ليس عيبا أن يتعرض بلد ما مهما توفرت له من أسباب القوة العسكرية، إلى عدوان يمكن أن يلحق به أذى كبيرا، فقد شهد ميناء بيرل هاربر أوسع هجوم ياباني أتى على القاعدة العسكرية الأمريكية عن آخرها، ولكن الولايات المتحدة استفادت من دروسه العسكرية والأمنية وتمكنت في نهاية المطاف من إلحاق الهزيمة النهائية باليابان، فليس كل من يضحك في منتصف الطريق يمكن أن يكمله إلى النهاية.
ولكن علينا أيضا عدم تبسيط الأمور إلى هذا الحد، فقد تطورت أساليب اكتشاف محاولات العدو التقرب من الأهداف المحلية بما فيها القليلة الأهمية، فكيف الحال مع أهداف استراتيجية ترتبط بها حياة المملكة العربية السعودية ودوام استقرار مواطنيها، ذلك أن منطقة انتاج النفط ليست منصة لصادرات عادية، بل هي العمود الفقري للاقتصاد السعودي من جهة ولتوفير المشتقات النفطية والمياه الصالحة للاستخدامات البشرية وكذلك لدورها كأكبر مصدر في امدادات الطاقة من مناشئ الانتاج إلى مراكز الاستهلاك.
هكذا إذن تحولت المنطقة السعودية الحيوية إلى نقطة واهنة أمام استهداف إيراني تم اختياره عن دراية وربما عن رصد استخباري طويل، وتهيئة السلاح المناسب القادر على الوصول إليه وتدميره كليا أو جزئيا، وهذه النسبة لم تعد مهمة، فمن وصل مرة إلى هدفه يستطيع “إن لم يتم ردعه” من الوصول إليه مرات ومرات حتى يجهز نهائيا على هذا الهدف، وهنا يمكن أن يطرح المراقب كما هو حال المواطن البسيط السؤال التالي، أين مضى الحديث عن القوة العسكرية المتفوقة التي تمتلكها العربية السعودية؟ وأين هي الأسلحة الأمريكية الحديثة التي حصلت عبر صفقات بمئات المليارات من الدولارات؟ وهل يتوافق ذلك الانفاق مع النتائج المخيبة للآمال التي تحققت في التعامل مع العدوان الإيراني الأخير؟
وربما أهم سؤال يطرح هنا، إذا كنا نردد بمعرفة أو من دونها، بأن القوة العسكرية الإيرانية باتت في غاية التخلف بسبب قدمها، قد تمكنت من تنفيذ هذا العدوان الناجح فكيف الحال لو أن إيران كانت أكثر تطورا؟ أو أن دولة أخرى من وزن الدول الأوربية أو إسرائيل على سبيل المثال هي التي حضّرت لعمل عسكري ضد السعودية؟ فماذا كانت النتائج المتحققة من ذلك؟ طبعا ما ينطبق على السعودية في هذه النقاط ينطبق تمام الانطباق على كل دول مجلس التعاون الخليجي من دون استثناء وربما على دول عربية كثيرة، ولندع التبجحات جانبا ونتعامل مع الوقائع كما هي، ليس بهدف الرضوخ لها وإنما بهدف استنباط الطرائق المؤدية إلى سد الثغرات في الجدران الأمنية لتلك البلدان وبالتالي جدار الأمن القومي العربي، فحقيقة الأمر أن العراق كان هو القوة العسكرية الوحيدة التي يستطيع المراقب أن يطلق عليها اسم الجيش الحديث المالك لكل أسباب القوة المادية والبشرية والعلمية، ولكن العراق صار هدفا لأعداء الأمة بنفس درجة استهدافه من أشقائه العرب الذين باتوا اليوم يتحسرون على كل دولار أنفقوه للتآمر على قوة العراق التي كانت سندهم الحقيقي وقت الملمات.
والآن وبعد أن وقعت هذه النكبة ولنتوافق على تسميتها بهذا الاسم، فهل يجب علينا أن نحوّلها إلى قبر لطموحات الأمة ونقف عنده نبكي مستقبلها ليل نهار؟
قطعا لا يمكن الركون إلى أية حماية مستأجرة أو ضمانات أمنية خارجية مهما كانت طبيعتها أو الثقة بالجهة التي قد توفرها، فالقوى الخارجية تعمل لمصالحها الخاصة وربما لا تختلف كثيرا عن موظفي المنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة العاملين في المناطق الساخنة والذين سرعان ما تبادر الجهات الموفدة لهم لسحبهم مع أول تصعيد لحدة التوتر، كما أن عقد المزيد من صفقات التسليح مع أمريكا أو غيرها لم يعد مجديا لا سيما وأن ما تمتلكه السعودية من أسلحة حديثة يفوق التصور ولكنها أسلحة للخزن أو المتاحف الحربية أو للعروض العسكرية أو غير مصرّح لها باستخدامها.
فما هو الحل المناسب لهذه المعضلة التي اسمها الفوضى الإيرانية، التي تسخّر مليشيات ومنظمات مسلحة إرهابية لتنفذ نيابة عنها ولصالحها عمليات عسكرية تربك المشهد السياسي، وعند الضرورة تدخل إيران بشكل رسمي على خط المواجهة.
التاريخ الحديث يحدثنا عن وقائع دخلت فيها دول كبرى في صفقات سرية مع أطراف معادية لها، ولعل فضيحة كونترا التي حصلت إيران بموجبها على كمية كبيرة من صواريخ تاو الأمريكية المضادة للدروع وتم تحويلها على جناح السرعة من مخازن الجيش الإسرائيلي إلى إيران بعد أن وصلت إلى أسوأ حالة من الضعف أثناء معركة القادسية الثانية فاضطرت لاستجدائها من عدوها المفترض أي الولايات المتحدة، ولأن الرئيس الأمريكي حينذاك دونالد ريغان رأى أن مصلحته السياسية تتطلب الحصول على أي انجاز، ذهب إلى أن إيران هي وحدها القادرة على إطلاق سراح عدد من الرهائن الأمريكان المحتجزين وخاصة من قبل حزب الله اللبناني، وهذا كما حصل وتم تحويل قيمة السلاح إلى عملاء أمريكا في نيكارغوا.
فهل العرب استثناء من دون دول العالم لا يجيزون هذا النمط من التعامل؟ وهل على السعودية أن تواصل تصرف الدول المتمدنة مع إيران التي تتصرف تصرف المافيات وتبتز دول العالم بطرق رخيصة هي على العموم ليست استثناء عما عهده العالم من سلوك إيراني مع جميع دول العالم، فما هي التصورات المتاحة أمام السعودية للرد على العدوان الإيراني؟ لا سيما وأن احتمالات الرد العسكري مستبعدة في الوقت الراهن على الأقل.
لقد كان مثيرا لدهشة المراقبين، حرص السعودية على إجراء عمليات الصيانة والتصليح على المنطقة التي تعرضت للعدوان، في حين أن المصلحة الوطنية كانت تستوجب الإبطاء في تلك الخطوات إن لم يكن عدم القيام بها أصلا كي ترتفع أسعاره بنسب متوازنة مع قلة المعروض منه، ذلك أن الصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند ودول آسيوية أخرى، كانت هي وأوربا وخاصة فرنسا وألمانيا حليفاً مخلصاً لإيران، تبذل ما في وسعها للتحايل على العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، ومن باب تذكير هذه الدول أنها غير قادرة على صداقة العرب وإيران على قدم المساواة، أو الاعتماد على امدادات النفط الإيرانية غير المضمونة، كان يجب التماطل في عمليات الصيانة خاصة وأن كثيرا من مصافيها مصممة على مقاييس النفط السعودي الخفيف، لذلك ما كان يجب المبادرة بتصليح آثار العدوان لمجرد التباهي بأن أرامكو تمتلك قدرات تقنية قادرة على التعاطي مع أشد الأزمات حدة.
لكن هناك أهدافا أخرى كان يجب تحقيقها من أي رفع للأسعار ويمكن إجمال أهمها على النحو التالي:
1 – أن العالم الذي يستنزف نفوط الدول المنتجة ويعيد تصديره كمنتجات مختلفة بأسعار خيالية، يجب أن يتحمل جزءً من تكاليف الصيانة من دون إسقاط حق السعودية بمطالبة إيران حصرا عن كل الأضرار التي لحقت بها عن هذا العدوان وكل الاعتداءات التي شنها الحوثيون والمليشيات الشيعية العراقية.
2 – إن إيران التي حققت انتشارا واسعا في الوطن العربي وآسيا وأفريقيا من خلال تجنيد البسطاء والسذج والفقراء والجهلة من الشيعة، وتسخيرهم في منظمات مسلحة تقاتل نيابة عنها تتسلم ميزانياتها من الدول التي تعمل فيها وتتلقى أوامرها من علي خامنئي وقاسم سليماني، وما تزال تحتفظ بكل امتيازات الدولة العضو في الأمم المتحدة والأسرة الدولية، يجب ألا تُترك لوحدها لتعبث بأمن جيرانها العرب وسط تأييد صامت أو دعم سري من أكثر الدول التي تزعم أنها تناصبها العداء، لذلك يجب على السعودية أن تنشأ صندوقا وطنيا لدعم القوميات المضطهدة في إيران وخاصة العرب وكذلك المكونات الدينية والمذهبية من غير أتباع الولي الفقيه وخاصة البلوش، وهنا قد يطرح سؤال منطقي، هل تسمح الدول الكبرى لبلد مثل السعودية لتفعل ذلك؟ حسنا لماذا تستضيف أوربا وخاصة فرنسا أنشطة منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة؟ هل يجيزون لأنفسهم ويحرّمون ذلك على غيرهم؟
لنعترف أن قرارا كهذا قرار صعب، ولكن تاريخ المملكة العربية السعودية يسجل لنا تدخلا في اليمن بعد ثورة 26 سبتمبر بقيادة المشير عبد السلال، إذ قدمت دعما مفتوحا لأنصار محمد البدر ابن الامام السابق، وهذا التدخل أدى إلى ضرر قومي فادح أشغل الجيش المصري في حرب لنصرة النظام الجديد في ذلك الوقت استمرت حتى هزيمة الخامس من حزيران 1967 وكذلك وقوفها ضد النظام الوطني في العراق عام 1990، وعليها الآن أن تكرر التجربة نفسها ولكن مع إيران.
إيران لا يمكن أن تفهم غير لغة القوة وإذا ما شعرت أن أساليبها ستنقلب عليها وبالا فسوف تتوقف عن تحريك عملائها في الساحة العربية.
أما إذا شعرت المملكة العربية السعودية أن قرارا كهذا مرفوض من قبل الدول الكبرى قاطبة، فإن إيران لم تستأذن أحدا عندما راحت تعبث بأمن المنطقة وخطوط الملاحة الدولية وإمدادات الطاقة.
816