صديقي المرحوم اللواء الركن دخيل الهلالي، رئيس المؤسسة العامة للنقل البري، والقائد العسكري العراقي الكبير في حروب الجيش العراقي والتي كان فيها ضابطا بارزا في كل صفحة من صفحاتها، تطوّعنا معاً لألوية المهمات الخاصة، فأصبح هو آمر اللواء وأصبحتُ أمرا للسرية الأولى في اللواء المذكور، التحقنا بجبهة القتال في منطقة الشوش في يوم واحد وتأسرنا في يوم واحد وعدنا من أسر عشرين عاما إلى العراق في يوم واحد.
المهم تأسرنا يوم 24 آذار 1982 ولم يرَ أحدنا الآخر إلا بعد أن التقينا مرة ثانية في مطلع شهر أيلول 1991 وذلك عندما تم نَقلُ مجوعتنا المغضوب عليها إيرانياً طيلة أيام الأسر، وجدته بعد عشر سنوات وقد تركت السنون على جسده بصمات ظاهرة لتقدم العمر، وقطعّا هذا ما لاحظه علي من دون ألمسه على نفسي بحكم التدرج الطبيعي في التغييرات.
وجدت في المعسكر الجديد الذي يحمل اسم (قمصر كاشان)، أو خرابة ناصر شاه، فهو من الأبنية التي يعود عمرها لعدة مئات من السنين، وتقع في المحافظة المركزية (آراك)، عشرات من الأصدقاء والرفاق الذين التقيتهم في دروب الحياة أو في بداية الأسر، وكان اللواء الركن الهلالي من أكثر الذين سُعدتُ بلقائهم هو والرفيق علي محمود المشهداني (أبو حيدر) هناك فقد كانا رجلين ثابتين على مبادئهما مع فداحة الثمن الذي قدماه مع عمر متقدم وأمراض شتى لكنّ عريكتهما لم تلن لأعداء العراق وضغوطهم الهائلة عليهم وكذلك كان بقية الأسرى المعاقبين في هذا المعسكر المخفي الذي يسميه الإيرانيون (معسكر الأسرى القادة).
بدأنا نقضم وقتنا المحدود للقاء المفتوح بين أسرى القاعات المختلفة لممارسة ما يسمى (بالآزادي)، هذه الكلمة الفارسية الممنوعة من التطبيق الميداني في أي مكان في إيران لأن معناها (الحرية)، استأنفنا المشي (رياضة الشيوخ)، وكانت أحاديثنا ذات أبعاد سياسية تاريخية اجتماعية، نستلهم من جانبها التاريخي امتداداته على الواقع القائم، سياسيا واجتماعيا، بدأت أسرد عليه ما قرأته في كتاب في الليلة الماضية من كتاب (شرح البلاغة لعبد الحميد بن أبي الحديد) في القسم المخصص (لثورة الزنج)، وهذا الكتاب الوحيد النافع الذي وفره لنا الإيرانيون الذي يمكن أننا حصلنا على حصيلة عقلية منه أضافة إلى كتاب (مجمع البيان في تفسير القران للطبرسي)، من بين عشرات العناوين الهابطة التي كانت تضخ على الأسرى بهدف تخدير العقول وتغييب الوعي والكسب الطائفي الرخيص، مثل (عيون أخبار الرضا، شجرة طوبى، بحار الأنوار …إلى آخر ما في هذه القائمة من المضحكات المبكيات)، قصصت على أخي العزيز أبي علي الهلالي إحدى القصص المأساوية التي نقلها ابن أبي الحديد عن نتائج ثورة الزنج في البصرة فقال، (دخلت نسوة في بيت بصري مر عليه الزنج فلم يبقوا عليه شيئا، وجدوا امرأة كانت تمسك بجمجمة أختها وتبكي بمرارة، وهي تقول (هذا رأس شقيقتي عثرت عليه بعد أن دخلت البيت قبل قليل بعد أن قتلوها، وأكلوا ما فيه من لحم حتى لم يتركوا لي شيئا أنتفع منه، إذن هي تبكي ليس حزنا على موت شقيقتها بتلك الطريقة الوحشية بسبب ثورة الزنج، رغم فداحة المصاب بل لأن جوعها دفعها للاعتقاد أن رأس اختها يصلح زاد يوم أو بعض يوم وهي أولى به من غيرها.
هذه مأساة العراقيين منذ العصور القديمة من أفواج الغزاة المتوحشين، وقبل الاسترسال في سرد قصة حواري مع اللواء الهلالي، دعوني أقص عليكم بعضا من فصول تلك الهمجية التي اجتاحت جنوب العراق.
ما تسمى بثورة الزنج (255 – 270هـ/ 869 – 883م) كانت ثورة بارزة على الخلافة العباسية، تمركزت حول مدينة البصرة، جنوب العراق، وامتدت لأكثر من 14 عاما (869 – 883م) قبل أن تنجح الدولة العباسية في هزيمتها بقيادة الموفق بالله الذي جلب قائد الزنج وصلبه في منطقة القاطول بسر من رأى.
بدأت الحركة بزنوج من شرق افريقيا جيء بهم إلى تلك المنطقة، وامتدت لتضم العديد من المستعبدين والأحرار في مناطق عدة من الإمبراطورية الإسلامية.
فكان الزنج قد ثاروا على المالكين وأسسوا حكومة لهم كان مقرها مدينة المختارة (جنوب البصرة)، وهددت الدولة العباسية حتى جندت كل إمكاناتها لتسحقها، فكانت أطول ثورات العصر العباسي وأخطرها.
أما الشخصية التي قادت هذا الجمع، فهو شخص فارسي الأصل من أهل الري (طهران) يُدعى “بهبوذ” وأطلق على نفسه اسم (علي بن محمد) وادعى انتسابه إلى عبد القيس، ولما لم يجد في هذا الانتساب ما يوفر له الاتباع، انتسب إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي، فعل ذلك كي يضيع أصله الفارسي بين القبائل العربية ولا يحول أصله الفارسي عن كسب الأنصار والأتباع.
ترى كم من البهابذة أضاع أصله ونسبه مستغلا طيبة العراقيين وسذاجة بعضهم، وتصديقهم لكل من يزعم الانتساب لبيت النبوة الشريف وضع على رأسه العمامة السوداء فأقاموا لأنفسهم مكانة وفرضوا حقوق الطاعة العمياء على العامة؟ فسار كثير من الجهلة والسذج خلفهم من دون تفكير أو تدّبر.
وبهبوذ بالأصل شاعر عاش مدة في بلاط الخليفة بسامراء، ثم حاول القيام بحركة ضد النظام في البحرين للوصول إلى الحكم، إلا أنه أخفق في تحقيق مبتغاه، فسلك نهجًا جديدًا، وظهر كقائد ديني ومتنبيء، فادعى نسبًا علويًا محاولاً أن يستثمر ما للشيعة من عطف وتأييد بين الناس، وقد أحلَّه أتباعه من أنفسهم محل النبي حتى جُبِي له الخراج، وهذا النهج هو الذي ما زال مستمرا في العراق منذ مئات السنين، إذ يصل إليه كل لقيط ثم يتحول بين ليلة وضحاها إلى سيد ينتسب إلى بيت النبوة الكريم.
كما أن فكرة المهدي المنتظر راقت (لبهبوذ) علي بن محمد في جميع مراحل حياته السياسية فاستغلها بذكاء ووظّفها لتحريك الأتباع، وهو بادعائه المهدية، كان يضرب على وتر حساس في نفوذ العلويين الذين شعروا بالضياع نتيجة ما استشعروه من حيف لحق بهم، فكانوا يأملون في ظهور صاحب الزمان المهدي الذي طال انتظارهم له، ويفرج عنهم فاعتقدوا بصحة ما زعمه لنفسه من مكانة دينية، ورّكز بهبوذ كثيرًا على عراقة أصله وكتَبه على نقوده وسمي نفسه “المهدي علي بن محمد” المنقذ.
التقط اللواء الركن دخيل الهلالي رأس الفكرة فركّز على فكرة أساسية هي أن تاريخ العراق الذي عاش تفاصيله منذ أن وعى الدنيا، كان تاريخاً حافلا بالاضطراب السياسي وأن منطق التخريب والفرهود ليس حدثا بدأ في ثورة الزنج أو حركة القرامطة، أو منقطعا عندهما بل بدأ قبلهما بكثير، أما ما حصل بعد ذلك ففي دور المغول والتتار في إسقاط الخلافة العباسية وعاصمة الرشيد بغداد، وما أعقبها من زوال كل ما يدل على الحياة الإنسانية فهي شواهد على أن تاريخ العراق لم يعرف استقرارا وثباتا بعد أن ظل زمنا منارا حضاريا وثقافيا.
أما في العصر الحديث يقول لي اللواء الهلالي (أنت لم تعش ما جرى بعد فشل حركة رشيد عالي الكيلاني وبعد ذلك فرهود اليهود، فكنت ترى ذلك الإنسان العراقي الشهم الذي لديه الاستعداد ليفتديك بحياته، يتحول فجأة من دون أي تبرير إلى وحش كاسر، يأتي منه الموت وكنت تظنه إلى لحظات أنه سدك المنيع، ألا يدعو هذا إلى دراسات نفسية معمقة؟ ويواصل … أما ما حصل في قصر الرحاب وهو القصر الذي قتلت فيه العائلة المالكة بوحشية لا نظير لها، يقول كنت أحد ضباط القوة التي كلفت بعد نجاح انقلاب 14 تموز 1958 بحماية المنشآت الحكومية هناك من العبث، قال وصلنا متأخرين ولم نتمكن من فعل شيء فقد تحركت النفوس الشريرة لتحرق كل شيء، ومن غريب ما شاهدته، أن شاباً كان يحمل جهاز راديو كبيرا سرقه قبل لحظات من موجودات قصر الرحاب وعندما شاهد قوتنا تتقدم انحرف نحو ساقية عريضة في بستان القصر، ولما لم يتمكن من اجتياز الساقية مع الراديو فقد تعمد رميّه إلى الجانب الآخر بما يتوفر لديه من قوة فتحطم الجهاز، اقتربت منه وسألته بنبرة توبيخية لماذا فعلت هذا فأجاب بصوت مرتعش، حتى لا يستفيد منه أحد، وفي لقطة أخرى دخلت إلى القاعة الكبرى فأراد أحدهم أن يسرق لوحة زيتية رائعة تمثل الملكة عالية معلقة على جدار القاعة الكبرى، ولما فشل في الحصول عليها منفردا، فقد تعمّد في إضرام النار فيها، هنا حاولت أن أعطي تصورا أوسع فقلت متسائلا، هل نستطيع القول إن العراقي في تعامله مع المال المشاع يسعى بكل قوته للاستحواذ عليه لنفسه، وإذا لم يستطع فهمه أن يمنع انتفاع الآخرين منه، أما إذا عجز فيجب تدمير الشيء مهما غلا، هنا لا بد أن نتساءل عن أسباب تصرف الفرد تصرفا سويا ومتى يفقد قدرته على ضبط نفسه؟ هل يرتبط الأمر بالدين؟ أم بالرادع الأخلاقي الذاتي؟ أم بسلطة القانون وسطوته، أم بهذه العوامل مجتمعة ولكن متى ما اختل واحد من أطراف المعادلة الضابطة للأمن المجتمعي؟
ما حصل عام 1991 في حركة الغوغاء عندما تحركت قطعان من الوحوش المخبوءة تحت أجساد سوية في ظاهرها، ربما يبقى خارج كل حسابات أي بلد وذلك عندما يهب آلاف من المواطنين ليثأروا من بلدهم لحساب عدوهم الذي كان يقاتلهم في حرب ضروس انتهت قبل سنتين ونيف فقط، لا أريد الخوض في تفاصيل تلك التجربة المرة التي عاشها العراق بفعل أناس استرخصوا وطنهم فباعوه لعدوهم فأحرقوا ودمروا كل شيء بناه وطنهم وفككوا المصانع ونقلوها إلى إيران تعبيرا عن رخص ولائهم لهذا البلد الذي خدعهم فيه ألف بهبوذ وجعلهم أدوات يتحركون بلا وعي، أهم ما عندهم أن يرضوا بهبوذهم الأكبر.
أما ما حصل بعيد استكمال الاحتلال الأمريكي العدواني في 9/4/2003، فهو صورة تجسد أكبر مأساة إنسانية يمكن أن يمر بها بلد ما، عندما تتغير القلوب والعقول في لحظة واحدة فينتقل الإنسان من رصيف نحو الرصيف المضاد من دون أن يحاول أن يقنع نفسه بأسباب هذا التحول السريع، وهل يتوفر لنفسه احترام حقيقي إذا اطلع على نتيجة ما أقدم عليه؟ وهل يستدعي الأمر هذا الانتقال السريع من شارع إلى شارع آخر؟
ألا يستطيع الجلوس بصمت إذا افتقد شجاعة الرفض والمقاومة؟ ألا يستطيع امتلاك فضيلة السكوت بدلا من شراء بوق المهانة والنفخ فيه في أزقة الرذيلة؟
يبقى سؤال عالق في الذهن، هل أن لفوضى التخريب والتدمير هوية وطنية؟ أم هي نزعة إنسانية تنتقل بالجينات جيلا بعد جيل، ومثل الأفراد فالمجتمعات تستطيع ضبط نزعات الشر عندها وبعضها تطلق لها العنان، فبماذا نستطيع وصف ما حصل مؤخرا في الولايات المتحدة من تخريب وتدمير وقتل؟ وهل هو طبع متأصل عند العرق الزنجي فقط؟ لو كان الأمر كذلك فكيف سنتمكن من وصف ما حدث خلال ثورة السترات الصفر في فرنسا وما شهدته عاصمة الثقافة في العالم والدمار الذي لحق بأشهر شوارعها -الشانزليزيه- وهو أشهر شارع في العالم؟
أظن أن الأمر أكبر من مجرد حالة عابرة، هو ظاهرة متأصلة بحاجة إلى دراسات سياسية نفسية اجتماعية تشترك بها جامعات دولية لها باع طويل في البحوث العلمية المجردة عن الناصب والجازم.
في كل الأحوال ومع عدم إغفال البناء الثقافي وتوسيع دائرة التعليم، فإن الفيصل النهائي يبقى في فرض سيادة القانون وهيبته في المجتمع حتى لو تم ذلك بالقوة الرسمية، فلا بد لمن يُنفذُ القانون من أداة تدعم تحركه في المجتمع.
أختم الموضوع بهذا السؤال الذي لا يخلو من براءة:-
لماذا كان الفرس والفرس وحدهم مصدر الغدر بالدولة العربية الإسلامية والتآمر عليها، سواء في المدينة المنورة أو في الشام أو في العراق؟
أفتونا يرحمكم الله.
786