القلق السياسي وشهوة الحكم!

جاسم الشمري – كاتب عراقي

يُذهل الفكر ويحتار القلم حينما يكونان وسط خلطة متناقضة من الأحداث السياسيّة والأمنيّة والمجتمعيّة التي تُنذر بخطر قادم لا محالة بعد أن غابت أو غُيِّبت سيادة الدولة وهيبتها، وهذه ببساطة حقيقة الواقع العراقيّ المرير اليوم.

فبعد أن توقّعنا فشل جلسة البرلمان العراقي لانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة يوم السبت الماضي لحقتها جلسة الأربعاء بذات النتيجة، وصارت العمليّة السياسيّة على مفترق طريق حادّ.

لقد كانت مناورات الأيّام الأخيرة هزيلة، وكلّ طرف من أطراف الصراع يحاول إبراز عضلاته السياسيّة والمسلّحة وسط حالة من الإحباط الشعبيّ المتنامي مع استمرار الشلل السياسيّ وهشاشة الإدارة العامّة للدولة!

وتؤكّد المماطلة المدروسة والمباحثات السقيمة وغياب المنهج السليم الصحيح عن غالبيّة الحوارات الدائرة في الأروقة السياسيّة عمق الخلافات وتجذّر الفشل وبذلك ستبقى معارك الجدل العقيم قائمة بين القوى الكبيرة!

وإثر فشل جلسة الأربعاء وجّه مقتدى الصدر رسالة للإطار التنسيقي بزعامة نوري المالكي، أكّد فيها بأنّه “لن يتوافق معهم، والتوافق يعني نهاية البلد، والوطن لن يخضع للتبعيّة والاحتلال والتطبيع والمحاصصة”.

وبالمقابل ردّ المالكي بعد ساعات مؤكّدا: بأنّهم منعوا عقد جلسة يعدّها الإطار خطيرة”!

وقد تطوّرت الأزمات القائمة على المصالح الحزبيّة والشخصيّة تدريجيّا حتّى وصلت قريبا من مرحلة الانفجار، وتسبّبت بتكثيف الحيرة الوطنيّة يوما بعد يوم، وأثمرت تشنّجات على مستوى الشارع لدرجة التهديد بالقتل لكلّ متظاهر يصل إلى منطقة الحنانة قرب النجف، حيث بيت ومكتب الصدر!

لقد علّمتنا التجارب الماضية القاسية أنّ طواحين السياسة لن تتوانى عن طحن سمومها وبثّها بين المواطنين من أجل تنفيذ أجندات غريبة وسقيمة لتضييع مكانة العراق الإقليميّة وطحن المواطن المغلوب على أمره!



إنّ الزحف نحو الخراب والتناحر وبقيّة الفعاليات السلبيّة يؤكّد أنّ حكومة مصطفى الكاظمي عاجزة عن ضبط المشهد الأمنيّ، وهذه السلبيّة مؤكّدة عبر مئات الأدلة، وآخرها حرق مقرّ الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ ببغداد، يوم الاثنين الماضي، من قبل عشرات الغاضبين بسبب تغريدة أشارت لبعض المراجع الدينيّة، بينما كانت القوّات الأمنيّة تتفرّج على مراحل الحرق.
 
وقرّر الحزب بزعامة مسعود برزاني، بعد ساعات من الحادثة، تسوية مقرّه الحزبيّ بالأرض ممّا يوصل رسالة خطيرة، وفي الوقت الحرج، لشركائه بإمكانيّة تسوية كلّ التفاهمات والذهاب لخيارات (كرديّة) مَحْضة!

هذا التناحر الحزبيّ والقلق السياسيّ من ذهاب شهوة الحكم وسلطانه من أيدي غالبيّة الأحزاب أدخلهم لمرحلة الانغلاق الفكريّ والقانونيّ ولهذا هم يحاولون عبر حركات عبثيّة للبقاء أطول وقت ممكن في أجواء المحادثات السقيمة بين الإطار وكتلة الصدر وأنصارهما!

ومساء أمس الخميس فاجأ الصدر الجميع حينما فسح المجال أمام الثلث المعطِّل (الإطار) للفترة منذ بداية رمضان حتّى التاسع من شوّال لتشكيل الحكومة مع الكتل الأخرى عدا التيار الصدري.

والتوقيتات التي ذكرها الصدر لا تتّفق مع التوقيتات الدستوريّة!

فوفقا لقرار المحكمة الاتّحادية 23/ وموحّدتها 25/ اتّحادي/ 2022 في الأوّل من آذار/ مارس ألزمت المحكمة مجلس النوّاب بعرض قرار فتح باب الترشيح لمنصب رئيس الجمهوريّة على المجلس للتصويت عليه من عدمه وفقا للمادّة 59 أولا وثانيا من الدستور لمرّة واحدة فقط وعدم تجديدها على أن يتمّ انتخاب رئيس الجمهوريّة خلال فترة وجيزة تتناسب مع المصلحة العليا للشعب!

وعبارة (فترة وجيزة) مُبهمة ومخالفة للمادّة 72 ثانيا من الدستور، ومناقضة لقرار المحكمة السابق رقم 14 لعام 2022، وعليه يفترض أن ينتخب البرلمان خلال 30 يوما، تنتهي في السادس من نيسان/ أبريل الحاليّ، رئيسا جديدا للبلاد، وهذا ما قفزت عليه المحكمة الاتّحادية!

وهكذا فلن تذهب الكتل السياسيّة لحلّ البرلمان أو لانتخابات مبكّرة وسيستمرّون بمناوراتهم السياسيّة دون اتّفاقات واضحة أو متوقّعة!

ومع ذلك أتصوّر أنّ اتّفاقات الساعات الأخيرة قد تثمر عن اتّفاق ما، وهنالك الآن حديث عن استبدال مرشّح رئاسة الجمهوريّة الحاليّ ريبر أحمد والإتيان بشخصيّة كرديّة توافقيّة أخرى!

ويُعدّ الانسداد السياسيّ، والهبوط في الطروحات والخطاب الهمجي، والتعصّب الأعمى من أكبر دعائم التناحر المشجّع للحرب (المليشياويّة ـ المليشياويّة) وبالذات مع وفرة الأسلحة، وتخدير الأذهان الضعيفة التي تنساق وراء الخطابات غير الناضجة حتّى لو كانت خلاف الواقع والحقيقة، وذلك كلّه بسبب الشتات الفكريّ الذي دمّر عموم الدولة والإنسان معاً!

لقد علّمتنا التجارب الماضية القاسية أنّ طواحين السياسة لن تتوانى عن طحن سمومها وبثّها بين المواطنين من أجل تنفيذ أجندات غريبة وسقيمة لتضييع مكانة العراق الإقليميّة وطحن المواطن المغلوب على أمره!

إنّ الطريق لإصلاح العراق يكون بالعودة إلى الأسس الثابتة التي تبني الإنسان أولا وبالتالي بناء دولة المواطنة الجامعة لكلّ المواطنين، والكفاح لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب بعيدا عن الظلم والطغيان والتحزّب.

ولغاية اليوم لم نر أيّ طرف سياسيّ قدّم تطمينات جادّة حول برنامجه المستقبليّ وسبل الإصلاح، وأهمّها توفير العدالة الاجتماعيّة، وتقديم القتلة والفاسدين إلى القضاء، وبتر التدخّلات الخارجيّة، وتوفير فرص العمل لملايين العاطلين، ومكافحة الفقر ومساندة الشرائح المسحوقة!

ولا ندري، مع هذه المواجهات العلنيّة والعميقة، هل تنطبق علينا مقولة الشاعر الراحل محمود درويش:
ترانا هل نحتاج إلى وطن جديد، أم تراه وطننا من يحتاج إلى شعب جديد؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى