ملحدون ولكنهم طائفيون
الجزء الخامس
حكم البويهيون (سلالة من الديلم) غرب إيران، والعراق من سنة 334 إلى سنة 447 هـ، ويرجعون في نسبهم إلى ملوك الساسانيين الذين أسقط العرب إمبراطوريتهم سنة 16 هـ، واستمد البويهيون اسمهم من أبو شجاع بويه، واستطاع ثلاثة من أبنائه الاستيلاء على السلطة في العراق وفارس، وخلع عليهم الخليفة العباسي المطيع لله ألقاب السلطنة، وتسلطت الدولة البويهية على الخلافة العباسية ابتداءً من عهد الخليفة المطيع لله سنة 334هـ، وهي السنة التي دخل فيها معز الدولة أحمد بن بويه بغداد واستلم السلطة الفعلية.
وبعد قفز البويهيين إلى حكم فارس، مكّنوا لمؤلفات علماء الشيعة من أمثال محمد يعقوب الكليني الرازي صاحبِ كتاب “الكافي”، وابن بابويه القمي المعروف بالصدوق صاحب كتاب “من لا يحضره الفقيه”، ومحمد بن جعفر الطوسي صاحب كتابي “الاستبصار” و”تهذيب الأحكام”، وهي كتبُ الحديث الأربعة، الأكثرُ ثقةً ومصداقيةً عند الشيعة الإمامية، مكنوّها من الانتشار بحرية تامة لنشر الفكر الشيعي في بلاد فارس، وتلك الكتب هي التي وضعت اللبنات الأولى للمعتقدات والعقائد المسيطرة في الوقت الحاضر على أتباع التشيّع ومنها يأخذون معتقداتهم وممارساتهم، وركزت تلك الكتب على عقائد الشيعة كما وردت عن أئمتهم الاثني عشر كما يزعم هؤلاء المدّونون، وحفلت بأحاديث منسوبة لهؤلاء الأئمة من أجل تأكيد مبدأ الولاية والبراء من أعدائهم، وكي تكتمل الصورة فقد أدخل أصحاب الكتب الأربعة أحاديثَ منسوبةً للأئمة الاثني عشر تؤكد على فضل فارس في الدين والإيمان، وهذا النهج لم يقصد به الترويج لفارس فقط وإنما للحطّ من قدر العرب ومكانتهم في نشر الإسلام وفهمهم العميق لأحكامه، ثم الانتقال إلى الصفحة الثانية وهي الأكثر أهمية أي النيل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد غرس المؤسسون الأوائل للتشيّع في بلاد فارس الحقد على العرب وخصوا به كل من أمر أو قاد أو شارك في معركة القادسية التي سحقت الامبراطورية الفارسية، ونتيجة التلقين المستمر لمئات السنين، تحولت نصوصهم إلى مقدسات، وصوروها لهم إنها هي التي تقربهم إلى الله بقدر ما يبغضون تلك الرموز ويجاهرون في ذلك.
فلقد أسسوا لبناء فكري وتربوي متماسك وهو أن تَشيع الكراهيةُ التي غرسوها في عقول أتباعهم حتى حولوهم إلى كائنات مسلوبة الإرادة والعقول وتتصرف بآلية حمقاء تنكر أصلها وتتنكر لتاريخها؟ ومن هنا نفهم لماذا تحرص المنظمات والحركات التابعة لإيران والتي تسلمت حكم العراق بعد 2003 على إشاعة الجهل والأمية فيه لأنّ الوعي يمنع هذا الاستلاب الفكري، فهل يدل هذا على عبقرية الفرس وقدرتهم في كسب الأتباع والعملاء؟
قطعا لا، لكنّ الفرس درسوا طبيعة الإنسان وأيقنوا أن قدرة العقائد الدينية على التحكم في سلوك بني البشر وهي من أقوى المحركات لسلوك الإنسان، هي التي ستضمن ولاءً ميكانيكيا لعقيدة التشيّع والتسليم بكل ما يرد فيها حتى إذا كان مما تأباه العقول، ولهذا سطا الفرس على موروث التاريخ الإسلامي وأدخلوا عليه من الكذب ما يفوق ما فعله أعداء الإسلام المكشوفين، ولأن الدّين عقيدة يتلقاها الطفل مع ولادته وتنمّى معه في مراحل عمره، فإن التشيّع وعلى خلاف بقية المذاهب الإسلامية الأربعة، ما كان يسمح للمولود الشيعي أن يفلت لحظة واحدة من أمام بصره، فمن البيت إلى الشارع إلى المدرسة إلى الحسينية، يتلقى الشيعي ضخاً طائفياً يشعره بالتميّز عن الآخرين وعدوانياً على الآخر، حتى تتكرس تلك القناعات وتصبح جزءً من الشخصية بل ومن خلاياها العقلية، ولنأخذ نماذج من الشيعة الذين حصلوا على أعلى الشهادات الجامعية من الولايات المتحدة وأوربا، فإنهم يجاهرون بعلمانيتهم بل وبإلحادهم، ولكنهم ملحدون طائفيون حتى النخاع ويتحسسون من كل شخص اسمه عمر أو أبو بكر أو عائشة، بل لا يطيقون هذه الأسماء، هنا تحضرني واقعة حصلت في إحدى مدن العراق الجنوبية، عندما كان يتحدث رجل عاقل في المسألة الطائفية ومدى خطورتها على سلامة المجتمع العراقي، فأخذ عمر بن الخطاب كنموذج لشخصية القائد العادل ورجل الدولة البارز التي كان له الفضل في نشر الإسلام وإقامة الدولة الإسلامية بمؤسساتها الإدارية، فما كان من أحد الحضور إلا أن يسأله هذا السؤال “إذا كان عمر خوش آدمي هيج جا ليش سمّوه عمر؟” أي إذا كان عمر على هذا القدر من العدل فلماذا أسموه عمر؟
من هذه الواقعة يتبين أن البناء التربوي للفرد الشيعي جعل من اسم عمر عنوانا للسوء، على هذا فالموضوع ليس عقليا على الإطلاق بل هو غرس وبناء يتلقاه الطفل مع حليب أمه ومع رغيف الخبز الذي يأكله وكأس الماء، أو “الويسكي” الذي يشربه.
هذا البناء التربوي والعقائدي، جعل معظم الشيعة بمن فيهم (إلى حد ما) الطبقة المثقفة أو لأقل بدقة أكثر الفئة المتعلمة، تتعامل مع القمع الذي مارسته السلطة المنصّبة من قبل الولايات المتحدة والمدعومة من قبل إيران، ضد العراقيين الرافضين للاحتلال وافرازاته السياسية والاجتماعية بلا مبالاة حيناً وتأييد صامت في معظم الاحيان.
ولكن ما هي أشكال القمع الذي مارسته المليشيات المسلحة الولائية لإيران والتي أخذت صفتها الرسمية من أنها جزءٌ من القوات المسلحة العراقية؟
مع أن الديانة اليهودية سابقة للإسلام وللتشيّع، ومع أن التشيّع سابق للحركة الصهيونية، إلا أن المراقب لا بد أن يلاحظ تبادلا نشيطا للخبرات الميدانية بينهما في طرائق السيطرة على المجتمع الذي تحل فيه، وهنا نجمل أهم الأساليب المعتمدة في التوسع المناطقي والتوسع في مجال نشر التشيّع في المناطق غير الشيعية.
أولا: عسكرة المجتمع ونشر السلاح السائب لإضاعة المسؤولية القانونية عما يقع من جرائم قتل جماعي، وتشكيل منظمات مسلحة توكل لها واجبات محددة للدفاع عن العقيدة.
ثانيا: إقامة معسكرات للمليشيات الطائفية المسلحة تحت لافتة محاربة الإرهاب، وحقيقة دورها أنها توجه بنادقها لقهر السكان الآمنين وملاحقة المعارضين بأية صورة من صور المعارضة السلمية، ويتبع ذلك فتح مقار للمليشيات والأحزاب التي تتبعها، وتبدأ بفرض برامجها السياسية والعقائدية عبر مكبرات الصوت، وتلاحق حتى أولئك الذين تظهر على محياهم علامات عدم الرضا، أي تلاحق على الفكرة المختزنة داخل الرؤوس.
ثالثا: افتتاح حسينيات في مناطق لا يوجد فيها حضور شيعي، والهدف من مثل هذه الخطوة هو استفزاز الناس أو استمالتهم بالمال والإغراءات الأخرى، ورفع الرايات التي تحمل شعارات عدوانية، وإقامة ما تسمى بالشعائر الحسينية في محرم وصفر وحيثما توجد مناسبة يراد استغلالها من أجل تأكيد الهيمنة الشيعية وخاصة في العراق والمدعومة بالبندقية المليشياوية والمستظلة بمظلة السلطة الحكومية وما تسمى بالمرجعية الدينية ومن بين هذه الممارسات تنظيم مسيرات لأطفال لم يبلغوا الحلم من أبناء المناطق السنية وهم يحملون السلاسل ويرددون الشعارات الطائفية.
رابعا: تهجير سكان المدن السنية بدعوى احتضانها للإرهاب أو دعمها له، كما حصل في مدن محافظة ديالى وحزام بغداد ومدينة جرف الصخر، وناحية يثرب في محافظة صلاح الدين، وتفريغ مركز مدينة سامراء من سكانه بحجة حماية مرقد العسكريين، والاستيلاء على أراضٍ واسعة من أطراف سامراء العائدة لدائرة الآثار، من أجل إعمارها وإقامة المجمعات السكنية الكبرى كما جرى في كربلاء وجلب السكان الغرباء الشيعة إليها من إيران وشبه القارة الهندية وأفغانستان، فصاروا عبئا اجتماعيا اقتصاديا على تلك المدينة.
خامسا: اطلاق يد المليشيات لممارسة أعلى درجات القمع قتلا وتهجيرا وتغييبا وإذلالا لسكان المدن السنية وتعريضهم إلى حصار اقتصادي وتقطيع أوصالها وجعل التنقل بين أحيائها المختلفة أمراً في غاية الصعوبة والاستحالة أحيانا، وفرض صيغ اجراءات أمنية لا مثيل لها في أسوأ الاحتلالات التي تعرضت لها دول أخرى، ولنأخذ ما يحصل في المدن الفلسطينية المحتلة، فإنها ستغدو أمام ما تشهده مدن السنة في العراق وسوريا وكأنها تعيش نزهة سياحية، فما هو الهدف من كل ذلك؟
سادسا: توفير مظلة الحماية الرسمية والدينية لعناصر المليشيات من أجل ارتكاب مختلف الجرائم المخلة بالشرف مثل تهريب المخدرات والزنا بالمحارم والسرقة والسطو على المال العام، ومن اللافت أن أكبر الجرائم التي يرتكبها أحد فصائل الحشد أو يرتكبها العنصر المليشياوي أو القريب من الحشد الشعبي التي تطلق عليها السلطة القائمة صفة الفصائل غير المنضوية تحت سلطة الحشد، مثل خزن الأسلحة في المناطق الآهلة بالسكان، أو إطلاق الصواريخ على المعسكرات والسفارات العاملة في العراق، فإنه لا يمكث في التوقيف إلا سويعات معدودات كما حصل مع عشرات الحالات المسجلة، أما جرائم المليشيات في محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار أثناء ما سُمي بعمليات التحرير من قتل جماعي وتغييب عشرات الآلاف والإهانات التي كانت عناصر الحشد تعرضها على مواقع التواصل الاجتماعي إمعانا في إهانة كرامة الإنسان وإثارة الرعب الجمعي، وتفكيك المصانع مثل مصفى بيجي العملاق ونقله إلى الوطن الأم وسرقة الممتلكات الخاصة والعامة، فكلها تمر لأنها ببساطة سياسة الأرض المحروقة التي اعتمدتها قيادات في سلطة الحكم الطائفي منذ 2003.
سابعا: التمييز الفاضح في توزيع أبواب ميزانية الدولة السنوية على المحافظات حسب نسب السكان منذ أن بدأت الميزانية السنوية تعتمد بعد الاحتلال، وكذلك التوظيف في أدنى الوظائف الحكومية التي لا تعتمد الكفاءة والمقدرة بل الانتماء، وكذلك القبول في الجامعات وفي المعاهد العسكرية الذي صار مستنقعا آسنا تسبح به مخلوقات لا تمت إلى الضبط العسكري بصلة، ولعل فضيحة حكومات ما بعد الاحتلال في تثبيت الدين والمذهب في قوائم قبول طلبة الكلية العسكرية ما يثير الاشمئزاز.
هذا السلوك المنحرف عن الضوابط المهنية والأخلاقية، يعزز القناعة بطائفية النظام المقيت بل ومجاهرته بها من دون رادع أخلاقي أو قانوني أو عرفي، وهذه التفرقة العنصرية التي كان العالم يتوقع أنها انتهت بنهاية نظام الفصل العنصري في جنوبي أفريقيا، ما تزال تفرض نفسها على الواقع العراقي لأن سلطته التي أقامها الأمريكيون وتلقفها الإيرانيون في تخادم مقدس بينهما حتى وإن أظهرا عداءً سياسيا وفكريا على كل المحاور تقف حائلا دون تسليط الضوء على انتهاكاتها لأبسط حقوق الإنسان في العيش في وطنه على أساس التكافؤ في الحقوق والواجبات، فهل شهد العراق منذ تأسيس الدولة الحديثة عام 1921 مثل هذا السلوك؟ أم أن النظم التي حكمت العراق قبل 2003 كانت كلها على خطأ؟
بالمقابل فإن السنّي إذا طالب بحق مضاع أو بالعودة إلى مدينته ودياره التي هجّر منها بقوة السلاح واُستلبت ممتلكاته فإنه مدان قبل أن يستكمل المطالبة بحقه، وإذا ضُبط ومعه مسدس شخصي، فإنه يزج بالسجن وتوجه له تهمة الإرهاب بموجب المادة 4 إرهاب، فالسني مذنب حتى يُثبت براءته بنفسه، فأين هو العدل والمساواة اللذين نص عليها الدستور الكاذب الذي مرره إسلاميو الحكم الأمريكي الإيراني سنة وشيعة وأكراد، وإن كان الحزب الإسلامي الذي يتحمل وزره كاملا لأنه تواطأ مع حليفه الشيعي على حساب السنّة بل وعلى حساب العراق.
ما ينطبق على سلوك المليشيات ينطبق على تصرفات شائنة تصدّر عن معممين شيعة وتعرض على فضائيات شيعية تخصصت بإثارة الفتن الطائفية، ويخرج أولئك المعممون عن حدود الأخلاق والقيم والشرف في حديثهم عن السنّة وتاريخهم الذي هو تاريخ الأمة، وتحظى تلك الفضائيات بالحماية القانونية لتفعل ما تشاء وتخرج عن كل القوانين والأعراف والقيم الاخلاقية، مما يعرّض السلم الأهلي لأفدح المخاطر، وبالمقابل فإن أي فضائية لا تلتزم بالمنهاج الشيعي، فإنها تتعرض لملاحقات قانونية بل ولهجمات مسلحة تشنها عليها المليشيات المسلحة في ظل حماية قانونية، ولعل ما حصل لقناة دجلة في آب 2020 يجسد ثنائية التعامل وازدواجية المعايير التي تعتمدها حكومة الاحتلال بسلطاتها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية مع أدواتها المسلحة.
الهدف النهائي هو تشييع السكان أو تخييرهم بين التهجير أو القتل أو الاعتقال بموجب المادة 4 إرهاب، ومع هذا المنهاج التعسفي، تنشط سلطة المعممين لضمان سكوت رجال الدين السُنّة على ما يحصل، أو تعريض حياتهم للخطر، وكذلك التحرك على الوجهاء وشيوخ العشائر للهدف نفسه، وللأسف وجدت ضالتها في بعض ذوي النفوس الضعيفة ورخيصي السعر في السوق الاجتماعي المزدحم بكل النماذج المعزولة دينيا وعشائريا بل وأخلاقيا، فراح بعضهم يبرر للسلطة الغاشمة سلوكها المنحرف وراح كثير من معممي السُنّة يغطون على جرائم المليشيات في الموصل والرمادي.
ولأن المليشيات كانت تنشر ما ترتكبه من فظائع ضد المعتقلين وطرق قتلهم بوحشية منقطعة النظير، فإن بعضاً من أولئك آثروا السلامة ودعة العيش على القيام بواجباتهم الأخلاقية والشرعية، وبذلك فقد فرطوا بأهم شروط العقد الاجتماعي بينهم وبين من يزعمون تمثيله.