العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة
الجزء الثالث
قلت في بداية المقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون وهذا حكم عام وهو صحيح ولكنه لا يصح في كل زمان ومكان، ففي العراق، مما مرّ على الأمة من أحداث، يمكن أن نتعرف على مدونات في تاريخ التشيّع يُنظرُ إليها كمسلماتٍ مقدسة، وهي تفتقر إلى الدليل العقلي، وتمكّن الإلحاح الفارسي في التدوين والخُطَبْ من خلال تكرارها من تحويلها من مجرد روايات مرسلة إلى حقائق ثابتة، بل فرضت نفسها على الشارع العراقي وكأنها لوحدها التي تحمل المصداقية وما عداها مجرد حكايات من دون دليل، فمن أين جاءت وكيف تسللت إلى كتب التاريخ وكأنها استعارت العبارة الاقتصادية المشهورة “العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق”، فإذا كان الشيعة يقولون إنهم مظلومون عبر التاريخ الإسلامي فكيف مرّروها إلى المدونات التاريخية إذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون فقط؟
نعرف أن الشيعة لم يتسنَ لهم الوصول إلى الحكم بمنهاج التشيّع المعروف في الوقت الحاضر بتفاصيله وممارساته، حتى أثناء خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه والتي استمرت لخمس سنوات تقريبا، ومع ذلك فإن التاريخ الذي كتبه المدونون الشيعة خلال أربعة عشر قرنا قد خضع لأكبر عملية تزوير عبر العصور، كما لم يحصل في تاريخ أية أمة أخرى، ولنضرب أمثلة على أهم الأحداث التي كتب تفاصيلها مدونون شيعة أخذوا صفة المؤرخين بمرور الوقت لما أضفاه عليهم أتباعهم من هالة الصدق والدقة والأمانة في تثبيت أحداث عاشتها الأمة، ولعل أبرزها:
أولا: موضوع غدير خم وما نُسب للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، من أنه أوصى لعلي بن أبي طالب من بعده بالولاية، وهذا لا بد أن يطرح تساؤلات ملحّة ما زالت تتردد على الألسن منذ 1400 سنة من دون أن تجد لها إجابة وافية، هل تمرّد المسلمون على ما قاله لهم نبيُهم الذي كانوا يطيعونه حتى في الإقدام نحو الموت إذا ما أمرهم به، وبمجرد انتقاله إلى الرفيق الأعلى انقلبوا عليه، واختاروا شخصا آخر كخليفة للمسلمين من بعد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم؟ هنا يطرح سؤال منطقي هل كانت كلمة أبي بكر الصديق أمضى عند المسلمين من أمرِ النبي الكريم، ذلك أن أبا بكر أوصى بالخلافة من بعده لعمرَ بن الخطاب فأذعن المسلمون لأمره أو أطاعوه عن طيب خاطر، فكيف نجد تفسيرا لهذا التناقض الذي يحمل إساءةً بالغة لمكانةِ النبي الكريم؟ ما لكم كيف تحكمون؟
ثانيا: حديث الكساء ومن هم المشمولون بحكم الآية الكريمة (وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، فقد ظل الشيعة يؤكدون أن المقصودين بحكم هذه الآية هم (علي بن طالب وفاطمة الزهراء وأولاده منها)، في حين أن تدفق الصور العقلية في الآيات الكريمة من سورة الأحزاب لا يترك أدنى مجال للشك في أن المقصود بها هن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم المطهرات من الأرجاس.
ثالثا: ما جاء في خطبة الرسول الكريم في حجة الوداع (فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وسنتي)، وهنا يدخل التزوير الشيعي فيلغي كلمة سنتي ويضع بدلا منها “عترتي أهل بيتي”، هنا لا أريد أن أخوض في ما خاض به الأولون، ولكنني أقول شيئا واحدا من هم أهل بيت النبي؟ ومن منهم ما زال على قيد الحياة كي نرجع إليه للتعرف منهم على أمور الدين والدنيا؟ وإذا كان المقصود من هذا النص تراثهم المكتوب في كتب الشيعة المعتمدة فمن هو الأولى بالإتباع؟ تراث النبي صلى الله عليه وسلم أم تراث أبناء علي من أئمة الشيعة الاثني عشر؟ أم أن تحرّيف النص كان يهدف إلى ُتكريس سلطة ما يسمى بالسادة من رجال الدين الشيعة على أتباعهم وما يتبع ذلك وخاصة بالسطو على جهدهم باستيفاء الخُمس؟
رابعا: ما رافق معركتي الجمل وصفين من سرد من كل طرف على ما يشتهي، بحيث أدخلوا المؤرخين في حيرة والتباس لم يتمكنوا من الخروج منه حتى اليوم، لا بل أدخلت العصبية المرتدية ألبسة دينية إلى جانب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، مستندة من قرابته من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، سلماً للقفز فوق حقائق ما حصل، وفي الجانب الآخر أي الذين نقلوا وقائع المعركة كما حصلت أو الذين انحازوا إلى جانب معاوية بن أبي سفيان، فقد نقل المدونون صورا مغايرة تماما لوقائع المعركتين، ورسم المدونون وخاصة في القرنين العشرين والواحد والعشرين صورة ما حصل انطلاقا من عصبية متطرفة، حيث ارتدى التشيعّ طابعا متعصباً وقمعياً من خلال تبني إيران خميني له، وتكفير كل من لا يأخذ بتفسيرهم أو حتى قراءتهم للتاريخ، مما أشاع أسوأ أنواع القمع الفكري والسياسي والعقائدي المدعوم بالإرهاب المسلح الذي تتبناه فصائل مسلحة أنشأها النظام الجديد في إيران بعد وصول خميني إلى السلطة في 11 شباط 1979.
خامسا: ولعل ما حصل في واقعة الطف والتي استشهد فيها الحسين رضي الله عنه على أيدي عشائر ورطته بالمجيء إلى العراق ثم خذلته كما خذلت أباه وشقيقه الحسن رضي الله عنه من قبل، ما يَحكي صوراً من مأساة كتابة التاريخ، فقد تحول سرد تفاصيلها إلى تراجيديا من الأدب الشعري أكثر مما هو سرد للحقائق، وهنا برز غلو العراقيين في تعاطيهم مع ما كل يمر بهم من أحداث.
اللافت أن أحفاد قتلة الحسين مازالوا يعيشون في الكوفة وكربلاء والنجف وما جاورها، ثم تحولوا إلى مطالبين بالثأر من قتلته ولكن ليس في موقع ألطف بل في نينوى والأنبار وصلاح الدين، تلك هي الصفحة المأساوية المرة التي ما زال التاريخ العربي الإسلامي يدفع أثمانها الباهظة بين مُتاجرٍ بها عن غير وعي وإدراكٍ، وبين حزين صادق في حزنه لما حصل لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تُرعَ له مكانتُه من النبي الكريم.
ولعل أكبر مفارقة في تلك المأساة أن مرتكبيها هم من أقرب خاصة علي بن أبي طالب في حروبه المختلفة، ولكن كان للمزاج العراقي المتقلب دوره في رسم صور التراجيديا الحسينية.