شهدت العلاقات بين إيران وأوروبا بعد الثورة الإسلامية الإيرانية علاقات مضطربة ، حيث شهدت تقلبات في هذا الصدد، وبعد المفاوضات النووية واتفاقية فيينا، اتخذت هذه العلاقات شكلاً جديا نسبيا، رغم استمرار الاستياء الأوروبي من وضع حقوق الإنسان في إيران وتدخلاتها السلبية في دول المنطقة، ويمكن القول أن هذه العلاقات قد شهدت تطورا إيجابيا في فترة الرئيس حسن روحاني التي استمرت من 2013 حتى 2021، والتي شهدت خلالها التوقيع على الاتفاق النووي عام 2015، ورغم خروج الولايات المتحدة بعد وصول ترامب إلى السلطة من هذا الاتفاق، إلا أن العلاقات الإيرانية استمرت دافئة في محاولة كلا الطرفين لإعادة إحياء الاتفاق وإعادة أمريكا إليه.
ولكن مع مجيء حكومة إبراهيم رئيسي المتشدد، تغيرت هذه العلاقات مرة أخرى، لهذا السبب استمرت المفاوضات النووية لأشهر ولم تتوصل إلى نتيجة، في المرحلة الأخيرة من المفاوضات، قدم “بوريل” مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، اقتراحا لإيران والولايات المتحدة للتوصل إلى اتفاق حول القضايا المتنازع عليها، أجابت إيران، وقدمت أمريكا آراءها، وفي النهاية لم يتوصل الطرفان إلى نتيجة.
همزة الوصل النووية:
ما يبرز من ملخص المفاوضات النووية بين إيران والقوى الغربية، هو أنه لا يوجد أمل حقيقي في مستقبل هذه المفاوضات، فإيران لا نقبل مطالب أمريكا والأخيرة لا تقبل مطالب الأولى، بمعى أن هذه المفاوضات وصلت إلى نقطة بلا حل، وإذا تغير التكوين السياسي لواشنطن بعد انتخابات الكونجرس النصفية المقبلة واكتسب الجمهوريون وزنا أكبر، فمن المتوقع أن تصعد أمريكا مواقفها تجاه إيران، من ناحية أخرى، تقترب الانتخابات الرئاسية في عام 2024، وفي ذلك الوقت سيزداد الضغط على الديمقراطيين فيما يتعلق بإيران، لهذا السبب، ليس من الممكن الاعتقاد بأنه ستكون هناك فرصة خاصة في مسار المفاوضات بعد انتخابات الكونجرس، وحتى لو جاء الرئيس المقبل وكان معه الكونغرس، فقد وصلنا إلى وقت انتهى فيه العديد من التزامات إيران، وهذا يعني أن خطة العمل الشاملة المشتركة قد وصلت إلى نهاية رحلتها.
أي أن الآمال في إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة منخفضة للغاية، وهو ما جعل العلاقات بين إيران وأوروبا تدخل في مرحلة متوترة.
عوامل تصاعد الخلاف:
في نفس الوقت الذي فشلت فيه المفاوضات النووية، واجهت أوروبا أزمة أخرى، وهي الهجوم الروسي على أوكرانيا، وكانت هذه الأزمة مكلفة للغاية بالنسبة للأوروبيين من حيث الأمن والاقتصاد والطاقة.
في هذه الفترة، مارس الروس ضغوطًا كبيرة مستغلين قضية الطاقة لزيادة الضغط على أوروبا، بالنسبة للأوروبيين الذين كانوا يبحثون عن مصادر جديدة للطاقة والذين سبق لهم التعاون مع إيران في هذا المجال، كان من الممكن أن تكون إيران خيارا جيدا ومناسبا لتوفير جزء من احتياجاتهم في مجال الطاقة، وكان هذا الخيار قد ضاع عندما لم يتم التوصل إلى اتفاق نووي بسبب تعنت الجانب الإيراني وإصراره على رفع كافة العقوبات المتعلقة بالبرنامج النووي وغيره.
بالإضافة إلى ذلك، كان هناك معضلة أخرى في علاقة إيران مع الأوروبيين والأمريكيين فيما يتعلق بالجنسية المزدوجة، خاصة مع فرنسا، ما زاد التوتر بين إيران وأوروبا.
والمشكلة الأكبر الآن هي تزويد إيران طائرات مسيرة لروسيا في حربها على أوكرانيا، ما جعل الاتحاد الأوروبي يناقش فرض عقوبات شديدة على طهران، ومن المؤكد أن يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات قاسية على طهران بسبب مساندتها روسيا في حربها على أوكرانيا، لأن الأوروبيين يعتبرون ذلك انتهاكا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231، ما يعني أن خطر تعاون إيران مع روسيا سيكون أكبر بكثير من خطر وتأثير عقبوبات حقوق الإنسان.
خلقت هذه العوامل مجتمعة قدرة أوروبا على الانحراف عن مواقفها التقليدية اتجاه إيران في الفترة الأخيرة، وأصبحت أكثر اتساقا مع مواقف الجانب الأمريكي، كل هذه الأسباب مجتمعة دفعت أوروبا إلى تكثيف مواقفها ضد إيران.
ومع بداية الاحتجاجات الشعبية في إيران، التي اندعلت في سبتمر بسبب مقتل مهسا أميني، اتخذ الأوروبيون أيضا موقفًا مختلفًا تجاه إيران عن ذي قبل، جعل الأوروبيين يتخذون سياسات نحو معاقبة إيران دون الالتفات إلى التبعات الدبلوماسية لهذه المواقف والإجراءات، ويعتقد الكثير من المحللين أن الوضع الحالي جعل إيران وأوروبا قطبين متعارضين، وأن القدرة الدبلوماسية للأوروبيين لإحياء الاتفاق النووي كانت محدودة للغاية ولم تحظ باهتمام خاص في السنوات الأخيرة، مما تسبب في غموض كبير في مجال العلاقات الدبلوماسية الإيرانية تجاه أوروبا.
الأوروبيون عادة ما يشددون على قضية حقوق الإنسان ودائما ما يجعلوها أحد مطالبهم الرئيسية في تحركاتهم الدبلوماسية، وأحد أهم الشروط لبناء علاقات تعاون مع الدول الأخرى، لذلك، فإن تكرار الاحتجاجات وتصعيدها في إيران على مدى السنوات الخمس الماضية، وما تشهدها من قمع أمني وقتل مدنيين، بطبيعة الحال يهيئ الظروف لظهور خلافات دبلوماسية مع إيران، كما شهدنا في الاحتجاجات الأخيرة، وعزز هذه الخلافات فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات جديدة على 11 شخصية وأربع مؤسسات إيرانية، من بينها شرطة الأمن المعنوي وقوة الشرطة الإيرانية وعدد من مديريها، بهذا زادت قائمة عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد إيران فيما يتعلق بحقوق الإنسان إلى 97 فردا و 8 مؤسسات.
في وضع مثالي، لن يكون لدى الأوروبيين القوة الكافية لإحياء الاتفاق النووي، لأن الخلافات بين إيران وأمريكا أعمق بكثير من قدرة الأوروبيين على فعل أي شيء حيالها، والآن ووفقًا للإجراءات والمواقف والعقوبات التي أعلنها الأوروبيون ضد إيران بسبب الاحتجاجات، يبدو أن هذه الوساطة فقدت وظيفتها بشكل واضح من وجهة نظر طهران.
وبعد الحرب في أوكرانيا، حاولت بريطانيا أن تكون أكثر تعاونا مع أمريكا، ولهذا السبب، أبتعدت الآن عن إيران بشكل أكبر، واستطاعت التأثير في هذا الاتجاه على باريس وبرلين، وتجدر الإشارة إلى أن تنفير الأوروبيين دفع هذه الدول إلى العمل كقوة موحدة معارضة لإيران.
وفي موضوع الحرب في أوكرانيا، أدى أداء إيران الخاطئ في دعم المعتدي، أي روسيا، وخاصة عبر تزويدها بطائرات مسيرة، إلى حالة عداء مع الدول الأوروبية التي تخوض بكل قواها حربا مع الروس على الأراضي الأوكرانية، وبطبيعة الحال لن تتعامل أوروبا مع إيران بنوايا حسنة بعد الآن بسبب دعمها لعدوها بوتن.
والآن، أصبحت الجماعات والتيارات المعارضة لإيران نشطة للغاية في أوروبا، وبطبيعة الحال تسعى هذه التيارات إلى معاقبة طهران وخلق صراعات وخلافات معها، وستكون الاحنجاجات الشعبية بيئة مناسبة لفرض العقوبات والتصعيد وزيادة الضغط على إيران.
أضف إلى ذلك، أن تسارع إيران في تطوير برنامجها النووي، قد زاد من قلق أوروبا من أن طهران قد تصل إلى نقطة الهروب النووي في أي لحظة، ما يلزم تشديد الضغط عليها والسير في الاتجاه الأمريكي في تفعيل سياسات متشددة إزاء إيران، لذلك من الواضح أن موسم بارد قد بدأ في العلاقات بين إيران وأوروبا، لكن هذا الرأي لا يعني بالضرورة انتهاء وقطع العلاقات كليا.
وقد ساهم ضغط الرأي العام الأوروبي في اتخاذ الحكومات الأوروبية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي مثل البرلمان الأوروبي، مواقف وإجراءات ضد إيران، وقد تم بالفعل مناقشة عقوبات جديدة من المقرر تطبيقها ضد إيران، وهي قبل كل شيء قرارات سياسية وليست اقتصادية، وبطبيعة الحال، دفعت هذه الظروف الأوروبيين إلى خلق أرضية لفرض العقوبات من خلال ممارسة الضغط في مجالات أخرى مثل انتهاك حقوق الإنسان، مع إضعاف القوة الدبلوماسية لإيران ووضع طهران في موقف ضعف.
وما يكشف عن حدة التوتر بين الطرفين، ما سربته إحدى وسائل الإعلام الغربية من أن إيران وجهت رسالة تهديد للأوروبيين وحذرت من أنه في حالة فرض عقوبات، فإن طهران ستظهر رد فعل جدي، قد يؤدي إلى قطع العلاقات، وكشف موقع “بوليتيكو” في الأيام القليلة الماضية أن طهران حذرت مجموعة من الدبلوماسيين الأوروبيين من أن “العلاقات الثنائية قد لا تدوم” إذا فرضت عقوبات، وهو حسب رأي العديد من الخبراء خطوة خاطئة، أظهرات عدم قدرة إيران على التفاعل بشكل جيد مع لغة الحوار والانتقال إلى لغة التهديد، التي لن تتمكن من حل أي معضلة نظرا لتفاوت ميزان القوى بين الطرفين في كافة الجوانب.
في الوقت الراهن، فإن نوع العلاقة بين إيران وروسيا والطريقة التي تدار بها حساسة ومهمة للغاية، حيث ترتبط إيران وروسيا بعلاقات وثيقة، وفي موضوع الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، يتطلع العالم ومن واجهوا روسيا في هذا الصدد إلى معاقبة موسكو، ويبحثون عن رد قوي حتى لا تكرر روسيا مثل هذا الإجراء في أي وقت وأي مكان، وإرادة الغرب في معاقبة روسيا أمر جاد للغاية، وفي ظل هذه الظروف، ستعاني الدول التي تقف إلى جانب روسيا من عواقب هذه القضية، وهي ما سيكون لإيران حصة الأسد من هذه العواقب والعقوبات، ومن المتوقع أن تكون عواقب دعم روسيا أكثر بكثير من العقوبات الأوروبية المفروضة على حقوق الإنسان.
وقد تبين من سلوك إيران مرخرا، أنها تسعى إلى تشكيل جبهة مشتركة وقوية مع روسيا والصين ضد الغرب، لذلك ترى أوروبا والولايات المتحدة أن تشكيل محور ائتلاف في الشرق بين بكين وموسكو وطهران ضد الغرب أمر خطير يجب العمل على إضعافه بأي ثمن، لذا فمن المعتقد أن سلوك الدول الغربية بشكل خاص تجاه إيران قد تغير من إجبار إيران على تغيير سلوكها وسياساتها إلى تغيير النظام السياسي في هذا البلد.
النتيجة:
تظهر المؤشرات أن الأوروبيين محبطون من إيران في القضية المهمة الخاصة بالمفاوضات النووية، وأن جو اليأس بدأ يتجذر بالفعل، وعلى هذا الأساس يطرحون أدبيات لمواجهة جديدة مع طهران، فهم يرون أن الولايات المتحدة وافقت على اقتراح الاتحاد الأوروبي بإحياء الاتفاق النووي، لكن الخلل كان من الجانب الإيراني من خلال الإصرار على رفع العقوبات غير النووية، من ناحية ثانية، حصلت الدول الأوروبية على وعود وترتيبات مع قطر وفنزويلا لتزويدهم بالغاز الذي يحتاجون إليه، حتى يتلاشى دافعهم الرئيسي لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، من ناحية أخرى، تأخذ الولايات المتحدة معاداة إيران على محمل الجد أكثر مما كانت عليه في الماضي، وحتى المسيرات الاحتجاجية الأخيرة حظيت بدعم بايدن من أجل إظهار كراهية الأمريكيين للحكومة الإيرانية أكثر من ذي قبل.
أصبح حاليا الاتحاد الأوروبي قريب جدا من سياسات واشنطن تجاه إيران، وحتى يبدو أنه بالنظر إلى التهديدات الصاروخية القادمة من طهران بالنسبة لأوروبا أكبر في المقارنة مع الولايات المتحدة خاصة فيما يتعلق بمدى الصواريخ الإيرانية.
ويمكن حصر ساحات الخلاف بين إيران وأوروبا بالتالي:
1 – البرنامج النووي والصاورخي، وفشل المفاوضات بشأن إحياء الاتفاق النووي.
2 – انتهاك حقوق الانسان والسياسة القمعية التي يستخدمها النظام ضد حركات الاحتجاج التي تخرج بين الفينة والأخرى.
3 – مساندة إيران لروسيا في حربها ضد أوكرانيا وتزويدها بطائرات مسيرة، وبعض التقارير تتحدث عن صواريخ متوسطة المدى.
4 – موضوع الأسرى الغربيين المحتجزين لدى طهران.
5 – ازدواج الجنسية وإصرار طهران على التضييق على رعايا الدول الأجنبية فيها.
6 – التهديدات الإيرانية للمصالح الغربية وأنشطتها الاستخباراتية في أوروبا والتدخلات التخريبية ودعم الجماعات الإرهابية والمتطرفة في دول المنطقة.
7 – سعي طهران إلى تشكيل حلف مع روسيا والصين مناهض للغرب.
السيناريوهات المتوقعة:
أولا: المرجح أن تفرض أوروبا عقوبات جديدة على عدد من المسؤولين الإيرانيين فيما يتعلق بقمع الاحتجاجات وتزويد روسيا بالطائرات المسيرة في حربها على أوكرانيا، من أجل اتخاذ مسار أكثر صرامة مع إيران.
ثانيا: لكن يبدو من غير المرجح أنها ستتخذ خطوة في اتجاه قطع العلاقات بالكامل مع إيران، ومن الواضح أن كلا الطرفين يحتاج إلى بعضهما البعض في هذه المرحلة، على هذا الأساس، قد تكون العلاقات باردة وأكثر عدائية، ولكنها ستبقى مستمرة على جدول الأعمال.
ثالثا: المتوقع أن لا تغير إيران مواقفها تجاه الغرب وتقاربها مع موسكو وبكين، ما قد نشهر تكثيف وتعزيز العقوبات السياسية والاقتصادية ضد إيران في مجالات أخرى غير حقوق الانسان ودعم روسيا.
رابعا: قد تغير الدول الأوروبية أهداف سياساتها اتجاه إيران من إصلاح السياسات إلى تغيير النظام، وفي هذه الحالة ستصعد إيران من مواقفها تجاه الدول الأوروبية وتعكل بشكل أكبر على التوجه نحو الشرق والتقارب مع بكين وموسكو.