك شعوب التزمت بتعليمات الدولة وهناك شعوب تمردت او لم تتمكن من تقدير مستوى الخطر نتيجة للجهل او نوع الثقافة المحلية , اسوق هنا مثال على الشعوب التي التزمت بالحجر وتفهمت الخطر بغض النظر عن حجمها وقوتها الاقتصادية ومستوى الثروة لديها هي شعوب المانيا في أوروبا و وماليزيا وكوريا في اسيا و البحرين والأردن في الشرق الأوسط , في نفس الوقت شعوب إيطاليا واسبانيا لم تلتزم بالحجر  ولم تفهم المغزى منه وذلك لنوع الثقافة والتقارب الاجتماعي وطبيعة حياة تلك الشعوب التي تعيش متلاصقة مع بعضها البعض .

مقالات ذات صلة

لنأخذ مثالا بسيطا على دولتين عربيتين حتى نتمكن من الاستفادة من تجربتهما بعد كورونا وليكونا مثالا يحتذى به وهما مملكتي الأردن والبحرين وكيف نجحت تلك المملكتين في كبح جماح الوباء، فالأردن دولة فقيرة يبلغ عدد اللاجئين لديها أكثر من عدد السكان والأردن لا يمتلك موارد طبيعية ولا انهار وتحيط بها دول خاضت وتخوض حروبا منذ تأسيس المملكة لغاية اليوم فما السر في نجاح الأردن في مواجهة الوباء؟

الأردن دولة مؤسسات والقانون فيها يطبق بشكل حازم وبدون مجاملات والشعب الأردني يثق بالدولة كدولة مؤسسات ويثق بالجيش الذي نزل للشوارع منذ اليوم الأول للحجر الصحي وتعامل رجال الجيش الأردني مع المواطنين واللاجئين والمقيمين في مستوى راق من الإنسانية والتفهم ورعاية الكبير والصغير وتلبية حاجة المحتاج والمريض ، الملك عبد الله المحبوب من الجميع  على حد سواء كان له دور كبير من خلال الكارزما التي يتمتع بها والمتابعة الميدانية اليومية له مما حدا بكافة السكان بالامتثال للتعليمات الخاصة بالحجر الصحي  واضافة أخرى لأسباب النجاح هي الثقافة الأردنية البدوية العربية العريقة التي تحترم قرارات الاب في الاسرة وقرارات رئيس العشيرة في العشيرة وقرارات الملك في البلد وروح النخوة والشهامة السائدة في المجتمع الاردني , الأردن نجح بالحجر الصحي ولم ينتشر الوباء فيها بشكل كبير  وكان للمؤسسات الصحية المتطورة  والبنية التحتية الصحية والعامة القوية دور فعال في محاربة وإيقاف انتشار الفايروس , اذن سر نجاح الأردن هو دولة مؤسسات وجيش يثق به الشعب وتقاليد عربية اصيلة وملك محبوب يتابع شعبه على مدار الساعة

اما مملكة البحرين البلد الصغير القليل الموارد  ويواجه مخاطر تهدد كيانه كدولة ابرزها أطماع  ايران التي تريد ابتلاعه وتدفع المليارات سنويا لبعض المرتزقة من اجل اثارة القلاقل في داخل البحرين والى وسائل اعلام عالمية معروفة من اجل تشويه صورة البحرين دوليا وقطر الدولة التي تحوك المؤامرات على البحرين منذ انقلاب الحمد على والده وتصرفت بشكل مخزي مع البحرين في مواقف كثيرة اكثرها خسة كان الامتناع عن بيع الغاز القطري  للبحرين منذ سنة  2005  ولغاية الان من اجل إعاقة حركة اقتصاد البحرين و في نفس الوقت تبيع قطر الغاز لدول تبعد عنها الاف الكيلومترات وتصدره بالناقلات لكن ترفض ان تبيع الغاز الى البحرين التي تبعد عنها  كيلومترات قليلة وباي سعر كان ولذلك فقد اضطرت البحرين للذهاب الى روسيا التي تبعد الاف الكيلومترات للاتفاق معها على شراء الغاز. البحرين تغلبت على وباء كورونا بطريقتي الحجر الصحي والعلاج والرعاية الصحية.  

المعروف ان شعب البحرين شعب عريق وله تاريخ مميز بين دول المنطقة وحيث ان قطر وإيران حاولتا استغلال موضوع إعادة مواطني البحرين من ايران خلال هذه الفترة لكنها فشلت , ومن المكاسب التي حصل عليها البحرين من الازمة ان الشعب اصبح يثق الان بحكومته اكثر من السابق وصارت العلاقة بالدولة اقوى وصار الولاء والانتماء للبحرين فقط  وعلم شعب البحرين علم اليقين ان لا احد ينقذه من الازمات الا بلده البحرين والان وقد فشلت كل محاولات ايران في شق الصف الوطني اصبح كل شعب البحرين يقف وراء ملك البحرين صفا واحدا ضد  الاطماع الإيرانية.

لقد أعطت مملكتي الأردن والبحرين مثالا على الخبرة والحكمة التي يتمتع بها عاهلي المملكتين في مواجهة الاخطار ودولة المؤسسات والبنية التحتية القوية والحب السائد بين القيادة والشعب وثاقة ووعي الشعبين وانتصارهما سيكون نموذجا يحتذى به ودروسا يستخلصها العالم فيما بعد.

 ومن خلال تلك الثقة والتماسك والالتزام بتعليمات الدولة ستتمكن شعوب الأردن والبحرين بعد انتهاء الازمة وعودة الحياة لطبيعتها من النهوض بسرعة تفوق مرات عديدة بقية شعوب المنطقة ومن هذه التجربة يجب على بقية الدول العربية الاستفادة من تلك التجربتين الناجحتين ومراجعة كافة الإجراءات التي تمت خلال الازمة وخلق نظام طوارئ صحي للمستقبل وعمل بنية تحتية قوية قادرة على تلبية حاجات السكان في كافة الظروف.

المثال الأسوأ في مواجهة كورونا كان بريطانيا وامريكا الدولتين الأكبر والاغنى في العالم ففي بريطانيا فشل رئيس الوزراء بوريس جونسون في إدارة الازمة منذ بدايتها فقد ظهر على العالم في بداية الازمة بمفهوم مناعة القطيع التي تعني بانه يريد ان يصاب معظم البريطانيين بالفايروس حتى تصير لدى الغالبية المناعة وهذا المفهوم الطبي لا يتماشى مع حالة وباء كورونا لان ذلك الوباء يؤدي الى الموت وهو ليس وباء عادي مثل وباء الحصبة او الانفلونزا العادية التي يعنيها مفهوم مناعة القطيع  والظاهر ان السيد جونسون كان قد سمع عبارة مناعة القطيع من احد الأطباء وتمسك بها دون ان يفهم معناها او ان يقدر ويفهم طبيعة الفايروس المميتة وكعادته فقد تصرف بفوضوية وبدون تقدير للمسؤولية وخرج عن نطاق المألوف لدى المجتمع البريطاني المعروف بالتزامه وحذره وانتشر الفايروس في بريطانيا بشكل مخيف وأصاب الاف الأبرياء واصبح يحصد الأرواح وبوريس جونسون يخرج على الاعلام وهو سعيد بان الفايروس قد قتل 600 شخص في اليوم وهذا انتصار لان الوفيات كانت في اليوم السابق 650 , هل يعقل ان تفرح دولة بموت 600 مواطن يوميا لان الرقم اقل من اليوم الذي سبقه ؟

شعبية بوريس جونسون لم تتراجع فقط بل انتشرت موجه من السخط عليه وعلى حكومته الفاشلة بحيث صدرت تقارير صحفية في لندن يوم أمس الاحد 19 ابريل تقوم ان السيد جونسون أهمل عمله في رئاسة الوزراء ولم يحضر اخر خمس اجتماعات للحكومة. في ضوء ما تقدم من استعراض أخطاء الحكومة البريطانية فانه من الطبيعي ان تكون نتائج فيروس كورونا على بريطانيا كارثية فالمملكة التي خرجت من الاتحاد الأوروبي محملة بالديون والالتزامات وباتفاق ناقص سيكون طريقا الانقسام في الراي العام وفي افضل الأحوال ستنهار الطبقة السياسية البريطانية المتمثلة بحزبي المحافظين والعمال الذين يحتكرون السلطة في بريطانيا بشكل مطلق وستظهر أحزاب جديدة تلبي حاجة الشعب فأزمة كورونا كانت اختبار لمصداقية وكفاءة نظام الحكم ولا نستبعد ان أصبحت المملكة المتحدة غير متحدة في نهاية هذا العام.

أمريكا القطب الأوحد في العالم قد أصابها الوباء وسط تخبط الإدارة الامريكية وانشغال الرئيس ترامب بالتصريحات النارية واهماله الإجراءات الحازمة لحماية الشعب الأمريكي من الوباء وفي معظم تصريحاته كان يفضل تشغيل المصانع والشركات على حجر الناس لحمايتهم لأنه يفكر بعقلية الرأسمالي الاحتكاري الجشع الذي لا يهمه موت الناس والاهم عنده هو حماية راس المال , لو تتبعنا تصريحاته منذ بداية الازمة لتعرفنا على ضحالة ادارته فتارة يريد احتكار دواء من شركة ادوية المانية مازالت تبحث في الوصول للدواء ويتشاجر معها وتاره يسرق كمامات من دولة أخرى وتارة يقول ان سبب انتشار الوباء هو الرئيس السابق باراك أوباما وتاره يقول ان الصين هي من نشر الوباء في حرب بيولوجية ضد أمريكا وأخيرا قام بقطع المساعدات عن منظمة الصحة الدولية لأنها رفضت ان تقف معه في اتهامه للصين بانها شنت حربا بيولوجية ونشرت الفايروس , أمريكا بعد الكورونا ستكون مختلفة فالناخبين الذين كانوا ينتخبون الجمهوريين او الديمقراطيين لقاء مبالغ مالية او خطب رنانة سيمتنعون عن انتخابهم لان الحزبين وسياستهما فشلك في حماية الشعب سوف يصبحان خارج الزمن , فكيف تسمح السلطات الامريكية بإقامة اكبر كرنفال سنوي والوباء في ذروته في أوروبا ؟ أحزاب جديدة ستظهر في أمريكا تلبي حاجة الناس ومن المحتمل ان ينقسم الراي العام في بعض الولايات وتبدأ مرحلة صراع جديدة من نوع جديد.

العالم الجديد

الأنظمة في عالم ما بعد كورونا والتي اثبتت انها مسؤولة امام شعوبها وتصرفت بحرص وحكمة ستكون هي الأنظمة الأقوى لان ازمة الكورونا كانت اختبار حسن نوايا لكل الأنظمة السياسية في العالم تجاه مواطنيها، الصحة ستكون من أولويات الدول في العالم. كل الدول ستقوم بمراجعة أنظمتها الصحية ومن الطبيعي ان نمط الحياة سيتغير وسيتم الاستغناء عن بعض الوظائف في مقابل وظائف واختراعات جديدة سوف تظهر للعالم وتجربة النجاح ستضع الدول الناجحة في مصاف الدول الأهم في العالم والقطب الأمريكي الذي استفرد بالعالم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي سيزول لان هناك اقطاب أخرى سوف تظهر تتعامل مع بعضها ومع العالم بإنسانية بعيدة عن التهديد والوعيد والغزو والحروب العشوائية , الدول التي كذبت على العالم وعلى شعوبها ستصاب بالعزلة  والدول التي استغلت الازمة في بسط نفوذها او خلق المشاكل لدول اخرى سيتم معاقبتها وفي احسن الأحوال سيتم معاملتها بالمثل , تكتلات جديدة ستظهر لا تأخذ البعد الجغرافي او الاقتصادي او السكاني في الاعتبار , صحيح ان دروس كورونا ستكون كبيرة لكن التضحيات التي دفعتها والتي ستدفعها البشرية من اجل الاستفادة من تلك التجربة تضحيات كبيرة وهائلة ونحن الان لسنا في زمن الانفلونزا الاسبانية في بداية القرن التاسع عشر نحن في القرن الواحد والعشرين

الفايروس في انحسار واخذ العالم الان يستذكر الاحداث ويؤشر الأخطاء ويستفاد من التجربة المرة وستكون الحياة اكثر امنا وجمالا لأننا سنتخطى احدى اكبر الكوارث التي مرت على الإنسانية .

بسام شكري

باحث وكاتب عراقي

تعليق واحد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى