أصبحت المقابلات التلفزيونية التي تجريها الفضائيات العراقية وعدد من القنوات العربية، مع شباب الانتفاضة، مرتعا خصبا أما لتمرير أجندة القنوات السياسية والربحية، وهي مسألة مفهومة، اذ ليست هناك أجهزة إعلام، تعمل كجمعيات احسان لصالح الشعوب، أو ساحة لاستعراض وتذاكي مقدمات ومقدمي البرامج ونشرات الأخبار، بذريعة « أن الشارع العراقي يتساءل»، وحين يدرك مقدم البرنامج، متأخرا، عادة، أن من يتحدث اليه هو الذي يمثل الشارع، يستدرك موجها سؤاله بصيغة تعميمية أكثر، على مستوى « هناك من يتساءل».
معظم هذه القنوات، تواصل تسويق نفسها، على الرغم من كل ما يدل على العكس، باعتبارها محايدة وموضوعية وتمثل صوت الشارع، فيستمرئ مذيعوها ومقدمو برامجها أداء أدوارهم، عن طريق الاستهانة بضيوف البرامج وبالتالي، ولطول ساعات البث، بعقول الناس. حيث برز، في الأسبوعين الأخيرين، إثر اقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، ومع تحقيق المنتفضين خطوتهم الأولى نحو التغيير واستعادة الوطن، الوجه الحقيقي للإعلام المخاتل، إزاء المنتفضين، عندما تتم استضافتهم من ساحات التحرير من مختلف أرجاء البلاد. فبدلا من الحديث عن مجريات الحياة اليومية للمنتفضين، وكيف يواصلون البقاء في الساحات والطرق، وتفاصيل التحكم بالمشاعر الإنسانية من غضب وخوف وتحد وهم يواجهون ويتعرضون لاستهداف وحشي، ورمي بالرصاص الحي، ورشهم بالغاز المسيل للدموع والذي يستخدم في مناطق الحروب، فقط، بالإضافة إلى رؤيتهم لزملائهم وأصدقائهم، وفي بعض الحالات أقربائهم، وهم يقتلون أمامهم أو يتم العثور على جثثهم بعد اختطافهم، بدلا من ذلك ، بتنا نرى عملية اخضاعهم، من قبل مقدمي البرامج ، لاستنطاق يذكرنا ببرامج أجهزة الإعلام الرسمية، التي يتم فيها استنطاق عضو عصابة أو إرهابي، بعد تعذيبه وتوقيعه على الاعتراف بطبيعة الحال.
معظم الفضائيات، تواصل تسويق نفسها، على الرغم من كل ما يدل على العكس، باعتبارها محايدة وموضوعية وتمثل صوت الشارع، فيستمرئ مذيعوها ومقدمو برامجها أداء أدوارهم، عن طريق الاستهانة بضيوف البرامج
شاهدنا، قبل أيام، نموذجا لأحد هذه المقابلات في فضائية، تواصل البث على مدى 24 ساعة يوميا. قدم البرنامج، ومدته ساعة، مذيع، أراد أن يثبت أنه صاحب سلطة على الضيف والجمهور، وأنه، وهذا هو الأهم سيحصل، شاء الضيف ام أبى، على الجواب الذي يريده، بالتحديد، لا أكثر ولا أقل. على مدى ساعة، دار المذيع، حول سؤال واحد بتنويعات استنطاقية متفاوتة، بمثابرة يحسد عليها. وهو ليس الوحيد بل بالإمكان اعتباره نموذجا لكثيرين غيره، من مقدمي البرامج العربية. أراد ان يعرف، بالضبط، بأسلوب استعراضي يجمع بين التهكم والجلوس بأوضاع مختلفة، لماذا لم يختر المتظاهرون، حتى الآن، متحدثا رسميا ناطقا باسمهم، يقوم بالتفاوض مع «الحكومة» لتحقيق مطالبهم، و… لماذا لا يخفف المتظاهرون من اصرارهم على المطالب؟
كان الناشط صبورا على الرغم من ملامح التعب البادية على وجهه. وكيف لا يتعب من قضى عدة اسابيع معتصما في ساحة مهددة بالموت، في كل لحظة، على أيدي الميليشيات والقوات الحكومية؟ كرر، المرة تلو المرة، مطالب المنتفضين وكيف أنها أساسية، يرتبط بعضها بالبعض الآخر، ولا يمكن المساومة عليها، خاصة بعد أن ختمت بدماء الشهداء. إنها حقوق غير مطروحة للمقايضة مع نظام فاسد استنفد مدة صلاحيته منذ سنوات، وصبر عليه أبناء الشعب حفاظا على السلم، وأملا في ان يستيقظ الفاسدون، يوما، ليدركوا مدى الخراب الذي جروا اليه العراق وأهله. كرر الناشط، أيضا، رفض المنتفضين لترشيح أي شخص ساهم، بطريقة أو أخرى، في العملية السياسية منذ عام 2003 أو ينتمي الى أحد الأحزاب المشاركة. فالخراب الذي أصاب البلد ليس مسؤولية فرد واحد بل مسؤولية نظام، وترشيح أحد أبناء النظام كرئيس للوزراء لإدارة الحكومة الانتقالية، هو ضحك على الناس، واستهانة واحتقار لا مثيل لهما للشهداء الذين دفعوا حياتهم ثمنا لاستعادة الوطن من أيدي الفاسدين. وكان الناشط موفقا، تماما، في استخدامه وصف النظام بالفساد باعتباره أساس القمع والاستبداد والطائفية والإرهاب. فالفساد، حسب ميثاق الأمم المتحدة، وقد تذوقه الشعب العراقي على مدى 16 عاما، هو الأخطر على استقرار المجتمعات وأمنها، والأسس الأخلاقية والعدالة وسيادة القانون. وذلك للصلات القائمة بين الفساد وسائر أشكال الجريمة، وخصوصا الجريمة المنظمة والجريمة الاقتصادية، بما فيها غسل الأموال، وتزوير العقود والتلاعب بموارد البلد، والتعيينات الوهمية وابعاد الاكفاء النزيهين المؤهلين لشغل الوظائف العامة، مما يهدد الاستقرار السياسي والاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة.
مر مقدم البرنامج مرورا عابرا على تشخيص الناشط عن الفساد والفاسدين، ليركز على السؤال الذي بات قبلة أجهزة الإعلام، ومحط استنطاق يثير الشك، هو الكشف عن ممثلي المنتفضين. حاول الناشط أن يبين خطورة مثل هذه الخطوة، وكيف أن المنتفضين مهددون بالاختطاف والقتل اليومي لمجرد تواجدهم في الساحة فكيف إذا ما تم الإعلان عن أسماء متحدثين او مفاوضين باسمهم؟ الا يكفي عدد المختطفين والقتلى حتى الآن؟ وإذا كانت الحكومة جادة بالاستماع للمنتفضين فلم لم تقم بأي خطوة سريعة لكسب ثقة الناس حتى الآن؟ لماذا يواصلون التأجيل وإقامة الاجتماعات في فنادق فخمة، يَدَعون فيها، تمثيل المنتفضين، ويتصرفون وكأن الحياة المشلولة تسير بشكل طبيعي في البلد؟ قوبلت توضيحات الناشط الهادئة المنطقية، بإصرار مقدم البرنامج على تكرار السؤال، مما دفع الناشط الى تذكيره بانه جالس في استديو خارج العراق، متمتعا بالأمان، حيث لا يمكن أن تطاله الميليشيات أو يد الغدر، مضيفا «أما أنا، فموجود مع الآخرين في ساحة نخاطر فيها بحياتنا، ولا ندري ما الذي سيحدث في الدقائق المقبلة، ومن منا سيكون القربان المقبل، مع هذا نحن مصرون على البقاء، وفاء للشهداء ولأنها الطريقة السلمية الوحيدة التي ستجعلنا نسترجع العراق من الفاسدين ونعيد بنائه».
من بين الإنجازات التي تحسب للانتفاضة، بالإضافة الى توحيد الناس بعيدا عن الطائفية، ونشر الوعي السياسي والاقتصادي، وتقوية الروابط المجتمعية والثقافية، مساهمتها بشكل يومي في تعرية الأحزاب وفضح زيف أجهزة الإعلام المستند، خلافا لما يشاع، ليس على الأجندة السياسية والتجارية لمالكيها فقط، بل على ابتذال العاملين فيها، ممن يقدمون أنفسهم كإعلاميين.