في التسعينات من القرن الماضي ، ألقيت العديد من المحاضرات ، وبالأخص على طلبة الدكتوراه ، وكتبت العديد من المقالات ، وألفت اكثر من كتاب تناولت فيها المواضيع الآتية ( العولمة الاقتصادية ، ومأزق العولمة ،وفِي الفترة الاخيرة العولمة واحتلال العراق. ) وتطرقت فيها ، عن الأوضاع الآي يعيشها العالم ، وما ستؤول اليه الاحداث ، وفعلا اليوم وكما كتبت سابقا ، نعيش مرحلة تاريخية حاسمة يحدد فيها معالم النظام الدولي الجديد ، ووصفت هذه المرحلة بمرحلة التحولات الكبرى ..
بعد انهيار المنظومة الشيوعية ، اتيحت الفرصة للمنظومة الرأسمالية ، وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية ، الانفراد بالعالم ، كون الولايات المتحدة الامريكية تمتلك اكبر قوة اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية ، مما اتيحت لها الفرصة للهيمنة على الاقتصاد العالمي ، ولعدم وجود قوى اقتصادية مؤهلة لتحل محل الاتحاد السوفيتي المنهار ، لخلق حالة من التوازن.
وتمكنت امريكا وبشكل مؤقت من السيطرة على مؤسسات الامم المتحدة ، ومجلس الأمن الدولي والمؤسسات الاقتصادية ، كصندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، ومنظمة التجارة العالمية
( WTO ) ، فضلا عن هيمنتها على اكبر الشركات المتعددة الجنسيات والتي يبلغ عددها بنحو ١٢٠ الف شركة ، ولها ما يقارب ٥٠٠ الف فرع منتشرة في جميع دول العالم ، وهذه الشركات تتحكم في عولمة راس المال الأجنبي …
وعلى هذا الأساس فإن الوصف الدقيق لهذه المرحلة التاريخية التي يمر بها العالم ( منذ انهيار النظام الدولي الذي افرزته الحرب العالمية الثانية والمتمثلة بوجود قطبين ) ، هو انفراد قطب واحد بالعالم يحاول الهيمنة على مقدراته الاقتصادية والسياسية والثقافية وبكل الوسائل ، وهو ليس نظاما دوليا كما يدعي البعض ، وإنما هو مرحلة انتقالية لتشكيل نظام دولي جديد ، الذي تسعى امريكا لأن يكون نظاما أمريكيا بكل معانيه ، وتسعى بقية الدول ان يكون النظام الدولي الجديد متعدد الأقطاب ، وبما يخدم المصالح الانسانية المشتركة
بعيدا عن الهيمنة والاستغلال والاضطهاد
ومن الملاحظ ان البناء الفوقي الكوني الحالي ، والمتمثل بالأمم المتحدة ومؤسساتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والقانونية وغيرها
هي من مخلفات النظام الدولي الذي افرزته الحب العالمية الثانية ، ولم يطرأ عليه سوى تغيرات محدودة ، مما جعله متخلفا وغير منسجما مع ما حصل من تطورات كبيرة على قوى الانتاج الكونية.
وهو نفسه الذي تستخدمه امريكا لفرض هيمنتها على العالم.
وعلى هذا الأساس تعمقت التناقضات داخل المنظومة الرأسمالية من جهة وبينها وبين دول عالم الجنوب من جهة ثانية. وانطلاقا من ذلك سعت امريكا على قيام نظام اقتصادي دولي جديد معتمدا على مبدأ تدويل الاقتصاد العالمي وصولا الى عولمة رأس المال وعولمة الانتاج وعولمة التكنولوجيا .. وأصبحت الرأسمالية تُمارس نشاطها خارج حدودها وتتجاوز جميع الحدود القومية .. وأصبح ذلك ممكنا بفضل ظهور وتطور الشركات المتعددة الجنسيات ، واصبح لهذه الشركات دور كبير في عملية العولمة. ان المنظومة الرأسمالية والمتمثلة بالولايات المتحدة الامريكية ، تعاني من أزمات اقتصادية – اجتماعية مستعصية الحل ، وهذا جزء من طبيعة النظام الراسمالي منذ نشوئه وحتى يومنا هذا ، حيث ان عملية التراكم الاقتصادي المضاعف الذي حققته الرأسمالية وفائض الانتاج المنسوب للتطور التكنولوجي ولم يعد في الحقيقة الطلب الفعّال الموجود في الاسواق التقليدية يستوعبه ، فلا بد والحالة هذه العمل على إيجاد أسواق غير تقليدية لاستيعاب ذلك العرض الكلي الكوني والعمل على تحفيز الطلب الفعّال وبكل الوسائل حتى لو اضطررنا الى اعاقة التنمية في بعض البلدان ، وكان ذلك باستخدام الوسائل العسكرية ، كما فعلت مع الكثير من دول عالم الجنوب. ..
لذلك جاءت العولمة كتكييف فكري لجعل الكرة الارضيّة تنفتح على بعضها البعض حتى تكون سوق مفتوحة امام فائض الانتاج المتراكم لدى المنظومة الرأسمالية ، وبالأخص امريكا كي تحل ازمتها الاقتصادية والاجتماعية على حساب دول وشعوب العالم.
لذا نرى ان الولايات المتحدة الامريكية تسعى وبشكل محموم للهيمنة على المؤسسات الدولية وبخاصة مجلس الأمن الدولي ، وتعمل جاهدة لمنع ظهور أية قوة اقتصادية وسياسية تنافسها على موقعها القيادي الحالي. .
امريكا تسعى لمنع أوربا أن تظهر كقوة منافسة لها ، والصين التي أصبحت اليوم اكبر منافس تجاري لامريكا وكذلك دول شرق اسيا وروسيا من ان تأخذ هذه الدول
دورها الحقيقي ، كي لا تؤثر في اعادة التوازن الدولي وخلق نظام دولي جديد متعدد الأقطاب على عكس ما تسعى اليه امريكا نفسها ..
واصبح الصراع بين الصين ومحورها وأمريكا ومحورها ، ذات طابع اقتصادي بالدرجة الأساس ، وانعكس هذا الصراع بشكل او بآخر على منطقة الشرق الأوسط برمته. واصبح يهدد الأمن العالمي ، وقد يتطور هذا الصراع ليأخذ ابعادا خطيرة جدا ، اذا لم يحسم اقتصاديا ، فسيُحسم عسكريا .. استنادا الى ان اي مشكل اقتصادي – اجتماعي مستعصي الحل سيعبر عنه بلغة السلاح .. كما حدث في الحربين العالميتين الاولى والثانية.
فنحن نعيش مرحلة تاريخية من الممكن تسميتهابمرحلة دكتاتورية راس المال .. كوّن راس المال منحصر بيد خمسة عوائل
من أغنى أغنياء العالم ، وهذه العوائل تستحوذ على ثلثي الثروة العالمية وهي التي تتحكم بمصير العالم ومن جميع النواحي ، وهي ترسم السياسات العامة للعالم ، وهي التي تتحكم بمعيشة ونمط حياة البشرية ، من خلال تحكمها بالثروة .
فضلا عن هؤلاء العوائل هنالك أشخاص يعتبرون من عمالقة اصحاب رؤوس الأموال في العالم ، وهذه الطبقة تدعى بطبقة الواحد بالمئة . وهي الاخرى تلعب دورا مهما في تحديد سياسات العالم الى جانب العوائل الخمسة ، وهي التي تستغل قوة العمل وهي التي تخلق الفوارق الطبقية داخل المجتمعات وهي التي تحدد تعاسة وسعادة المجتمعات .
وعليه فان قوى الانتاج في العالم تطورت بالشكل والكيفية التي ما عادت العلاقات الإنتاجية الكونية القائمة تستوعب هذا التطور ، فأصبح من الضروري والحالة هذه البحث عن علاقات إنتاجية كونية جديدة تستوعب ما وقع من تطور كبير على قوى الانتاج .. إن حالة اللاتوازن هذه وبسبب تعمقها خلال الخمسين سنة الاخيرة قد أوقع قوى الانتاج في حالة تناقض تناحري مع العلاقات الإنتاجية القائمة ، وبذلك أصبحت عملية التغيير ضرورية وموضوعية لابد منها . وعليه اصبح الصراع القائم حاليا هو عبارة عن صراع فكري كوني بالدرجة الأساس ، وسيفضي هذا الصراع الى إيجاد نظام دولي جديد ينبني على أنقاض النظام الحالي .. وسيكون نظاما متعدد الأقطاب
تكون فيه دكتاتورية الشعوب هي التي تتحكم بالعالم بدلا من دكتاتورية راس المال.
830